• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39

في إبريل الماضي (2022) كانت باكستان على موعد مع حلقة جديدة من حلقات مسلسلها السياسي في إسقاط حكومتها قبل إتمام فترة ولايتها الكاملة، إذ إنه على مدار خمسة وسبعين عاماً عمر الدولة الباكستانية منذ انفصالها عن الهند عام 1947، لم تتمكن حكومة باكستانية من استكمال مدتها الدستورية، باستثناء الحكومات المؤقتة، حيث واجهت السقوط تحت ضغط الاضطرابات السياسية الداخلية إما بحكم قضائي، وإما بانقلاب عسكري مثل حالة رئيس الوزراء الأسبق، ذو الفقار علي بوتو، الذي أزاحه الجنرال ضياء الحق، ثم أعدمه، أو بالجمع بين الأداتين القضائية والعسكرية، مثل حالة: نواز شريف، الذي كان رئيساً للوزراء ثلاث مرات، حيث أُزيح مرة بانقلاب قاده الجنرال برفيز مشرف، وفي المرة الأخيرة أُزيح بحكم قضائي نتيجة لشبهات فساد تضمنتها تسريبات “ويكيليكس”. لتأتي حالة إزاحة رئيس الوزراء الأخير والمقال، عمران خان، بعملية سياسية داخل البرلمان الباكستاني (الجمعية الوطنية)، إذ اتخذت الجمعية قراراً في جلستها المطولة في العاشر من إبريل الماضي (2022)، بالتصويت بأغلبية 174 عضواً على سحب الثقة منه، ليصبح بذلك أول رئيس وزراء يتم إزاحته بسحب الثقة في تاريخ البلاد، بعد إخفاق المحاولتين اللتين جرتا في السابق لحجب الثقة عن الحكومة، الأولى جرت عام 1989 في عهد حكومة بنظير بوتو الأولى (ديسمبر 1988- أغسطس 1990). والثانية في عام 2006 في عهد حكومة شوكت عزيز (أغسطس 2004- نوفمبر 2007)، إذ لم تستطع المعارضة في الحالتين تأمين الأغلبية اللازمة لتمرير مشروع قرار حجب الثقة. 

مع الأخذ في الحسبان أن ما جرى هذه المرة في سحب الثقة من حكومة خان لم ينفِ وجود دور لعبه القضاء في هذه الأزمة أيضاً، حينما حاول عمران خان إفشال عملية التصويت باللجوء إلى حل البرلمان قبيل بدء هذه العملية، وهو ما دفع المعارضة إلى اللجوء إلى المحكمة العليا التي اعتبرت الخطوات جميعها التي اُتخذت غير قانونية، وأمرت المجلس بعقد جلسة جديدة، والتصويت على سحب الثقة منه. لتترسخ القاعدة التي أضحت أشبه بعرف يميز الحياة السياسية الباكستانية متمثلاً في عدم إكمال أي حكومة لمدتها الدستورية، معطياً بذلك مؤشراً بأن باكستان على مدار ثلاثة أرباع القرن لم تشهد استقراراً سياسياً بالمعنى المتعارف عليه في دراسات النظم السياسية، بما يجعل من الأهمية بمكان دراسة نموذج الحكم الباكستاني كنموذج متفرد لحالة عدم الاستقرار السياسي لمدى طويل، بما يترك تأثيراً ليس في حياة المواطن الباكستاني وخطط التنمية فقط، وإنما في مستقبل الدولة التي يمكن وصف وضعها بأنها منذ نشأتها وهي تدور في حلقة سياسية مفرغة رغم أهميتها الجيواستراتيجية بموقعها الجغرافي ووزنها الإقليمي والدولي كونها الدولة الإسلامية النووية الوحيدة.

وعليه، تناقش هذه الورقة الأزمة السياسية الأخيرة التي تشهدها باكستان من حيث الوقوف على أسبابها وتداعياتها من ناحية، والتحديات التي تواجه الحكومة الجديدة من ناحية أخرى، وتأثيرات كل ذلك في مستقبل الدولة الباكستانية وتحالفاتها الإقليمية والدولية من ناحية ثالثة، وذلك كله من خلال ثلاثة محاور على النحو الآتي:

أولاً- الأزمة السياسية.. إخفاقات في الداخل وتوترات في الخارج:

ليس من المبالغة القول إن الأزمة السياسية في باكستان التي تراوح مكانها منذ استقلال الدولة، حملت في طياتها في كل مرة مبررات متباينة من جانب طرفي الأزمة، وهو ما ينطبق على الأزمة الأخيرة، إذ نجد رؤيتين في تفسير أسبابها:

الأولى، عبّـر عنها رئيس الوزراء المقال عمران خان في مقابلة أجرتها معه قناة “آي أر واي نيوز” في أواخر مارس الماضي بقوله إنه: “واضح الآن أن المؤامرة لها صلات خارجية وقدمنا احتجاجاً للسفارة الأمريكية”، معللاً ذلك بأن: “حكومته لديها برقية دبلوماسية تُظهر دليلاً على أن دولة أجنبية تتآمر بمساعدة مجموعات المعارضة لإسقاط حكومته بسبب سعيها لانتهاج سياسة خارجية مستقلة”، مستنداً في رؤيته إلى برقية دبلوماسية من السفير الباكستاني السابق لدى الولايات المتحدة أسد مجيد خان (قبل أن يترك هذا المنصب في 25 مارس ليتولى منصباً آخر في بروكسل)، عقب لقاء غير رسمي له مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب آسيا ووسطها، دونالد لو، عبّـر خلاله عن عدم رضاء الولايات المتحدة عن سياسات خان، وهو ما قُوبل برفض من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الاتهامات، إذ أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، للصحافيين أنه “لا صحة لهذه المزاعم.

