على الرغم من الأجواء الاحتفالية الإسرائيلية التي صاحبت ذكرى إعلان الدولة في الخامس من مايو، وفقاً للتقويم العبري، فضلاً عن القيود والتجهيزات الأمنية الإسرائيلية في ظل توقع التصعيد المصاحب لتطورات معركة الأقصى وذكرى النكبة الفلسطينية، إلى جانب إغلاق الضفة الغربية ومعابر غزة وزيادة عدد القوات الإسرائيلية، على الرغم من كل هذه الأوضاع حدثت عملية فردية جديدة في مدينة "إلعاد" الواقعة شرق تل أبيب في اليوم نفسه بما طرح العديد من التساؤلات حول التحديات الأمنية وردود الفعل الإسرائيلية.
كما طرحت العملية تساؤلات علنية في الداخل الإسرائيلي حول قدرة الائتلاف الحكومي برئاسة نفتالي بينيت على البقاء، والردود المحتملة من قبل بينيت من أجل تحقيق نصر في مواجهة العمليات الفلسطينية الفردية التي حدثت خلال العام الجاري (2022)، والانعكاسات الممكنة في ظل المطالبة الإسرائيلية بالرد عبر شن حرب جديدة على قطاع غزة واستهداف قادة الفصائل الفلسطينية، وخاصة يحيى السنوار، رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة، وصالح العاروري رئيس الحركة في الضفة الغربية.
وزاد من التحديات الأمنية التي كان على إسرائيل التعامل معها في الساعات الأولى بعد العملية قدرة المنفذين على الوصول إلى موقع تنفيذ العملية والهروب بعد التسبب في قتل وإصابة عدة مستوطنين عبر استخدام "بلطة" وسلاح ناري رغم كل القيود الأمنية، واستمرار عملية البحث عنهم حتى إلقاء القبض على المنفذين المحتملين في الثامن من مايو الجاري بعد أكثر من 60 ساعة من المطاردة وعلى مسافة غير بعيدة من موقع العملية بكل ما تثيره من تحديات أمنية. وظهر واضحاً ارتفاع صوت اليمين الإسرائيلي المتطرف وسط حضور عضو الكنيست إيتمار بن غفير، والهتافات التي حرصت على تذكير بينيت من موقع العملية بما تعرض له إسحق رابين، في إشارة إلى اغتيال رابين في نوفمبر من عام 1995بعد توقيع اتفاقيات السلام مع الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات. بالإضافة إلى انتقاد الائتلاف الحكومي والتعامل مع التنوع داخله بوصفه نقطة الضعف التي تقيد من قدرة الحكومة على الرد، مع حديث مصادر مقربة من بينيت عن تزايد فرص سقوط الائتلاف، واحتمال حدوث ذلك في غضون شهر أو أقل من عملية "إلعاد"، وهي التصورات التي تتوقف بدورها على التطورات التالية للعملية، وطريقة التعامل مع التحديات التي أفرزتها، وما يترتب عليها من تطورات ما بين التصعيد بصوره والتهدئة بدرجاتها.
ووسط كل ما يحيط بالمشهد من تعقيدات ساهمت عملية "إلعاد" والسياق الذي أحاط بها، وخاصة مفارقة عيد الاستقلال الإسرائيلي والنكبة الفلسطينية، في طرح قضايا العودة وسط مطالبة البعض داخل فلسطين بعدم استخدام الاسم الإسرائيلي للمنطقة التي وقعت فيها العملية واستخدام "المزيرعة" بوصفها اسم القرية الفلسطينية المُهجَّر أهلها إلى المخيمات. ولم يقف الجدل عند حدود المسميات المستخدمة، والقدرة على فرض التسمية الفلسطينية في وقت يستخدم الإعلام الفلسطيني نفسه الأسماء الإسرائيلية، وامتد الجدل إلى أسباب العملية والتي تتجاوز في أهميتها عملية "إلعاد" إلى غيرها من العمليات، كما تتجاوز لحظة حدوث العملية إلى التعامل مع الأسباب بطرق حقيقية.
