وسط حالة من الجدل الشديد حول رفع العلم الفلسطيني في القدس وفي أوساط الفلسطينيين العرب في إسرائيل، صادقت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي، في مطلع شهر حزيران الجاري، بالقراءة التمهيدية، على مشروع قانون يحظر رفع العلم الفلسطيني في المؤسسات التي تُموّلها الدولة، وقد صوّت إلى جانب هذا القانون الذي قدمه النائب الليكودي إيلي كوهين 63 عضواً من قوى المعارضة والائتلاف الحكومي على السواء، بينما عارضه 16 نائبا من النواب العرب وبعض ممثلي اليسار الصهيوني.
وكان لافتا قيام رئيس الحكومة نفتالي بينيت والمُرَكّبات اليمينية في ائتلافه الحكومي، بالتصويت لصالح هذا القانون جنبا إلى جنب مع سلفه بنيامين نتنياهو، رئيس حزب الليكود، وباقي أطراف المعارضة اليمينية، وذلك على الرغم من السلوك الذي ميّز أطراف المعارضة والحكومة بامتناع كل طرف عن تأييد مشاريع القوانين التي يقدمها الطرف الآخر بما يشمل القضايا الحساسة والأمنية، ما يؤكد أن الموقف من العلم الفلسطيني ودلالاته بات محلّ إجماع اليمين الإسرائيلي بمختلف تلاوينه.
وقد تغيب عن جلسة التصويت لأسباب متباينة كل من رئيس الحكومة البديل ووزير الخارجية يائير لبيد وأعضاء حزبه "يوجد مستقبل" باستثناء رئيس الكنيست ميكي ليفي، وكذلك وزير الدفاع بيني غانتس، فيما انقسم أعضاء الائتلاف الحكومي، حيث صوتت أحزاب اليمين جميعها مع القانون بينما عارضه نواب ميرتس والقائمة العربية الموحدة.
استهداف الهوية الوطنية
اللجوء إلى خيار استثمار الغالبية المتاحة في الكنيست لفرض تشريعات تُقَيّد حقوق الفلسطينيين في إسرائيل في التعبير عن هويتهم الوطنية وانتمائهم القومي، جاء ردا على موجات التعبير عن هذه الهوية الوطنية عبر سلسلة من الفعاليات والأنشطة الجماهيرية، والتي امتدت من مسيرات العودة للقرى المهجرة خلال السنوات السابقة، وصولا إلى أنشطة الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية وخاصة جامعة بن غوريون في بئر السبع، وجامعة تل أبيب، إلى مظاهر التعبير عن الهوية الفلسطينية كما في أحداث هبة تشرين العام 2000، أو أحداث شهر أيار 2021.
وربما يكمن في الاستقواء بالقانون المستند للأغلبية اليمينية في الكنيست لمواجهة ظاهرة رفع العلم الفلسطيني، دليل إضافي على أن الحملات التي خاضتها قوى اليمين في الماضي ضد العلم الفلسطيني ودلالاته لم تكن تستند إلى أي مُسوغ قانوني، بل هي جزء من حملات التحريض على كل ما يتعارض مع الاتجاه المهيمن لتهويد الدولة ورموزها ومنع كل ما يتعارض مع هذا الاتجاه، الأمر الذي بلغ ذروته في سن قانون أساس القومية في تموز 2018، والذي بات يشكل قاعدة لمزيد من التشريعات والممارسات التمييزية.
الحادثة التي استفزت قوى اليمين الإسرائيلي من الشركاء في الحكومة وقوى المعارضة كانت فعاليات إحياء ذكرى النكبة في جامعة بن غوريون في بئر السبع، والتي دفعت رئيس بلدية المدينة، روبيك دانيلوفيتش، إلى اتهام إدارة الجامعة بالتخاذل قائلا إنه يشعر بالصدمة والخجل. وذكّرت صحيفة "هآرتس" قراءها بأن رئيس البلدية هذا كان ناشطا في الجامعة عينها، ولشدة تطرفه قامت إدارة الجامعة بمعاقبته وحظر نشاطاته.
معاقبة الجامعات
لكن تحريض دانيلوفيتش وصل إلى مراكز القرار في مجلس الوزراء، حيث وصفت وزيرة التربية والتعليم يفعات شاشا بيطون أنشطة الطلاب العرب بأنها "لا يتقبلها العقل"، وقد توجهت الوزيرة للحصول على استشارات قانونية لمواجهة هؤلاء الطلاب الذين يشاركون في التحريض والعنف والإضرار برموز الدولة.
