• اخر تحديث : 2024-05-03 14:30
news-details
أبحاث

استثمار ممنهج.. كيف وظفت تركيا تراجع النفوذ الفرنسي فى شمال وغرب أفريقيا؟


شهدت الآونة الأخيرة تنامي نفوذ تركيا في منطقة شمال وغرب أفريقيا على عدة مستويات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، فضلًا عن تمددها في باقى دول القارة حيث تعتبر أفريقيا ساحة رئيسية للتنافس والصراع الحالي بين أنقرة وباريس؛ نظراً إلى تزايد ثقلها السياسي والاقتصادي بصورة لافتة داخل القارة على حساب تراجع النفوذ الفرنسي بسبب سياسات الرئيس ماكرون، وسياسات فرنسا في ليبيا ومالي، وسوء إدارتها للعلاقات مع الجزائر ذات الدور العسكري البارز بالمنطقة فضلا ً عن تصاعد الاحتجاجات فى تشاد ضد الوجود الفرنسي، حيث تظاهر مئات الأشخاص في 14 مايو 2022 في نجامينا ضد الوجود الفرنسي  متهمين باريس بدعم المجلس العسكري الحاكم. كما سبق هذه الخطوة إعلان الرئيس الفرنسي في فبراير 2022 عن قرار بلاده إنهاء وجودها العسكري في مالي – الذي تم تنفيذه في عمليتين عسكريتين كبيرتين، عملية “سيرفال”، وعملية “برخان”. وقال ماكرون في 16 فبراير 2022: “النصر على الإرهاب غير ممكن إذا لم يكن مدعوماً من قبل الدولة نفسها”.

تصاعد حدة الغضب ضد الوجود الفرنسي فى غرب القارة ومنطقة المغرب العربي دفع نحو توفير بيئة خصبة لتنامى نفوذ تركيا التى تبنت خطط جديدة واستراتيجيات مختلفة تركز على تحالفات أكثر اتساعاً للاستثمار في التراجع الفرنسي في القارة، وبخاصة فى منطقة شمال وغرب أفريقيا، وتسمح فى ذات الوقت بوراثة هذا الدور والحضور الفرنسي، أو بمعنى آخر، تعزز ارتباط تركيا بحلفائها  في المنطقة، وذلك من خلال إقامة تحالفات أكثر صلابة، تشمل المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية إلى جانب الاهتمامات الثقافية والتعليمية والصحية، إذ ترى تركيا أن التحالفات الجديدة مع دول شمال وغرب أفريقيا بعد تراجع باريس يخدم مصالحها الاستراتيجية، وربما تُعيد أمجاد الأمبراطورية العثمانية في أفريقيا، ويعزز فى ذات القوت قدرتها التنافسية في مواجهة خصومها الدوليين والإقليميين، وبخاصة باريس وطهران.

في هذا الإطار استضافت مدينة اسطنبول التركية في نوفمبر 2021 قمة الشراكة التركية الأفريقية، والتى نجحت فى توطيد العلاقات مع دول القارة، وهو ما كشف عنه تصريحات للرئيس أردوغان الذي أكد على أن بلاده تسعى جاهدة للربح وللتطور وللتنمية مع أفريقيا، والسير يدا بيد نحو المستقبل، وأضاف “وسعنا وجودنا في جميع أنحاء إفريقيا عبر مؤسساتنا مثل “تيكا” ومعهد يونس إمرة ووقف المعارف ووكالة الأناضول والخطوط التركية والهلال الأحمر”.

في هذا السياق تسعى هذه الورقة للوقوف على التحول الذي تشهده السياسة التركية في المرحلة الحالية في شمال وغرب أفريقيا، خصوصاً بعد أن أصبح تراجع النفوذ الفرنسي بإفريقيا حقيقة واضحة. وشهد الحضور الفرنسي تآكلاً ملحوظاً في دول شمال وغرب أفريقيا، إذ أن القواعد التقليدية الحاكمة للسياسة الفرنسية باتت تتعارض مع مصالح دول القارة ناهيك عن إداراتها جانب معتبر من علاقاتها مع دول القارة بطريقة فوقية، بينما برزت تركيا على النقيض فى صورة الشريك، وأصبحت سياسة “رابح- رابح” العنوان الأبرز فى علاقاتها مع دول القارة. كما تشير الدراسة إلى اتجاه أنقرة إلى جانب تعزيز فرص التعاون الإنساني والثقافي، تعميق الروابط الاقتصادية، وصولاً إلى الانفتاح والتفاهم في القطاع العسكري، وهي  مؤشرات توحي بأن تركيا نجحت في تعظيم حضورها في أفريقيا. كما تتطرق الورقة إلى الانعكاسات المحتملة لتعاظم الدور التركي على مستقبل الوجود الفرنسي، وعلى مصالح تركيا نفسها.