 أما الرؤية الثانية عبّـرت عنها المعارضة بزعامة شهباز شريف الذي نجح في إزاحة خان من السلطة، وأرجع فيه أسباب الأزمة إلى الإخفاقات الداخلية لحكومة خان؛ اقتصادياً وسياسياً، حيث فشلت الحكومة في مواجهة المشكلات الاقتصادية العديدة التي تعانيها البلاد منذ سنوات، خاصة البطالة والتضخم وأزمة الطاقة، كما أخفقت في إدارة ملف علاقاتها مع شركائها في العمل السياسي داخل البرلمان.

ومن نافل القول إن التدقيق في مضمون الرؤيتين يجعلهما معاً أقرب إلى تفسير الأزمة السياسية المتجددة في باكستان، دون أن نُغفل دور المؤسسة العسكرية، الأمر الذي يمكن معه القول إن أسباب الأزمة وعوامل تجددها بشكل مستمر إنما تكمن في مجموعتين متداخلتين من العوامل على النحو الآتي:

الأولى، تتعلق بالداخل الباكستاني، وتشمل الصراعات السياسية والإخفاقات الاقتصادية والأزمات المعيشية، وهو ما تؤكده المؤشرات الآتية:

- صراعات النخب الحاكمة ودور المؤسسة العسكرية، إذ تمثل باكستان نموذجاً للحكم له سمات متفردة، فرغم أنها تتبنّـى نظاماً برلمانياً تتشكل فيه الحكومة من الحزب أو الائتلاف الحائز على الأغلبية داخل الجمعية الوطنية (البرلمان)، وفي حال فقدان هذه الأغلبية يكون مصير الحكومة السقوط، على غرار ما حدث في الأزمة السياسية الأخيرة مع تصدع الائتلاف الحاكم بقيادة حركة الإنصاف، وفقد حكومة خان الأغلبية البرلمانية، وتقدم المعارضة في 8 مارس 2022 بمشروع قرار سحب الثقة الذي تمكنت من إجرائه رغم محاولات خان الإفلات من هذا التصويت من خلال خطوة حل البرلمان التي اتخذها الرئيس الباكستاني بناء على طلب رئيس الحكومة قبيل التصويت على عملية سحب الثقة، وأوقفتها المحكمة العليا الباكستانية وأعادت عملية التصويت التي أخرجت عمران خان من السلطة وأدت إلى تولي رئيس المعارضة شهباز شريف الحكومة الجديدة في عملية تصويتية لم يزد عدد أصواتها على 174 صوتاً التي أسقطت حكومة خان. ولكن كما سبقت الإشارة إليه أن هذه هي الحالة الوحيدة التي تم فيها إسقاط الحكومة داخل أروقة البرلمان مع محاولة بعضهم التأكيد على أن ما تم يتفق وطبيعة النظام البرلماني في إسقاط الحكومات حينما تفقد الأغلبية. فإن الأمر ليس على هذه الصورة، إنما حقيقته وجوهره يكشفان عن أن ثمة دوراً مهماً تلعبه المؤسسة العسكرية الباكستانية في الحياة السياسية، صحيح أنها تنفي ذلك علانية بأنها لا علاقة لها بهذه الأزمة، مع التزامها بعدم التدخل في الشؤون السياسية، ولكن من الصحيح كذلك أنه من غير المقبول – من وجهة نظر المؤسسة العسكرية – أن تترك الأمور في باكستان تتجه نحو الفوضى دون التدخل بمنعها، أو على الأقل الحد من تأثيراتها والانزلاق إلى مزيد من الفوضى التي تهدد بنية الدولة ووجودها، يدلل على ذلك عديد المؤشرات التي كشفت عن مواقف سياسية للمؤسسة العسكرية في تباينها مع توجهات حكومة خان، كان من أبرزها ما يأتي:

- الخلاف الذي ظل مكتوماً بينهما بشأن تعيين رئيس الاستخبارات المحلية؛ فقد حاول خان تعيين الجنرال نديم أحمد أنجوم، محل الجنرال فايز حميد، بسبب تفضيل خان الإبقاء على الجنرال فايز حميد لبعض الوقت، لحين الانتهاء من الانتخابات المقررة عام 2023. كما سرت شائعات بأن خان كان يخطط لتعيين حميد قائداً للجيش عندما يحين موعد التجديد للجنرال قمر جاويد باجوا في نوفمبر 2022. إلا أن الأمر حُسم في النهاية بتعيين مرشح الجنرال باجوا، دون أن ينفي ذلك حدوث شرخ في العلاقة بين الجانبين استفادت منه المعارضة في حسم معركتها السياسية تحت قبة البرلمان ضد عمران خان.