وفي حين تعاملت الفصائل الفلسطينية مع العملية بوصفها جزءاً من الرد الفلسطيني على التصعيد الإسرائيلي في المسجد الأقصى بصفة خاصة، واستمرار خيار المقاومة في مواجهة السياسات الإسرائيلية بصفة عامة، تعاملت إسرائيل مع العملية بوصفها نتاجاً لما أطلق عليه خطاب التحريض ضدها وخاصة خلال شهر رمضان. واتسق التفسير الإسرائيلي مع الحديث الرسمي عن عدم تغيير السياسات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، والربط بين اقتحام الجنود للمسجد والحديث عن وجود عناصر فلسطينية تستخدم العنف وتعيق المسلمين عن أداء شعائرهم الدينية. وفي قلب حديث التحريض وضع خطاب السنوار بمناسبة يوم القدس العالمي، الذي يتم الاحتفال به في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، الموافق 29 أبريل الماضي، على قمة أسباب العملية، ووضع السنوار على قائمة بنك الأهداف الإسرائيلية سواء في حرب جديدة ضد القطاع أو بشكل منفصل.
العمليات الفردية الفلسطينية.. تحديات التنفيذ والمواجهة
يطلق على تلك النوعية من العمليات اسم العمليات الفدائية فلسطينياً والإرهابية إسرائيلياً، ومع اختلاف المعنى الذي تحمله تلك التسميات، واتساقها مع الإطار الذي ترتبط به، تظل طبيعة تلك العمليات واحدة، والتحديات التي تفرضها واضحة، وصعوبة المواجهة مشتركة مع غيرها من العمليات الفردية. ومن أجل التجاوز عن الجدل الذي يحيط بالعديد من التسميات التي تستخدم للإشارة إلى هذا النوع من العملية، في سياق المشهد الفلسطيني- الإسرائيلي وخارجه، مثل مفهوم الذئاب المنفردة، يتم استخدام مصطلح العمليات الفردية للإشارة إلى هذا النوع من العمليات. وتتميز تلك العمليات بقيام فرد واحد أو عدد محدود بتنفيذها. ويتم تنفيذ العمليات بشكل فردي لا يرتبط عادة بتنظيمات، أو فصائل في الحالة الفلسطينية. وفي حالة ارتباط المنفذ أو المنفذين بتنظيمات أو فصائل فلسطينية، يتم التخطيط والتنفيذ بشكل منفصل وبعيداً عن تلك التنظيمات والفصائل.
وفي ظل الطبيعة الفردية للتخطيط والتنفيد، وتنوع الأسلحة المستخدمة، يصعب الكشف عن تلك العمليات قبل حدوثها، ويظل المنفذ خارج دائرة الشك والرصد والمراقبة إلى درجة كبيرة، وتزيد التحديات مع عدم وجود شكوك أمنية سابقة تحيط بالمنفذ، أو عدم وجود انتماء مع الفصائل والتنسيق مع عناصرها. ورغم حدوث تجاوزات سمحت لعناصر تم الربط بينها وبين تنظيم "داعش" بتنفيذ عمليات فردية في إسرائيل، مثل عملية الخضيرة وعملية بئر السبع، وتبني حماس المسئولية عن عملية سلفيت (أرئيل)، تظل عملية التخطيط والتنفيذ للعمليات الفردية في نطاق ضيق مما يصعب الربط بشكل مسبق بين المنفذ والعملية. ويتضح هذا في عملية بئر السبع التي اعتقل منفذها، محمد أبو القيعان، ووضع في السجن لمدة أربع سنوات بسبب تشكيل خلية لتنظيم "داعش" بغرض السفر إلى سوريا، وبعد العملية أكدت تقارير المخابرات الإسرائيلية أنها لم تلاحظ تغييراً في موقفه في الشهور السابقة على تنفيذ العملية، بما يشير إلى الصعوبات المتعلقة بالتعرف على تفاصيل تلك العمليات.