أما وزير المالية أفيغدور ليبرمان، فلم يكن بحاجة إلى استشارات، ولوّح بوقف الميزانيات التي تدفع للجامعة في أعقاب الاحتفال. في حين دافعت إدارة الجامعة عن قرارها، وقالت في بيان لها، بحسب افتتاحية صحيفة "هآرتس" التي كرست لنقاش الموضوع: "نحن نتفاخر بطلابنا على جانبي المتراس، وهذه الرياح هي التي يجب أن تهب بدلا من الرياح السيئة والمتصاعدة للفاشية".
قبل ذلك شهدت جامعة تل أبيب تظاهرة مشابهة رفع فيها الطلاب العرب علم فلسطين، ما شكّل صدمة لبعض الأوساط الإسرائيلية بما في ذلك لبعض الإعلاميين، حيث علّق المذيع التلفزيوني في القناة 12 حاييم إتغار على الواقعة بقوله: "هذه صورة من جامعة تل أبيب، هؤلاء الناس ومن بينهم طلبة جامعيون يعتقدون أن قيام دولة إسرائيل كارثة، إنهم لا يدعون إلى المساواة بل يعارضون حقيقة وجودنا، ويدرسون في جامعة يجري تمويلها من مواردنا المالية، والسماح لهم بذلك هو الغباء بعينه".
فرض السيادة بأي ثمن!
امتدت مواجهات رفع العلم الفلسطيني إلى عموم الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة، كما حصل في بلدة حوارة القريبة من مدينة نابلس والتي تشهد مرورا كثيفا للمستوطنين في انتقالهم بين الداخل ومستوطنات شمال الضفة. لكن الحدث الأبرز خلال شهر أيار الماضي كان تبرير الشرطة الإسرائيلية لقمع المشاركين في جنازة الصحافية شيرين أبو عاقلة في القدس، من خلال الاعتداء العنيف على الجنازة والمشاركين والتعرض للنعش، ما أثار موجات من السخط على امتداد العالم. ففي الردود التي أصدرتها الشرطة ادعت أنها تدخلت لمنع المشاركين من حمل الأعلام الفلسطينية وإطلاق الهتافات المعادية، وادعت كذلك أنها اتفقت مع مندوبي عائلة الشهيدة على الامتناع عن رفع الأعلام وتقييد عدد المشاركين، الأمر الذي نفته العائلة ومحاموها بشكل قاطع.
من الواضح أن حساسية الدولة الإسرائيلية وأجهزتها والقوى التي تقودها إزاء قضية العلم الفلسطيني، بل ومن أي مظاهر ترمز للحضور السياسي الفلسطيني في القدس، تعود إلى تصميم هذه القوى على فرض السيادة الإسرائيلية على المدينة بأي ثمن ومهما كلّف الأمر، وذلك ما يفسر سلسلة المواقف المتطرفة والسماح بالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، ثم في حالة الإجماع اليميني التي نشأت حول مسيرة الأعلام التقليدية، والتي كانت في الماضي تقتصر على قوى الصهيونية الدينية المتطرفة. لكن هذه المسيرة والقوى التي تحركها تحولت إلى جزء من منظومة السيطرة على القدس وتهويدها، علاوة على أن هذه الأحداث وقعت في غمرة التوقعات بقرب انهيار حكومة بينيت- لبيد، وزيادة احتمالات التوجه لانتخابات مبكرة، وهي أجواء مواتية تماما لمزيد من التصعيد ومغازلة الأوساط المتطرفة من الجمهور.
يعرض الكاتب الإسرائيلي نير حسون في "هآرتس"، الدراما المرتبطة بما أسماه "حرب الأعلام"، فيقول إنها بدأت في جنازة الصحافية شيرين أبو عاقلة، التي عملت فيها الشرطة على إزالة أعلام فلسطين، لكن الأعلام ظهرت بكثافة بعد ذلك في الحرم وفي الأحياء العربية، وعندما رد اليهود بآلاف الأعلام في مسيرتهم وبدا أنهم يسيطرون في معركة الأعلام، لاح حسم في المعركة كعمل شيطاني حين ظهرت في السماء وفوق رؤوس المحتفلين طائرة صغيرة تحمل علم فلسطين.
وإذا كان مفهوما حجم التحشيد الذي يبذله اليمين الإسرائيلي للتحريض على الفلسطينيين وعلمهم لما في ذلك من أثمان سياسية لا يريد اليمين الخوض فيها، فإن قدرا كبيرا من الغمغمة والتعلثم ميز القوى والأصوات المحسوبة على اليسار الصهيوني الإسرائيلي، فالكاتبة رافيت هيخت في "هآرتس" تساوي بين حمل المتطرفين الإسرائيليين للأعلام الإسرائيلية في المسيرة الاستفزازية في القدس، وبين تعبير فلسطينيي الداخل والضفة عن هويتهم الوطنية، وهي تتجاهل تماما وجود الاحتلال، ومصادرة الحقوق الوطنية للفلسطينيين، وترى أن هذا "الانشغال المرضي بالأعلام" مرض طفولي، يبقي الناس سجناء في الحقل الرمزي الذي يشبه الفاشية.