أولاً، سياقات مهمة:

ثمة عدداً من السياقات في دول شمال وغرب أفريقيا، تنعكس على طبيعة الوجود التركي في منطقة شمال وغرب أفريقيا، بعضها يرتبط بتحركات نشطة للدولة التركية، وأخرى ترتبط بأزمة النفوذ الفرنسي، وتوجهات بعض دول الساحل والصحراء حيال باريس، ويأتي أبرزها كالتالي:

تنافس تركي- فرنسي متصاعد: تشهد شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، بما في ذلك تشاد ومالى والنيجر وتونس والجزائر، تصاعداً ملحوظاً في التنافس التركي الفرنسي، فبعدما ظلت عواصم هذه الدول طيلة العقود الماضية الحليف الأبرز لفرنسا، شهدت الفترة الأخيرة بوادر تصدعات نسبية بين فرنسا وإدارات هذه الدول، خاصة في ظل انفتاح تشاد ومالى والجزائر والنيجر على تركيا مؤخراً. وبات هذا التطور يقلق فرنسا بشكل كبير، خاصة بعدما اتجهت هذه الدول إلى رفض الضغوط الفرنسية، وعملت على توسيع شراكتها الاقتصادية والعسكرية مع تركيا، وكذلك تعزيز التعاون مع النظام التركي في مجال محاربة التنظيمات الإرهابية.

توالي انسحاب القوات الفرنسية: تشير تقارير، إلى انسحاب قوات فرنسا من منطقة غرب أفريقيا، وكذلك تقليص الوجود الفرنسي في منطقة شمال أفريقيا، وكشف عن ذلك إعلان باريس في 17 فبراير الماضي انسحاب قواتها من مالى، والمقدرة بنحو 2500 إلى 3 ألاف جندى، كما سبق هذه الخطوة قرار فرنسا في يونيو 2021 إنهاء عملية “برخان” العسكرية فضلاً عن تخفيض عدد قواتها الموجودة في منطقة الصحراء والساحل.

إعادة تموضع تركيا لملء الفراغ: تزامن انسحاب القوات الفرنسية من بعض المواقع في دول شمال وغرب أفريقيا منذ نهاية العام الماضي، مع إشارات تلمح إلى إعادة تموضع تركيا، لملء الفراغ الذي تركته القوات الفرنسية. واللافت أنه في مقابل تراجع الحضور العسكري الفرنسي، نجحت تركيا في ترسيخ وجودها العسكري مع دول شمال وغرب أفريقيا، وكشف عن ذلك على سبيل المثال توقيع تركيا والنيجر في يوليو 2020 اتفاقية ستنشئ تركيا قاعدة عسكرية استراتيجية برية وجوية مع تدريب جيش النيجر، وتزويده بأحدث الأسلحة وتدريب قوات الأمن. كما أن تركيا تحيط بالنفوذ الفرنسي بتشاد ومالى وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا من مختلف الجوانب، عبر مستشاريها العسكريين، وصادراتها العسكرية إلى هذه الدول.

تصاعد الاحتجاجات الانتقامية ضد باريس: كان لافتًا أن تركيا حرصت على استثمار الاحتجاجات الشعبية الانتقامية التي تعرضت لها باريس في دول شمال وغرب أفريقيا. ومن هنا، أشارت اتجاهات عديدة إلى أن تركيا لم تعد تكتف بتطوير صورتها الذهنية الايجابية في هذه المناطق، وإنما تحاول توظيف حالة السخط على الوجود الفرنسي فيها.

ولذلك، أبدت تركيا اهتمامًا خاصًا بتوظيف تصريحات مسيئة أطلقها الرئيس ماكرون ضد الجزائر في أكتوبر 2021، حيث اتهم السلطات الجزائرية بأنها “تُكنُّ ضغينة لفرنسا”. وأضاف “إن الجزائر كان يحكمها نظام سياسي عسكري له تاريخ رسمي لا يقوم على الحقيقة بل على كراهية فرنسا”. كما شكك في وجود أمة جزائرية قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى البلاد عام 1830. وتابع ماكرون “كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر”، في إشارة لفترة الوجود العثماني بين عامي 1514 و1830. وأضاف “أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تمامًا الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون”.