كما يؤدي كل من تنوع السلاح المستخدم وطبيعة وأماكن تواجد العناصر المستهدفة إلى توسيع نطاق العمليات، ومعها صعوبة الرصد والمكافحة الأمنية الاستباقية. وفي هذا السياق، تنوعت الأسلحة المستخدمة فلسطينياً وشملت أدوات مثل السكاكين في عمليات الطعن، والسيارات في عمليات الدهس، والأسلحة النارية، إلى جانب البلطة التي استخدمت في عملية إلعاد التي قام بها منفذان استخدم أحدهما بلطة وحمل الآخر سلاحاً نارياً. ويؤدي تنوع الأسلحة إلى تحول كل فلسطيني إلى متهم محتمل من وجهة نظر إسرائيل، وهو الأمر الذي يسهل معه تصعيد العنف ضد الفلسطينيين بعد تلك العمليات كما حدث بعد عملية "إلعاد" حيث تم استهداف فلسطينيين وسيارات فلسطينية من قبل المستوطنين في عدة مواقع في الضفة الغربية.
بدورهم، يتنوع المنفذون ما بين عناصر من عرب الداخل والضفة الغربية وهو الأمر الذي يوسع دائرة المنفذين المحتملين ويعمق إشكاليات الداخل الإسرائيلي وواقع فلسطينيى 48، ويزيد من التعقد استهداف المستوطنين والجنود عبر تلك العمليات، ومع انتشار تلك العناصر بين المستوطنات القائمة والبؤر الاستيطانية ونقاط التفتيش وغيرها، تتنوع مناطق الاستهداف. ومن خلال تلك العوامل، يتوقف اختيار السلاح والموقع على المنفذ أو المنفذين، وهو ما يرتبط أحياناً بتنوع الأسلحة المستخدمة، حيث تبدأ العملية بوصفها عملية دهس أو طعن قبل أن تتحول إلى عملية إطلاق نار بعد الحصول على سلاح من الجنود المستهدفين.
وتعقد التفاصيل السابقة مشهد الرصد والمكافحة الأمنية، ولهذا يصعب أن يساهم الرد العسكري والأمني، بما فيه استهداف قطاع غزة باسم الرد على تحريض السنوار، أو استهداف جنين على أساس الشك في أن منفذي عملية "إلعاد" من المدينة، في مواجهة تلك العمليات. كما تؤدي الردود الأمنية والعقابية في زيادة الغضب وفرص التصعيد ومنها سياسة هدم منازل المنفذين أو المنفذين المحتملين للعمليات، والتي تؤدي للاشتباك مع عائلات المنفذ والمجتمع المحيط كما حدث في مخيم جنين بعد عملية تل أبيب التي قام بها رعد حازم. كما تم الربط بين عملية تل أبيب والتصعيد السابق عليها في مخيم جنين والذي تسبب في اغتيال مجموعة من عناصر حركة الجهاد الإسلامي في المخيم، واعتبرت العملية رداً على التصعيد في المخيم رغم عدم ارتباط منفذ عملية تل أبيب بالفصائل، وفقاً للتقارير الأمنية الإسرائيلية.
ورغم أن العمليات الفردية الفلسطينية التي شهدها العام الجاري (2022) في إسرائيل ليست الأولى، وسبقتها موجات سابقة من عمليات الطعن أو الدهس، إلا أن العمليات التي حدثت خلال الفترة ما بين 22 مارس الفائت و6 مايو الجاري، والتي أسفرت عن سقوط 18 إسرائيلياً، بينهم شرطيين من العرب في إسرائيل وأوكرانيين، وعدد من الإصابات، تميزت على صعيد أماكن حدوث تلك العمليات، والسياق الأمني الذي أحاط بها، وقدرة المنفذ على الوصول إلى الموقع المستهدف، أو الوصول إلى والفرار من تلك المواقع المهمة، كما يظهر من جدول رقم (1). كما اعتبرت العمليات الأخيرة من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية "الأسوأ" منذ موجة عمليات الطعن والدهس التي بدأت في 2015 واستمرت لمدة وصلت إلى 6 أشهر تقريباً.