- الخلاف بشأن الموقف من الهند، إذ تبنّـت المؤسسة العسكرية موقفاً معارضاً للتوجه الذي تبنّـاه عمران خان بشأن علاقات بلاده مع الهند الذي غلب عليه التوتر، في حين تفضل المؤسسة العسكرية مزيداً من تعميق الروابط الاقتصادية بين باكستان ومحيطها الإقليمي، بما في ذلك الهند، وعدم تدهور البيئة الأمنية الإقليمية، كشرط مهم لتعزيز فرص نمو الاقتصاد الباكستاني لمواجهة تحدياته المتزايدة بسبب تفشي جائحة “كوفيد – 19” والأزمة الأوكرانية-الروسية التي أعقبتها.

- الخلاف بشأن الحرب الروسية-الأوكرانية، الذي برز مع الهجوم الذي شنه عمران خان وانتقاده علناً الدبلوماسيين الغربيين في إسلام آباد حينما أرسلوا له رسالة مشتركة تطالبه بالتنديد بعدوان موسكو على كييف، فكان رده في خطاب متلفز أمام التجمعات العامة الكبيرة التي نظمها حزبه الحاكم بقوله: “لماذا ندين روسيا؟ هل نحن عبيدكم حتى نفعل ما تقولون؟”، مؤكداً على تبنّـي حكومته موقفاً محايداً من تلك الأزمة كما أشار إلى ذلك وزير خارجيته شاه محمود قريشي، أثناء كلمته في مؤتمر أمني دولي مُنظم في إسلام آباد، إذ أكد أن: “باكستان تتمسك بموقف مبدئي وحيادي في هذا الشأن.. ونعتقد أن الحل الدبلوماسي من خلال الحوار والمفاوضات أمر لا غنى عنه، وتجب متابعته على سبيل الأولوية”، رافضاً التشكيك أو الانتقاد للموقف الروسي، وهو ما يُعطي مؤشراً حاسماً على التقارب الباكستاني الحكومي مع التوجه الروسي، ذلك التقارب الذي كُشف عن تباينه مع موقف الجيش الباكستاني الذي عبّـر عنه قائده الجنرال قمر جاويد باجوا في حوار أمني دولي جرى في إسلام آباد، وذلك بقوله: “للأسف، الغزو الروسي لأوكرانيا مؤسف للغاية حيث قتل الآلاف من الناس، وأصبح الملايين لاجئين ودُمر نصف أوكرانيا… وأنه على الرغم من المخاوف الأمنية المشروعة لروسيا، لا يمكن التغاضي عن عدوانها على دولة أصغر”، داعياً إلى “دعم حوار عاجل بين الأطراف جميعها لحل النزاع”. بل مما يلفت الانتباه في تصريحات قائد الجيش أنها كانت أكثر صراحة في التعبير عن تأييد الموقف الغربي بصفة عامة والأمريكي على وجه الخصوص، إذ ذكر أن “بلاده تريد توسيع العلاقات الثنائية… نشترك في تاريخ طويل من العلاقات الممتازة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تظل أكبر سوق تصدير لنا… وبالمثل، فإن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والخليج وجنوب شرق آسيا واليابان عوامل حيوية لتنميتنا الوطنية وتقدمنا أيضاً”.

ومن الجدير بالإشارة في هذا الخصوص، أن بعضهم خلص إلى وصف النظام السياسي الباكستاني بأنه نظام هجين، يغلب عليه نفوذ المؤسسة العسكرية في تحريك الأوضاع الداخلية بما يتفق وتوجهات الدولة الباكستانية في محيطها الإقليمي وتحالفاتها الدولية، وهو ما يمثل واحداً من أبرز التحديات التي تواجه الحكومات الباكستانية إذا ما اصطدمت مع توجهات المؤسسة العسكرية.

- مكافحة الفساد شعار في إدارة معركة الصراع السياسي، رفعت جميع الحكومات الباكستانية شعارات جذابة لمواجهة الفساد واجتثاث جذوره ومحاكمة مرتكبيه. صحيح أن ثمة خطوات اتخذتها بعض الحكومات في هذا الشأن، إلا أنها ظلت تحمل أبعاداً سياسية بحيث أضحت قضية مكافحة الفساد إحدى آليات إدارة الصراع بين القوى السياسية وتصفية المعارضين، يؤكد ذلك أن رئيس الحكومة المقال عمران خان كان قد قدم ضمن برنامجه الانتخابي عام 2018 وعوداً سامية للقضاء على الفساد في 90 يوماً، وذلك بقوله: “سأحارب الفاسدين. إما أن ينتصر البلد وإما أن ينتصر الفاسدون”. إلا أنه واجه منذ ما يزيد على عام احتجاجات شعبية نجحت المعارضة في تحريكها ضد حكومته رافعة شعار محاربة الفساد، متناسين في هذا أن شهباز شريف الذي يتولى رئاسة حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية هو الشقيق الأصغر لنواز شريف، الرئيس السابق للحزب، رئيس الحكومة الأسبق، الذي تم سجنه في قضايا فساد. وعليه يمكن القول إن الفساد أضحى إحدى آليات حماية النظم الحاكمة حينما يتم توظيفه من جانب كل طرف سياسي ضد خصومه في معركة كسر العظام المستمرة في باكستان منذ سبعة عقود ونصف العقد.