تصريحات ماكرون ساهمت في إحداث تحول ملموس بشأن تقوية محور “تركيا – الجزائر” على حساب الدور الفرنسي التقليدي في الجزائر، وظهر ذلك في اصطفاف تركيا إلى جانب الجزائر في رفضها تصريحات ماكرون، حيث وصفت تركيا على لسان وزير خارجيتها تصريحات الرئيس الفرنسي ضد بلاده والجزائر بأنها “شعبوية وغير مجدية”. ومن جهتها، اعتبرت الجزائر على لسان وزير خارجيتها رمطان لعمامرة، أن تركيا لاعب دولي مهم جداً، ونرتبط معها بـ”علاقات تاريخية عميقة”، واصفاً تصريحات ماكرون بـ”الخطأ الجسيم”.

تمرير تركيا في أكتوبر 2021 اتفاقيات مع شركة “سوناطراك” البترولية الجزائرية، عُد دليل على الأهمية التي توليها أنقرة لعلاقاتها مع الجزائر في ظل التراجع الرهيب لخط “فرنسا – الجزائر” الذي استغلته تركيا لتمتين تقاربها ورباطها مع الجزائر.

بالتوازي مع ما سبق، نجحت تركيا في استثمار الاحتجاجات التي شهدتها تشاد في 12 مايو 2022 للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، حيث أشاد رئيس تنسيقية المعارضة التشادية محمد أبوبكر موسى، بالدور التركي في تشاد، وأشار إلى إن تعاون تركيا مع تشاد أفضل. كما أكد على أنه في حال طرح خيار التعاون مع تركيا أو فرنسا على النظام القائم دون عواقب، فسيختار تركيا بكل تأكيد، فهي دولة صادقة وأمينة وقد دعمت شعبنا دون مقابل، والشعب يرحّب بتركيا إن تُرك الخيار له.

اللافت في هذا السياق، هو أن المؤشرات السابقة باتت تلمح أن فرنسا فقدت ركنًا مهمًا اعتمدت عليه في تعزيز تمددها وانتشارها في هذه المناطق، وهو النخب السياسية الموالية سواء على الأرض أو داخل الهياكل المؤسساتية، والتي كانت تمثل معاقل تقليدية لها. لذلك فأن تصاعد الرفض الشعبي للتواجد العسكري الفرنسي في تشاد ومالى والجزائر من شأنه التعجيل برحيل معظم القوات الفرنسية من المنطقة، خاصة مع قدرة السلطات الانتقالية في مالي، والتي تحظى بدعم تركي لافت على تحدي باريس، وحلفائها في غرب إفريقيا.

رفع مستوى التنسيق مع تركيا في محاربة التنظيمات الإرهابية: سعت دول شمال وغرب أفريقيا إلى تعزيز تعاونها مع أنقرة في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية لعدة اعتبارات أولها:، تقديم تركيا على مدار السنوات التى خلت العديد من المساعدات المالية في إطار حرب دول الساحل على الإرهاب، فعلى سبيل المثال أعلن الرئيس التركي عشية زيارته لموريتانيا في مايو  2018 عن تقديم  مساعدة مالية بقيمة خمسة ملايين دولار للقوة المشتركة لمحاربة الإرهاب التي أسستها دول الساحل الخمس “G5”. وثانيها: اندفاعة دول الساحل والصحراء نحو توثيق العلاقة مع تركيا في مجال مكافحة الإرهاب بعد تخفيض فرنسا قواتها، على غرار ما هو قائم بين الجيش في مالى والنيجر ونظيره التركي. حيث أعلن الرئيس التركي في نوفمبر 2021 عشية توقيع اتفاقية عسكرية مع النيجر أن بلاده تدعم جهود النيجر في مكافحة الإرهاب. كما أكد رئيس الوزراء المالي شوغل كوكالا مايغا على انفتاح بلاده على التعاون مع أنقرة في مجال الصناعات الدفاعية، وأنهم في حاجة إلى دول “صديقة” مثل تركيا لمساعدتها في مكافحة الإرهاب. وثالثها: يرتبط بتداعى المنظومة الأمنية التي وضعتها فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي منذ العام 2013، وكشف عن ذلك تصاعد المظاهرات المناوئة لها في مالي، وانسحاب مالى من مجموعة “الساحل خمسة” التي تضم إلى جانب مالى كلا من تشاد ووموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو إضافة إلى إعلان رئيس النيجر محمد بازوم في حوار له مع صحيفة “لاكروا” الفرنسية “موت تحالف G5.