جدول رقم (1): العمليات الفردية التي نفذت بين مارس ومايو 2022
اسم العملية |
التاريخ |
الموقع |
عدد المنفذين |
السلاح المستخدم |
الضحايا |
الإصابات |
معلومات أخرى |
1. بئر السبع |
22 مارس |
بئر السبع |
1من فلسطينيي 48 كان يعمل مدرساً ويقيم في قرية حورة في النقب. |
دهس وطعن |
4 |
2 |
- اعتقل المنفذ بسبب نيته تشكيل خلية إرهابية تنضم إلى "داعش" في سوريا. - أكدت الشرطة الإسرائيلية عدم تسجيل تغيير في مواقف منفذ العملية خلال الشهور السابقة عليها. - اعتبرت العملية الحدث الأكثر دموية منذ عام 2016 حينما فتح فلسطيني النار في سوق بمدينة تل أبيب مما أدى إلى مقتل 4 وإصابة 16آخرين. - قتل المنفذ خلال العملية. - ارتبطت العملية بتصاعد خطاب المستوطنين ضد النقب والمطالبة بترحيل العرب منه. |
2. الخضيرة |
27 مارس |
مدينة الخضيرة- شمال تل أبيب |
2 من فلسطينيي 48 من سكان أم الفحم داخل الخط الأخضر. |
سلاح ناري |
2 |
12 |
- حدثت العملية في الذكرى العشرين لعملية تفجير فندق باراك التي قتل فيها 30 إسرائيلياً وأصيب نحو 140 آحرين، وهي العملية التى بدأت بعدها عملية الدرع الواقي في الضفة الغربية وانتهت بمحاصرة ياسر عرفات في مقر المقاطعة. - تم الربط بين المنفذين و"داعش". - كان أحد المنفذين تحت المراقبة بعد الإفراج عنه من السجون بعد محاولته الانضمام إلى "داعش" في سوريا. - أعلن تنظيم "داعش" مسئوليته عن العملية. - قتل المنفذان خلال العملية. |
3. بني براك |
29 مارس |
حي بني براك- تل أبيب |
1من قرية يعبد في محافظة جنين-شمال الضفة الغربية. |
سلاح ناري |
5 |
6 |
- بني براك واحدة من أكثر مناطق إسرائبل كثافة سكانية بالنسبة لليهود الأرثوذكس. - 2 من الضحايا مستوطنين قدما من أوكرانيا خلال الحرب الروسية- الأوكرانية. - قتل المنفذ خلال العملية. |
4. تل أبيب (ديزنغوف) |
7 أبريل |
شارع ديزنجوف وسط تل أبيب |
1من مخيم جنين. |
سلاح ناري |
3 |
9 |
- والد منفذ العملية أسير محرر وعقيد في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني. - تمثلت أهميتها في موقع العملية، وهروب المنفذ من موقع التنفيذ، وأنها حدثت بعد إعلان عملية "كاسر الأمواج" لمواجهة العمليات الفردية من قبل إسرائيل. - قتل المنفذ في حيفا بعد عملية بحث استمرت عدة ساعات، وبعد الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين. |
5. سلفيت (أرئيل) |
29 أبريل |
مدخل مستوطنة أرئيل قرب سلفيت- شمال غرب مدينة نابلس. |
2 |
سلاح ناري |
1 |
- |
- أعلنت إسرائيل في 30 أبريل 2022 إلقاء القبض على المنفذين ومصادرة أسلحتهم في محافظة سلفيت. - أعلنت كتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري لحركة حماس مسئوليتها عن العملية، واعتبرتها رداً على العدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى. |
6. إلعاد |
5مايو |
مدينة إلعاد- شرق تل أبيب |
2 يشتبه أنهما من مدينة جنين. |
بلطة وسلاح ناري |
3 |
4 |
- تم الربط إسرائيلياً بين العملية وخطاب السنوار في الاحتفال بيوم القدس العالمي، وسياسة العاروري، وتحول السنوار والعاروري إلى قائمة الأهداف المطلوبة. - استمرت عملية البحث وسط حديث متزايد عن تواجدهم في الداخل، ومخاوف من تنفيذ المزيد من العمليات أو الهروب من نطاق العملية. - أعلنت إسرائيل إلقاء القبض على المنفذين المحتملين في 8 مايو 2022 . - ربطت وصية وتصريحات أحد المنفذين المحتملين بين العملية والممارسات الإسرائيلية في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان. |
وتتوقف المواجهة بدورها على إدراك الأسباب العميقة لتلك العمليات، والتعامل مع السياق العام الذي يحيط بالمشهد الفلسطيني، وتجفيف الأسباب. وفي حين ربطت بعض الأصوات في إسرائيل بين العمليات التي حدثت في شهر مارس وحتى عملية تل أبيب والقيود التي فرضتها إسرائيل على تحركات الفلسطينيين قبيل شهر رمضان، تستمر الرؤية الإسرائيلية الرسمية في تغييب الأسباب الحقيقية، والتعامل مع التطورات من مدخل أمني وعسكري يؤدي إلى زيادة فرص التصعيد وتآكل المزيد من أراضي الدولة الفلسطينية المنتظرة، وزيادة التصعيد الناتج عن الاستيطان.