- سوء إدارة الاقتصاد الوطني، في خضم الصراعات المستمرة بين النخبة السياسية الباكستانية، ومع تفشي الفساد بمختلف صوره وآلياته، وغياب الرؤية القادرة على التعامل مع أزمات الواقع اليومي لحياة المواطنين، يواجه الاقتصاد الباكستاني أزمات وتحديات هيكلية تحتاج إلى معالجات جذرية، وليس مجرد مسكنات لحظية على غرار ما طرحه رئيس الوزراء المقال حينما طرح رؤية لتحسين مستويات معيشة المواطنين في الريف أُطلق عليها “بيضات خان” في إشارة إلى خطته التي تم الاستهزاء بها على نطاق واسع وتتمحور حول تشجيع النساء الريفيات الفقيرات على تربية الدجاج لمواجهة احتياجاتهم المعيشية، بل لم يتمكن كذلك من تنفيذ وعوده المتعلقة ببناء خمسة ملايين وحدة سكنية عامة، وإخفاقه في الحصول على قروض لمشروعات البنية التحتية التي تمس حياة المواطنين.

- أزمة الطاقة.. معوق للتنمية ودافع للاضطرابات، إذ إنه على مدار سبعة عقود ونصف العقد واجهت باكستان أزمة استيراد الطاقة لتلبية احتياجاتها الصناعية والخدمية والمنزلية، وهو ما أدى إلى استمرار زيادة عجز موازنتها العامة بما دفع الدولة لمحاولة معالجة ذلك عبر تقليل الدعم المقدم إلى قطاع الطاقة، وهو ما صاحبه ارتفاعات في المستوى العام للأسعار، بما أثر بدوره في أحوال المواطنين ودفعهم للنزول إلى الشارع رفضاً للسياسات الحكومية في هذا الخصوص. وإذا كان صحيحاً أن كل حكومة حاولت أن تجد حلاً عملياً لهذه الأزمة المتجددة، على غرار ما أقدمت عليه الحكومة التي سبقت عمران خان والتي كان يرأسها نواز شريف، حيث اتخذت قراراً بتقليص الاعتماد على الغاز المستورد وزيت الوقود من خلال توفير أسطول من المحطات النووية وفحم الليغنيت، فإنه من الصحيح كذلك أن حكومة عمران خان تبنّـت نهجاً متناقضاً من خلال إلغاء عدد من مولدات الفحم، في مقابل التعهد بمضاعفة إنتاج الطاقة الكهرومائية لزيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة في البلاد إلى 60% من مزيج توليد الطاقة، إلا أنه بدوره أخفق في إيجاد حل لمعضلة الاحتياجات المتزايدة من الطاقة.

الثانية، تتعلق بالبيئة الإقليمية والدولية، إذ يشهد المحيط الإقليمي لباكستان أزمات متجددة وصراعات مستمرة، كما تشهد تفاعلاتها الدولية تشابكات متعددة، وهو ما يمكن أن نوجزه في ثلاثة عوامل مثلت مؤخراً ضغطاً على الأوضاع الداخلية في باكستان، وهي:

- التوترات المتجددة على الحدود الباكستانية – الهندية، إذ غالباً ما يشهد خط المراقبة البالغ طوله 740 كيلومتراً والفاصل بين شطري كشمير (آزاد كشمير الباكستانية، وجامو وكشمير الهندية) قصفاً وتبادلاً لإطلاق النار في ظل تبادل الاتهامات والمسؤولية عن الانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 2003. فعلى سبيل المثال اتهمت الهند باكستان بارتكاب خمسة آلاف انتهاك لوقف إطلاق النار وبقتل نحو عشرين مدنياً في عام 2020. في المقابل، اتهمت إسلام آباد نيودلهي بارتكاب أكثر من ثلاثة آلاف انتهاك للاتفاق وبقتل 29 مدنياً وجرح 250 آخرين. صحيح أن الطرفين توصلا في نهاية فبراير 2021 إلى اتفاق تعهد فيه جيشا البلدين بوضع حد للانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار عند الحدود المتنازع عليها، إلا أن التوتر والترقب لا يزال يخيم على حدودهما.

- الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان وعودة حركة طالبان إلى السلطة، صحيح أن الحركة كانت حريصة على تأكيد أنها لن تسمح باستغلال أراضيها لتهديد أمن الجوار وخاصة باكستان، إلا أن هذه التصريحات لم تجد لها صدى على أرض الواقع، إذ كشفت المتابعات اليومية عن خروقات مستمرة من جانب جماعة طالبان باكستان، التي تتخذ من الأراضي الأفغانية مقراً لها، وأنها تمارس تهديدها ضد الدولة الباكستانية من خلال استعادة ممارسة أنشطتها وخروقها للحدود الدولية التي تفصل بين الأراضي الباكستانية والأفغانية البالغ طولها 2600 كيلومتر، وتحديداً خط “دوراند” الحدودي الذي يفصل بين القبائل والعشائر والأسر من الأصل العرقي نفسه (البشتون)، وهو الخط الذي لم تقبل بشرعيته أي حكومة أفغانية منذ حكومة المجاهدين في تسعينيات القرن الماضي، إذ يرفض الأفغانيون شرعية الحدود الدولية التي رسمتها من وجهة نظرهم الحكومة الاستعمارية البريطانية في القرن التاسع عشر، في حين تؤكد الحكومة الباكستانية دوماً على أن هذا الخط الحدودي إنما هو خط حدودي مقدس، ولا يمكن السماح باختراقه على حد ما جاء على لسان المتحدث باسم الجيش الباكستاني في رده على حادثة محاولة حكومة طالبان إزالة السياج من الحدود الدولية التي شيدها جنود الجيش الباكستاني في السنوات الخمس الماضية، إذ أكد أن “دماء الشهداء وصلت إلى أساس هذا السياج، وسوف يتم إتمامها”.

- الحرب الروسية – الأوكرانية وتأثيراتها سواء اقتصادياً بشأن الاحتياجات اليومية التي شهدت ارتفاعاً في أسعارها ضاعف من الأزمات المعيشية للمواطنين بشكل مفاجئ وبنسب مرتفعة، أو سياسياً بسبب حالة الاصطفاف التي فُرضت على الجميع بما فيها الموقف الباكستاني الذي كان أكثر قرباً من الموقف الروسي – الصيني، وهو ما عبّـر عنه رئيس الوزراء المقال عمران خان، سواء في زيارته إلى موسكو في 24 فبراير 2022، التي تزامنت مع يوم بدء العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، أو في امتناع باكستان عن التصويت على مشروع قرار “العدوان على أوكرانيا” داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس 2022، وهو ما ترك تأثيره في الموقف الأمريكي من الحكومة الباكستانية الذي اعتبرته موقفاً معارضاً لتوجهاتها ومصالحها، ويحتاج إلى إعادة ضبط لهذه التوجهات بعيداً عن كل من الصين وروسيا، من خلال حكومة جديدة تتوافق مع المصالح الأمريكية بهذا الشأن، خاصة مع الموقف الأخير الذي كشف عنه أحد مساعدي خان برفضه السماح لإنشاء قاعدة للطائرات من دون طيار (الدرون) الأمريكية على الأراضي الباكستانية.

ثانياً – الحكومة الباكستانية الجديدة.. التحديات لا تزال مستمرة:

مع حصول رئيس المعارضة شهباز شريف على ثقة البرلمان في عملية تصويتية لم تشهد اختلافاً في عدد الأصوات التي أسقطت حكومة عمران خان، حيث حصد عدد الأصوات نفسه (174 صوتاً) من أصل (342 صوتاً)، قدم رئيس الحكومة الجديدة الذي خبر النجاح في إدارة المعركة السياسية للوصول إلى سدة الحكم، مجموعة من التعهدات بالعمل على تحسين الاقتصاد من أجل راحة المواطنين وعدم الانتقام من الخصوم السياسيين، ليؤكد في ذلك على التعهدات ذاتها التي يرفعها كل من يتولى السلطة، مع التباين في صيغة الخطابات وإن ظل مضمونها واحداً. إذ إنه من السهولة بمكان أن يرفع رئيس الحكومة شعارات طموحة تخاطب احتياجات المواطن؛ معيشياً وأمنياً وصحياً وتعليمياً، إلا أن من الصعوبة بمكان أن ينجح في تحقيق هذه الطموحات حينما تتجاوز مستوى الإمكانات المتاحة وحجم التحديات الماثلة، وهو ما ينطبق على الواقع الباكستاني على المستويين الداخلي والخارجي، إذ يحمل هذا الواقع في طياته مخاطر عدة تواجه أي حكومة تتولى المسؤولية، وهو ما يمكن رصده على النحو الآتي:

- على صعيد الداخل الباكستاني، تواجه الحكومة الجديدة تحديات عدة على المستويات كافة؛ اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وهو ما يتطلب منها التعامل مع هذه التحديات برؤى مغايرة وبسياسات مختلفة وبأدوات جديدة. فعلى المستوى الاقتصادي، تواجه الحكومة الجديدة اقتصاداً متراجعاً بسبب تداعيات جائحة “كوفيد – 19” التي لا تزال مستمرة، وقد تفاقمت بصورة أكبر مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية التي أضافت أعباءً جديدة على حكومات مختلف الدول، وقد عبّـر عن تراجع الاقتصاد الباكستاني عدد من المؤشرات، منها: ارتفاع حجم التضخم من 5.1% إلى 12.7%. وارتفاع معدل البطالة، وتزايد أعباء الديون الخارجية التي وصلت إلى 130 مليار دولار وتشكل 43% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب تراجع قيمة العملة الوطنية التي وصلت إلى 190 روبية مقابل الدولار أي فقدانها قرابة ثلث قيمتها منذ تولي رئيس الوزراء المقال عمران خان، لتسود حالة من الركود وعدم الاستقرار الاقتصادي على مدار السنوات الثلاث الماضية بما خلق أزمة اقتصادية تواجهها الحكومة الجديدة، كما أشار إلى ذلك صراحة أحد مساعدي رئيس الوزراء الباكستاني الجديد، مفتاح إسماعيل، بقوله: “إن الحكومة الجديدة تواجه مهمة شاقة، تتمثل في إدارة اقتصاد متعثر يعاني عجزاً هائلاً.. لقد ترك عمران خان حالة من الفوضى”. ويُشار في هذا الخصوص إلى تقرير صادر عن وكالة فيتش، ورد فيه أن التصنيف الائتماني لباكستان عند B- وضع مستقر في فبراير الماضي إلا أنه من المتوقع أن تزيد فجوة عجز الحساب الجاري أكثر بسبب ارتفاع أسعار النفط التي تشكل نسبة 20% من واردات باكستان. وأن يصل عجز الحساب الجاري إلى نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي (أي عند 18.5 مليار دولار) للسنة المالية المنتهية في يونيو المقبل 2022، بزيادة نقطة مئوية عن التقدير السابق في فبراير الماضي عند عجز حساب جارٍ بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي.

أما على المستوى السياسي، تواجه الحكومة الجديدة أزمة سياسية ذات بُعدين:

البُعد الأول، داخل البرلمان تتعلق بموقف أعضاء حزب حركة الإنصاف التي ينتمي إليها عمران خان، حيث تقدموا باستقالاتهم رفضاً لعملية سحب الثقة، فقد أعلن شاه محمود قريشي، وزير الخارجية السابق، نائب رئيس الحزب، في خطاب قبل التصويت لانتخاب رئيس الوزراء الجديد: “نعلن أننا جميعاً نستقيل”، ويذكر أن أعضاء هذا الحزب يشغلون 155 مقعداً في المجلس المكون من 342 مقعداً. ولا شك أن هذه الاستقالة تعنى أن مقاعد هؤلاء الأعضاء أصبحت شاغرة، ليضع الحكومة الجديدة أمام مسارين: إما إجراء انتخابات تكميلية لمّا يقارب من مئة انتخاب فرعي خلال شهرين أو الاتجاه إلى الدعوة لانتخابات مبكرة. ولكل خيار تحديات لمستقبل الحكومة الجديدة وكيفية قيامها بمهامها، وهو ما يحمل في طياته أزمة سياسية من المنتظر تجددها بين الحين والآخر، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان أن الحكومة الجديدة لا تتسم بالتماسك، إذ تضم تيارات يغلب على علاقاتها التاريخية التنافس والصراع، خاصة الحزبين الرئيسيين “الرابطة الإسلامية – جناح نواز”، و”الشعب” بقيادة بيلاوال بوتو زرداري. وأن التوافق بينهما لم يكن إلا توافقاً مؤقتاً لتحقيق هدف محدد وهو إسقاط حكومة عمران خان، وأن هذا التوافق لن يمتد إلى المستقبل في ظل طموحات كل منهما في السعي للعودة إلى الحكم بأغلبية منفردة أو بالائتلاف مع بعض الأحزاب الصغيرة، بمعنى أكثر وضوحاً العودة إلى طبيعة الأوضاع ما قبل حكومة خان، وهو نظام هيمنة الحزبين (الرابطة والشعب) على الحياة السياسية في باكستان، وهو ما عبّـر عنه تصريح رئيس حزب الشعب “بيلاوال زرداري” عقب إزاحة عمران خان بقوله: “أهلاً بباكستان القديمة”.

أما البعد الثاني في الأزمة، فهو يتمثل في الشارع الباكستاني الذي شهد خروجاً لأنصار عمران خان في تظاهرات تعلن رفضها لما جرى في البرلمان، إذ بعد أن أخفق خان في منع عملية التصويت ضده دعا أنصاره إلى الخروج في مسيرات سلمية تنديداً بما حدث، الأمر الذي يمثل عبئاً على الحكومة الجديدة سواء في كيفية التعامل مع هذه التظاهرات التي تعوق الحياة اليومية من ناحية، وإمكانية اللجوء إلى العنف من ناحية أخرى. وهو ما قد يدفع الجيش إلى التدخل لمنع انزلاق البلاد إلى الفوضى، بما يقوض الحكومة الجديدة التي قد تخفق في المعالجة بشكل سياسي بعيداً عن لغة العنف.

وعلى المستوى الأمني، تواجه الحكومة الجديدة أوضاعاً تتعلق بتزايد خطر التمرد من جانب الحركات المتشددة والإرهابية، وهو ما يضعها في مواجهة مستمرة مع هذه التنظيمات خاصة تلك الموجودة على الحدود الباكستانية – الأفغانية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تفرز هذه المواجهة تأثيرات عديدة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بما تحتاجه من البحث عن معالجات لأزمات معيشية تتفاقم يوماً بعد يوم، وتترك تأثيراتها في الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي.