إنها الحرب!
وكان الكاتب والأكاديمي الإسرائيلي اليميني المتطرف مردخاي كيدار الأكثر وضوحا في تفسيره للجدل الدائر حول معارك العلم، فكتب في صحيفة "مكور ريشون" بتاريخ 17//5/2022 أن "العلم ليس قطعة قماش بريئة، فعندما تتصارع مجموعتان على أرض واحدة، فإن الأعلام التي ترفرف تشير إلى الهدف، وكذلك إلى الخصم والعدو، وبالتالي فإن رفع العلم هو إعلان حرب بوسائل مرئية، إنها دعوة صريحة وواضحة للقتال، فالعلم يعبر عن هوية جماعية، ويعبر عن طموح وطني، وبالتالي يحدد من ’نحن’ ومن ’هم’"..
ومن خلال إقراره بالقراءة التمهيدية، يكون هذا القانون قد قطع مرحلة تشريعية مهمة، ولكنه ما زال بحاجة إلى إقرار الكنيست بثلاث قراءات متتالية حتى يصبح نافذا، ولعل الخشية من التعارض بين إقرار القانون ومبدأ حرية التعبير دفعت إلى اقتصار سريانه على المؤسسات التي تحظى بتمويل الحكومة، من دون أن يمتد هذا الحظر إلى الشارع والفضاءات المفتوحة، كما كان يطمح بعض المشرعين الإسرائيليين، أو كما دلّت بعض فصول المواجهات بين قوات الاحتلال وأجهزة الشرطة الإسرائيلية من جهة والفلسطينيين الذين يرفعون علمهم سواء بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل الذين دأبوا على رفع العلم الفلسطيني في المناسبات الوطنية وخاصة في يوم الأرض وذكرى النكبة، أو بالنسبة للفلسطينيين في القدس وسائر الأراضي المحتلة في العام 1967 حيث تحولت مناسبات رفع العلم إلى ذريعة لتدخلات عنيفة من قبل أجهزة الاحتلال.
تجاهل وجود شعب فلسطيني
من الملاحظات اللافتة أن السياسيين والمشرعين الإسرائيليين، والمحرضين على منع رفع العلم الفلسطيني في وسائل الإعلام، وصفوا العلم بأنه علم "منظمة التحرير الفلسطينية" تارة، وعلم "السلطة الفلسطينية" تارة أخرى، من دون أن يحاولوا الإصغاء لأصوات النواب العرب في الكنيست وبخاصة نواب القائمة المشتركة، الذين أوضحوا خلال النقاشات التي جرت على مشروع القانون في الكنيست، أن هذا العلم هو رمز للشعب الفلسطيني، وهو موجود قبل قيام السلطة ومنظمة التحرير، وأبعد من ذلك أن رفعه من قبل المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل هو دليل على انتماء هؤلاء إلى الشعب الفلسطيني.
وفي السياق، قال بيان للتجمع الطلابي الديمقراطي: "إن العلم الفلسطيني هو علمنا الوطني، وهو أحد الرموز التي تعكس هويتنا كفلسطينيين داخل الجامعات وخارجها". وقال الناشط الطلابي صالح إغبارية، خلال مقابلة مع محطة تلفزيون "مساواة"، إن حملة التحريض العنصرية ضد الطلاب العرب ونشاطاتهم تقودها جماعة "إم ترتسو" اليمينية العنصرية، وهي تحرض حتى على مبدأ حق الطلاب العرب في الدراسة في الجامعات الإسرائيلية.
فوبيا العلم
سبق للنائبة أوريت ستروك، من حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف، أن اقترحت مشروع قانون في أيار الماضي يمنع رفع العلم الفلسطيني قطعيا في "مناطق" إسرائيل، وبررت اقتراحها بأن ما اسمته علم السلطة هو علم لكيان إرهابي ينص في وثائقه على تمويل الأعمال الموجهة ضد إسرائيل، وبذلك يعدّ هذا العلم علما إرهابيا، وينطوي مشروع القانون الذي اقترحته النائبة اليمينية، بحسب موقع (سيروجيم)، على عقوبة الحبس لمدة ثلاث سنوات أو غرامة بمقدار خمسة آلاف شيكل، وتمتد العقوبات بحسب المشروع المذكور لتشمل المشاركين في مظاهرات واجتماعات يرفع فيها "علم السلطة الفلسطينية"!