وقد كان لافتًا أن ثمة اهتمامًا خاصًا من جانب تركيا بإنهاء نشاط هذه التنظيمات في تلك المنطقة، خاصة أن هذا النشاط يفرض تهديدات مباشرة للمصالح التركية في لييبا والجزائر ودول غرب أفريقيا التي باتت تمثل أولوية استراتيجية لتركيا بسبب موقعها الجغرافي والجيوبوليتكي.

كثافة الاستثمارات التركية في مشاريع التنقيب: شهدت علاقات أنقرة مع دول شمال وغرب أفريقيا خلال المرحلة الحالية في مجال الطاقة نقلة نوعية في ظل تصاعد أزمة شرق المتوسط، وتصاعد الضغوط الفرنسية ضد التحركات التركية للتنقيب عن مكامن الطاقة في المتوسط ناهيك عن رغبة أنقرة في توظيف تراجع مناعة عدد من شركات الطاقة الغربية، وبخاصة توتال الفرنسية في غرب أفريقيا، كما سعت تركيا إلى استثمار انسحاب شركة “IOC” الدولية للنفط من نيجيريا، لتعزيز فرص التعاون مع أبوجا في مجال الطاقة.

بالتوازي مع ذلك، شهدت الاستثمارات التركية في قطاع الطاقة الليبي قفزة كبيرة، بعد توقيع اتفاقية لتعييم الحدود البحرية مع حكومة غرب ليبيا في 27 نوفمبر 2019، وظهر ذلك في إجراء أنقرة محادثات مع حكومة الوفاق الوطني لإجراء أعمال التنقيب عن النفط والغاز في الحقول البرية والبحرية. كما تراهن تركيا على تطوير علاقاتها مع دول غرب أفريقيا خلال المرحلة الحالية، خاصة بعد الإعلان في سبتمبر 2021 عن اكتشافات نفطية هائلة في نامبيا وغانا والجابون وساحل العاج. ويشار في هذا الصدد إلى تصريحات سفيرة ساحل العاج لدى أنقرة في 18 ديسمبر الماضي، حين قالت عشية مقابلة لها مع وكالة الأناضول “نرغب في رؤية العديد من الاستثمارات التركية في بلادنا، وخاصة في مجالات الطاقة والبنية التحتية”.

نزع شرعية الصورة النمطية لباريس: نجحت تركيا في تغذية المشاعر الأفريقية المناهضة للاستعمار تجاه فرنسا التي فشلت في تحقيق إنجازات ملموسة على صعيد الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي في مناطق نفوذها الأفريقية. كما أصبحت فرنسا متّهمة بصنع الحكومات في أفريقيا وإفشالها، وإبقاء البلدان تحت وصايتها الاقتصادية من خلال الفرنك الأفريقي، وبأنّها غير فعّالة. وقد شكلت هذه الأوضاع بيئة خصبة لتركيا لتحشد رأى عام أفريقي مضاد ضد باريس، ورافض للوجود العسكري الفرنسي، وهو ما ترتب عليه تغيير موازين القوى داخل هذه الدول لمصلحة التيارات المناهضة للوجود الفرنسي. ومع ضعف قدرة باريس على حشد جمهور موال لها، وتراجع الحضور السياسي للنخب الموالية لها، فإن استراتيجية أنقرة التي استهدفت بالأساس تعزيز المشاعر المعادية لفرنسا، تمكنت بالفعل من نزع الشرعية عن الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية.

التحرر من الاعتماد على التكنولوجيا الفرنسية: من الأسباب الأخرى التي تشجع دول شمال وغرب أفريقيا على إظهار تقارب مع تركيا بعد انحسار نفوذ باريس، مساعيها القائمة على التحرر من الاعتماد على التكنولوجيا الفرنسية، في إطار سئم هذه الدول من ممارسات باريس لمنع وصول التكنولوجيا في القطاعات الحيوية لدول المنطقة. وتضخ الحكومة والشركات التركية استثمارات هائلة في المشاريع التكنولوجيا بدول غرب وشمال أفريقيا، خاصة في قطاعات الزراعة والتعدين والطاقة، وهو الأمر الذي منح تركيا ميزات تنافسية وتفضلية على حساب الدور الفرنسي. كما أصبحت أصبحت تركيا بديلاً تكنولوجيا للقوى الغربية، وبخاصة فرنسا، حيث اتخذت تركيا خطوات حاسمة باتجاه تطوير مشاريع مهمة ليس فقط في قطاعات الموارد الطبيعية والمعادن، ولكن أيضًا في قطاعات البناء والصناعة والخدمات في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك غرب وشمال إفريقيا.