- على صعيد الخارج الإقليمي والدولي، لن تختلف التحديات الإقليمية والدولية التي واجهت الحكومة المقالة برئاسة عمران خان عن تلك التي ستواجهها الحكومة الجديدة، بل ربما تمثل إطالة أمد الأزمة الأوكرانية – الروسية حملاً متزايداً على الحكومة الجديدة التي عليها أن تحاول إدارة سياسة بلادها الخارجية في ظل حالة من الارتباك العالمي الذى ينعكس بلا شك على محيطها الإقليمي وأوضاعها الداخلية، إذ على الحكومة الجديدة أن تتبنّـى سياسة خارجية قادرة على التعامل مع تحديات موقعها الجغرافي، وتشابكات علاقتها السياسية والعسكرية (الولايات المتحدة وروسيا نموذجاً) ومصالحها الاقتصادية (الصين نموذجاً) وصراعاتها العسكرية (الهند نموذجاً)، وتهديداتها الأمنية المباشرة (أفغانستان نموذجاً).

ثالثاً- باكستان والحاجة إلى مقاربة جديدة داخلياً وخارجياً:

كشف الواقع الراهن عن أن ما تواجهه الحكومة الجديدة من تحديات عدة؛ داخلياً وخارجياً، يجعل مستقبلها مرهوناً بقدرتها على القراءة الدقيقة لهذه التحديات وانعكاساتها أولاً، وبقدرتها على وضع رؤى وتبنّي سياسات واتخاذ إجراءات كفيلة بمواجهة هذه التحديات ومعالجة انعكاساتها ثانياً، وإلا أصبح مصيرها أقرب إلى مصير الحكومات التي سبقتها، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان أن الخيارات المطروحة أمامها فيما يتعلق بالعوامل والأسباب التي أدت إلى إسقاط الحكومات السابقة لا تزال قائمة، وأن الحلول المطروحة أقرب إلى المسكنات المؤقتة بعيداً عن الحلول الجذرية.

وعليه، أضحى على الحكومة الجديدة أن تعيد ترتيب أوراقها من خلال البحث عن مقاربة مغايرة لكيفية إدارة ملفاتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية والخارجية. على أن تأخذ هذه المقاربة في حسبانها ملاحظات عدة جديرة بالانتباه داخلياً وخارجياً، أبرزها ما يأتي:

- على الصعيد الداخلي، من الأهمية بمكان أن تسرع الحكومة الجديدة بالعمل على ثلاثة مسارات:

المسار الأول، تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن الذي خرج إلى الشارع رافعاً معاناته ومطالباً بإسقاط الحكومة السابقة. صحيح أن رئيس الوزراء الجديد اتخذ أول قراراته برفع الحد الأدنى للأجور لموظفي الحكومة إلى 25000 روبية، اعتباراً من 1 إبريل، إلا أنه من المؤكد كذلك أن هذه الخطوة التي تحمل في ظاهرها بُعداً إيجابياً تضمر في مضمونها أبعاداً سلبية سواء تعلق الأمر بأوضاع الباكستانيين من غير العاملين في الحكومة، إذ تظل دخولهم ثابتة دون زيادة في حين أن هذا الارتفاع الحكومي قد يدفع المستوى العام للأسعار إلى الارتفاع، وهو ما يلقي بمزيد من الأعباء على المواطنين الباكستانيين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تمثل هذه الزيادة عبئاً إضافياً على الموازنة العامة الباكستانية التي تئن من عجز متزايد يحمل خطورة بشأن تزايد معدلات التضخم، بما قد يدفع الحكومة إلى إلغاء الدعم على الوقود والكهرباء أو الإعفاءات الضريبية المحدودة التي قررتها حكومة عمران خان، وهو أمر يصعب الإقدام عليه خشية أن تواجه غضباً شعبياً عارماً. في الوقت ذاته، سيكون توفير بقية قرض صندوق النقد الدولي ضرورياً لكي تتمكن باكستان من سداد التزاماتها المالية الخارجية. وسيشدد الصندوق على ضرورة العودة إلى خطوات برنامج الإصلاح الاقتصادي، بما فيها رفع الدعم والضبط المالي وربما تأمين تمويل خارجي موازٍ قبل أن يقدّم لباكستان الثلاثة مليارات دولار المتبقية من القرض.

المسار الثاني، الإسراع بالبدء في تطبيق إجراءات بناء الثقة والمصالحة بين الأطراف والقوى السياسية المتنافسة على السلطة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى عليها أن تعمل على تحسين علاقتها مع المؤسسة العسكرية إذ سبق أن شهدت العلاقات بين حزب الرابطة الإسلامية الذي كان يتزعمه نواز شريف وحليفه حزب الشعب الباكستاني توتراً مع المؤسسة العسكرية بسبب انتقاداتهما لتدخلها في الحياة السياسية. ولذا، على الحكومة الجديدة أن تعمل على إعادة بناء هذه العلاقات حتى لا تتصادم مع المؤسسة ورؤيتها في حال التحرك بشكل منفرد.

 المسار الثالث، على المستوى الأمني، ثمة أهمية ضرورية لمواجهة حركة طالبان باكستان لاستعادة الاستقرار في الولاية الأكبر في باكستان وهي ولاية بلوشستان التي تعاني اضطرابات سياسية منذ سنوات عدة بسبب ما تشهده من نزاعات طائفية وعنف المتمردين المطالبين بمزيد من الحكم الذاتي ونصيب أكبر من الثروة الغنية التي تتمتع بها هذه الولاية، حيث توجد فيها الموارد الطبيعية والمعادن.