فرص التصعيد من السنوار إلى "إلعاد" والعكس
شهدت إسرائيل العديد من العمليات الفردية الفلسطينية خلال حكومة بينيت، ولهذا يمثل التركيز على حديث السنوار بصفة خاصة على هامش عملية "إلعاد"، وتحويله إلى هدف ملموس فرصة مهمة لحكومة بينيت لتحويل الاهتمام من مواجهة مفتوحة إلى مواجهة مجسدة في شخص وعنوان. كما تسمح تلك الرؤية بتحميل أطراف أخرى المسئولية عن الوضع الحالي وهو ما يفسر ما طرحه حزب يمينا، حزب بينت، على موقعه بسؤال "من الغبي الذي أفرج عن السنوار؟"، مستهدفاً رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الذي تمت صفقة تبادل الأسرى، المعروفة باسم صفقة شاليط أو صفقة وفاء الأحرار، والتي خرج خلالها السنوار، خلال وجوده في السلطة. وبهذا، فإن كانت موجة العمليات الفردية التي شهدتها إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، وتلك التي سبقتها بعد حرب غزة الرابعة في مايو من العام الفائت (2021)، قد تمت خلال حكومة بينيت، فإن تركيز الاهتمام عبر عملية "إلعاد" نحو السنوار ومن أخرجه من السجن يساهم في تحديد مادي للهدف، وتغيير للمسئولية.
ومع ما تمثله تلك الرؤية من تجسيد للمشكلة التي تواجه التعامل مع العمليات الفردية، وحقيقة غياب كيان مسئول يمكن استهدافه، أو مطالب يمكن التفاوض حولها، أو مكان يمكن توجيه ضربات مادية له من أجل استيعاب الغضب، وما تحمله من طبيعة استشهادية (انتحارية)، فإن تجسيد تلك التحديات في شخص السنوار يساهم في تحديد هدف مادي، كما يساهم في الربط بين حرية السنوار، المسئول وفقاً لتلك الرؤية الإسرائيلية عن خطاب التحريض وعملية "إلعاد"، وصفقة شاليط، وبالتالي التركيز على نتنياهو بوصفه المسئول عن أصل المشكلة المتمثلة في تحرير السنوار، واستدعاء نتنياهو إلى المشهد في صورة المهاجم للائتلاف القائم والمدافع عن سياساته. ورغم ما يحققه مثل هذا التوظيف من مكاسب محتملة في المدى القصير على الصعيد الإسرائيلي، فإن استخدام تلك الرؤية والتوظيف المتزايد لمسئولية السنوار حول الأوضاع الأمنية القائمة يترتب عليها مجموعة من التحديات الحقيقية في اللحظة والمستقبل.
ومن ضمن تلك التحديات محدودية فرص الربط بين السنوار أو حماس والعمليات الفردية، وما يمكن أن يترتب عليها من انعكاسات على المستوى الإسرائيلي. وفي هذا السياق، يمكن الربط بين عملية "إلعاد" ودعوة السنوار خلال احتفالات يوم القدس العالمي، وقبل أيام من العملية، إلى مواصلة الهجمات على الإسرائيليين بكافة الوسائل ومن بينها "الساطور... والبلطة والسكين". وإلى جانب تلك المحدودية التي تجعل "البلطة" هي الرابط المشترك بين حديث السنوار وعملية "إلعاد"، يمكن الربط أيضاً بين عملية "سلفيت" أو عملية مستوطنة "أرئيل" وحماس التي أعلنت مسئوليتها عن العملية. ولكن خارج عملية "سلفيت" وتوظيف حديث "البلطة" في عملية "إلعاد" لا توجد علاقة بين حماس أو غيرها من الفصائل والعمليات الفردية التي نفذت خلال تلك الفترة. وهو ما لا يوفر ردود واضحة على النقد الذي تتعرض له الحكومة والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية، كما لا تساهم في الرد على خطاب التقصير الأمني في كشف العمليات أو سرعة العثور على المنفذين.