كان يمكن لأي حدث حول العلم الفلسطيني أن يثير نقاشا قوميا عاصفا مهما كان هذا الحدث محليا أو محدودا، وهذا ما فعلته يافطة تدعو للتعايش علقتها منظمة يسارية اسمها "مِحَزْكيم" على بناية البورصة في رمات غان، صبيحة يوم التصويت على مشروع قانون منع العلم الفلسطيني، ورسم على اليافطة علم فلسطيني كبير وإلى جواره علم إسرائيلي مع شعار "مستقبلنا أن نعيش معا" بالعربية والعبرية، وأثارت الخطوة عاصفة من التعليقات والتنديد وتدخلات السياسيين والبلدية، ما دفع الشرطة إلى التوجه للبناية وطلب إنزال العلم الفلسطيني، وسارع رئيس البلدية كرمل شاما هكوهين إلى طمأنة الجمهور الغاضب وإبلاغه بإنزال العلم الفلسطيني، ووضع شعارات تمجد الجيش والشرطة بدلا منه. يشار إلى أن نفس المنظمة التي رفعت اليافطة، قامت بخطوة مشابهة في مدينتي الناصرة والطيرة العربيتين من دون أن تواجه باحتجاجات.
وبالعودة إلى الوراء قليلا يتبين أن محاولات اليمين الإسرائيلي لمنع رفع العلم الفلسطيني ليست وليدة المواجهات التي وقعت مؤخرا فقط، ففي آب 2018 قدمت النائبة عنات باركو من حزب الليكود مشروع قانون يجرّم رفع العلم ويفرض عقوبة الحبس لسنة واحدة على من يفعل ذلك من الفلسطينيين في إسرائيل، وجاء هذا الاقتراح ردا على التظاهرة الحاشدة التي نظمتها لجنة المتابعة العليا، وارتفعت فيها الأعلام الفلسطينية في قلب تل أبيب رفضا لقانون القومية.
وفي ذلك الوقت قال نتنياهو إن رفع العلم الفلسطيني في المظاهرة هو أفضل دليل على ضرورة تشريع قانون القومية، أما رئيس الكنيست حينذاك يولي إدلشتاين، فاعتبر أن النضال الذي يقوم به أعضاء الكنيست العرب ولجنة المتابعة ليس موجها ضد قانون القومية فقط، بل ضد وجود دولة إسرائيل.
الرأي القانوني
سبق للمركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل (عدالة) أن نشر رأيا قانونيا في مطلع كانون الأول 2021 أوضح فيه أن رفع علم فلسطين ليس جريمة ولا يتناقض مع القانون بموجب قرار أصدرته المحكمة العليا في العام 2003 واعتبرت فيه أن رفع العلم هو جزء من حرية التعبير، لكن مراجعات أخرى للمستشار القانوني للحكومة ولمحاكم الصلح، قيّدت حق رفع العلم بشروط ألا يؤدي ذلك إلى الإخلال بالنظام وأمن الجمهور لا يمكن فصل معركة الأعلام عن الاتجاه العام الذي تسير عليه دولة إسرائيل منذ استقرار حكم اليمين فيها على امتداد العقدين الماضيين، سواء لجهة تعزيز الطابع اليهودي على حساب القيم الديمقراطية في الدولة، أو لجهة محاربة الوطنية الفلسطينية حتى في الأراضي المحتلة العام 1967 وما يرتبط بذلك من تقويض فرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. أما الصراعات والمماحكات الحزبية والانتخابية حول هذه القضية أو تلك فهي تسرّع في هذه الإجراءات ولا تختلقها من العدم. ويتضح من سيل التصريحات والتعليقات أن حساسية المسؤولين الإسرائيليين من العلم الفلسطيني ليست مجرد حساسية من قطعة القماش وألوانها الأربعة، وإنما من الحقوق السياسية التي ينطوي عليها الاعتراف بالفلسطينيين كشعب ذي حقوق وطنية وقومية على أرضهم.
وقد بدا بنيامين نتنياهو منتشيا من نتيجة التصويت بالقراءة التمهيدية على مشروع قانون منع العلم الفلسطيني، محاولا توظيفها في سياق مساعيه للعودة إلى الحكم فقال: "اليوم انتصر العلم الإسرائيلي، نحن نعيد إسرائيل إلى اليمين، هذا يوم مهم لدولة إسرائيل ولمستقبل دولة اليهود".
أما المبادر إلى اقتراح القانون وهو النائب إيلي كوهين من حزب الليكود، فوصف النتيجة بأنها خطوة مهمة لاستعادة السيادة، وقال "في دولة إسرائيل لا يوجد إلا علم قومي واحد"!