- على الصعيد الخارجي، أضحى على الحكومة الجديدة أن تعيد ترتيب بوصلة توجهات علاقاتها الخارجية بشكل يحقق توازناً مطلوباً في تفاعلاتها الدولية في ظل حالة الاستقطاب العالمي، إذ من غير المقبول أن تصحح تقاربها مع الولايات المتحدة في ظل الترحيب الأمريكي بوصولها إلى السلطة، حيث أكدت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، بأن: “الولايات المتحدة متمسكة بالشراكة طويلة الأمد مع باكستان التي تمثل أهمية حيوية بالنسبة إلى واشنطن”، وذلك على حساب علاقتها مع موسكو وبكين، إذ من الأهمية بمكان أن تحافظ الحكومة الجديدة كذلك على علاقاتها مع الصين، فقد صرح الناطق باسم وزارة الخارجية الصيني تشاو لي جيان بأن: “التغييرات التي يشهدها الوضع السياسي في باكستان لن تؤثر في الوضع الشامل للعلاقات الصينية- الباكستانية”، وهو النهج الذي حاول رئيس الوزراء الجديد أن يؤكده حينما أعلن عقب انتخابه أن حكومته ستسرع مشروعات للبنية التحتية تدعمها بكين في بلاده. على الجانب الآخر، يظل مستقبل علاقات باكستان مع الهند هي الخطوة الأكثر بروزاً في ملف السياسة الخارجية الباكستانية، إذ من المنتظر أن تشهد علاقة البلدين تفاهماً خلال الفترة المقبلة، يدلل على ذلك ما صرح به شهباز شريف رداً على رسالة التهنئة التي تسلمها من رئيس الوزراء الهندي بمناسبة اختياره رئيساً للوزراء، إذ أشار إلى أن: “باكستان ترغب في علاقات سلمية وتعاونية مع الهند. والتسوية السلمية للخلافات العالقة، وتشمل جامو وكشمير، لا غنى عنها”. وما يعزز هذا التقارب تاريخ العلاقة بين عائلة شريف التي ينحدر منها رئيس الوزراء المنتخب والهند، إذ يذكر أن شهباز شريف زار الهند عام 2003 عندما كان رئيساً لوزراء ولاية البنجاب التقى خلالها برئيس الوزراء، آنذاك، مانموهان سينغ، ومسؤولين آخرين في نيودلهي. وفي المقابل حضر نظيره الهندي ناريندرا مودي حفل زفاف أحد أعضاء عائلة شريف. كما أجرى رئيس الوزراء الهندي كذلك زيارة مفاجئة إلى باكستان عام 2015 بعد عام من توليه منصبه، حيث استقبله رئيس الوزراء، آنذاك، نواز شريف. ولذا، تنظر الهند إلى حكومة شهباز شريف على أنها حكومة تصالحية ومستعدة لتسوية الخلافات من خلال الحوار بدلاً من المواجهة.

جدوى القول إن الأزمة السياسية في باكستان لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل واقع سياسي مرتبك داخلياً بسبب صراعات الداخل بين توجهين يتنافسان على الساحة السياسية: الأول، توجه يسعى للعودة إلى وضع سياسي يهيمن عليه الحزبان الرئيسيان التقليديان اللذان يتناوبان الحكم منذ سبعة عقود ونصف العقد. والثاني، توجه يسعى إلى بناء باكستان جديدة من خلال وجود كيان سياسي أُسس منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلا أنه لم يتمكن من الوصول إلى السلطة إلا في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولكنه أخفق في الاحتفاظ بهذه السلطة حيث طُبق عليه العرف السياسي بعدم تمكن أي حكومة باكستانية من استكمال مدتها الدستورية، ليخرج من السلطة بصورة حملت في ظاهرها بُعداً ديمقراطياً عبر خروجه بمقتضى عملية لسحب الثقة من الأغلبية البرلمانية التي تخلت عنه مع تصاعد حركة التظاهرات في الشارع الباكستاني الذي يئن تحت وطأة الأوضاع المعيشية التي تزداد سوءاً من ناحية، ووطأة اتساع مساحة الاختلاف بينه وبين المؤسسة العسكرية من ناحية أخرى، حيث نجحت المعارضة في توظيف كل ذلك لإخراج حزب الإنصاف من حلبة السياسة مؤقتاً لحين إجراء الاستحقاق النيابي المقبل الذي يحمل في طياته إما خروجاً نهائياً لهذا الحزب وعودة الأحزاب السياسية التقليدية مرة أخرى لحكم البلاد، وإما دخولاً توافقياً مرحلياً يستعيد به الحزب بعضاً من وجوده الذي فقده. وفي الحالات جميعها يظل التوافق مع المؤسسة العسكرية صاحبة الدور المهم في ضبط الأوضاع داخلياً وخارجياً، رمانة الميزان في تحقيق التوازن السياسي وضمان الاستقرار الحكومي.