من جانب آخر، يترتب على الربط الإسرائيلي بين العمليات وحماس، تحويل شخصيات محددة في حماس، داخل فلسطين وخارجها، إلى أولوية على قائمة بنك الأهداف الإسرائيلية، أولوية يصعب التعامل معها إسرائيلياً دون استهداف حقيقي قد لا يبدأ في صورة حرب، ولكن من شأنه أن يقود إليها. ووسط تزايد المطالبات باستهداف السنوار والعاروري، يتم الدفاع عن ضرورة استهداف غزة عبر حرب جديدة، وتبرير مثل تلك الحرب بوصفها ثمناً مطلوباً في مواجهة الخوف والقلق وحالة الاحباط والغضب الإسرائيلي. ولكن مثل هذا التصعيد المتمثل في حرب جديدة على غزة لن يساعد في تهدئة الأوضاع وتحقيق الأمن، وبالمقابل يمكن أن يساعد في تعظيم فرص التصعيد داخل وخارج غزة. ورغم تقليل حماس عبر تصريحات قادتها من استعداد إسرائيل لتنفيذ التهديدات القائلة باستهداف قادة الحركة، لا يوجد ما يضمن في عالم السياسة عدم تحول تلك التهديدات إلى واقع من أجل أهداف سياسية إسرائيلية ومكاسب سريعة.
ومع ما يمثله استهداف قادة الفصائل من خطوط حمراء للفصائل بشكل عام، وصعوبة فصل قيادة فصيل عن غيره من الفصائل، لا يؤدي استهداف الفصائل أو قطاع غزة إلى القضاء على العمليات الفردية، ولا يمنع من تزايد تلك العمليات في الضفة الغربية والمدن الإسرائيلية من أجل ربط الجبهات الداخلية، كما يتم الحديث بشكل متزايد من قبل الفصائل الفلسطينية عن الثمن الذي سيتم دفعه في حالة تنفيذ تلك التهديدات عبر الوسطاء وتصريحات أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري لحركة حماس. وبهذا، تطرح المواجهة العسكرية والأمنية في الضفة والقطاع بوابة أخرى للمزيد من التصعيد، والمشكلة أنه تصعيد مفتوح يصعب تصور نطاق تطوره.
وعلى صعيد الائتلاف، وفي مواجهة التحديات التي تواجه بينيت، تتحول حرب في غزة أو استهداف تلك الأسماء إلى وسيلة إسرائيلية لتحقيق التوافق المطلوب داخلياً، والخروج من مأزق سياسي قائم وقابل للتطور، وتجهيز بينيت للانتخابات في حالة سقوط الائتلاف. ولا يستبعد استخدام بينيت التهديدات التي توجه له، واستحضار رابين إلى الواجهة على هامش عملية "إلعاد"، في المشهد السياسي الإسرائيلي، واستخدام اللحظة لتقديم صورة اليميني القادر على البقاء في حكومة جديدة من خلال المزيد من التشدد في مواجهة حماس وغزة. ولكن يظل الثمن الذي يمكن أن يدفع من أجل حديث البلطة وخطاب التحريض الذي تتحدث عنه العديد من الأصوات في إسرائيل بمثابة المدخل الواضح إلى حرب غزة الخامسة صفرية الطابع، بكل ما يحيط بها من فرص تصعيد إقليمية. ولا تقل المخاطر الإقليمية في حالة قررت إسرائيل الرد عبر استهداف عناصر حماس خارج فلسطين، بوصفها أسباباً محتملة لدخول أطراف إقليمية أخرى، مثل حزب الله، على ساحة المواجهة وخاصة في حالة استهداف تلك العناصر في لبنان بشكل يعيد خلط الأوراق الإقليمية.
ولا يمكن استبعاد تأثير تزايد دور وحضور اليمين الإسرائيلي المتطرف في المشهد. وتزداد فرص التأثير السلبي الناتج من تصاعد تأثير اليمين المتطرف مع ما يتم من استهداف مستمر لكل ما هو فلسطيني، وتصاعد العمليات ضد الفلسطينيين بعد العمليات الفردية أو القيود التي تفرض على المستوطنين، كما حدث خلال مسيرة الأعلام أو محاولة تقديم قرابين في المسجد الأقصى، وإمكانية أن تؤدي عمليات المستوطنين إلى بدء جولة جديدة من التصعيد الأكثر عنفاً في الأقصى والقدس بما يعيد قواعد الاشتباك الداخلية وغزة إلى المواجهة. كما يستحضر الربط بين عملية "إلعاد" ومدينة جنين، فرص التصعيد ضد جنين ودخول مخيم جنين على خط المواجهة ومعها غزة. كما تساهم المساحات المتزايدة التي تتاح لليمين الإسرائيلي والمستوطنين في المشهد السياسي الإسرائيلي، ومطالبات بن غفير ببناء معبد يهودي داخل المسجد الأقصى في تسريع المواجهات واختبار قواعد الاشتباك الإقليمية التي أعلنت خلال الاحتفال بيوم القدس العالمي والقائلة بأن حرب في الأقصى هي حرب إقليمية تدخل فيها إيران وعناصر حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن على خط المواجهة باعتبار أن "القدس هي المحور".
تتزايد فرص التصعيد في المشهد الفلسطيني- الإسرائيلي، وتبدو الحرب قادمة ولكنها مؤجلة وفي انتظار الحدث الذي يمكن أن ينقل التصعيد من مستواه القائم، القابل للسيطرة، إلى مستوى آخر يصعب السيطرة عليه أو الحيلولة دون تطوره إلى مستوى الحرب. وفي حين تتوافر الشروط التي يمكن أن تنقل التصعيد من درجة إلى أخرى، يظل الرهان على قدرة السياسة على الوقوف في مواجهة فرص التصعيد، وإعادة قراءة أسباب التصعيد ومواجهتها، والحيلولة دون تحول قادة الفصائل وقطاع غزة إلى ثمن التماسك السياسي للحكومة الإسرائيلية أو الوقوف في مواجهة عودة نتنياهو للسلطة. وكما تعتمد تلك الأبعاد على قراءة الأطراف المعنية للواقع، وعدم تفضيل خيار الحرب في ظل الظروف الإقليمية والدولية القائمة، يعتمد احتواء مخاطر فرص التصعيد الراهنة على إعادة صياغة الخطاب المستخدم من الأطراف المعنية، وجهود الوساطة من أجل ضبط التفاعلات، والحفاظ على فرص الدولة الفلسطينية والتحرك نحو تحقيق منجزات حقيقية على الأرض للجانب الفلسطيني.
وبشكل عام، يمكن القول إنه بدون استبعاد التصعيد الأمني والعسكري يصعب استبعاد خيار الحرب، ومن خلال التصعيد عبر استهداف قادة حماس أو قطاع غزة، يصعب تجنب تفعيل قواعد الاشتباك الفلسطينية، ومن خلال تفعيل تلك القواعد واحتمال استمرار التصعيد في المسجد الأقصى يصعب تجنب تفعيل قواعد الاشتباك الإقليمية وهو السيناريو الذي لا يمكن تجنبه بدون تغييرات حقيقية في المشهد القائم وواقع القضية الفلسطينية وفرص التسوية السياسية وتقييد تحركات اليمين الإسرائيلي والمستوطنين، والسياسات الاستيطانية. يبدو الإقليم والعالم في مواجهة خيار قواعد سلام إقليمية أو قواعد حرب إقليمية، ويتقلص الهامش بسهولة وسط تنوع أماكن وفرص التصعيد، ويتوقف المسار على التدخل من أجل منع التصعيد والتعامل مع الأسباب التي تسمح باستمرار مسار التصعيد ومواجهته عبر المزيد من الرشادة والسياسة.