ثانيا: اعتبارات متنوعة

شهدت الفترة الماضية محاولات تركية لتوظيف الانسحاب الفرنسي من دول الساحل والصحراء، لتعزيز العلاقات مع تشاد ومالى والنيجر وموريتانيا إضافة إلى الجزائر وعدد معتبر من دول شرق أفريقيا، وقد توجت هذه المساعي بزيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لتركيا في 15 مايو 2022 ناهيك عن زيارة رئيس المجلس العسكري الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي، إلى تركيا في 27 أكتوبر 2021، تلبيةً لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

بالتوازي مع ذلك، شهدت الشهور الأخيرة جولة الرئيس التركي في أفريقيا، والتي شملت السنغال والكونغو الديمقراطية في فبراير 2022، وسبق هذه الجولة انعقاد القمة التركية الأفريقية في ديسمبر الماضي، وبمشاركة 16 زعيما إفريقيا و 102 وزيراً. وبالنظر إلى السياقات الكاشفة عن تراجع موقع وموضع فرنسا في أفريقيا، يمكن تحديد عدد من الدوافع الرئيسية للتحركات التركية لتعزيز العلاقات مع دول شمال وغرب أفريقيا، وذلك على النحو التالي:

فتح أسواق جديدة للسلاح التركي: تحاول تركيا بصورة لافتة تسويق صناعاتها العسكرية في الأسواق الأفريقية بصورة أساسية. ولعل هذا ما تجسد بوضوح في صفقات المسيرات التي تم الإعلان عن عقدها مع  دول شمال وغرب أفريقيا، وغيرها من دول القارة. ومنذ أكتوبر 2021، توسعت تركيا في بيع الطائرات بدون طيار إلى الدول الأفريقية، حيث أبرمت صفقات مع المغرب وإثيوبيا والنيجر وأنجولا وتشاد . ووفقا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك في ديسمبر الماضي، ارتفعت مبيعات الأسلحة التركية إلى أفريقيا بنسبة 39.7%، حيث شهدت الأشهر الـ 11 الأولى من العام 2021 وصول الصادرات إلى رقم قياسي بلغ 2 مليار و793 مليون دولار.

في المقابل، فإن الانسحاب الفرنسي من المنطقة، وإنهاء عملية “برخان” ضد الإرهاب، وفر بيئة خصبة لتركيا لترسيخ مشاريعها العسكرية شمال وغرب أفريقيا، خصوصاً أن هذه الدول بدأت البحث عن بدائل يمكن الاعتماد عليها خلال المرحلة المقبلة لسد الفراغ الأمني الذي خلفه الانسحاب الفرنسي. هنا، يمكن تفسير اندفاع دول المنطقة إلى ترقية التعاون العسكري مع تركيا من خلال إبرام صفقة لشراء طائرات مسيرة تركية.

إنقاذ الاقتصاد التركي المتعثر: تسعى أنقرة للبحث عن منافذ خارجية لتعزيز وضعية تراجعها الاقتصادي، خاصةً في ظل الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها دول شمال وغرب أفريقيا (النفط واليورانيوم والذهب وغيرها من المعادن)، فضلاً عن الثروات الحيوانية والزراعية. وقد برزت الأهداف الاقتصادية لتركيا في تصريحات الرئيس التركي الذي أشار إلى أن بلاده تسعى إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع القارة الأفريقية، والذى وصل بنهاية العام 2021 ما يقرب من 29 مليار دولار، منها11  مليار دولار مع أفريقيا جنوب الصحراء مقابل ما يقرب من 4 مليارات دولار مع الجزائر. ويبدو أن دول غرب وشمال أفريقيا تجاوبت مع رغبة تركيا في تعزيز المبادلات التجارية، خاصة مع تصاعد توتر علاقاتها مع باريس، إذ أعلن الرئيس الجزائري عشية زيارته لتركيا في مايو 2022 عن توقيع بلاده عدداً من اتفاقيات التعاون مع تركيا في عدة مجالات مختلفة. وسبق إعلان تبون، تأكيد سفير مالى لدى تركيا في 5 مايو 2022 على أن بلاده ترغب فى تعزيز التعاون الاقتصادي مع أنقرة.

منافسة باريس: تحاول تركيا عبر تأسيس روابط جديدة مع دول شمال وغرب أفريقيا تعزيز قدرتها على منافسة الوجود الفرنسي. وبمعنى آخر، فإن تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا بات يمثل آلية مهمة تحاول أنقرة استخدامها لانتزاع الصدارة في منطقة شمال وغرب القارة، وتوجيه رسالة بأن تركيا يمكنها الرد على التحركات الفرنسية ضد المصالح التركية فى ليبيا ومنطقة شرق المتوسط، والقوقاز. وقد كان لافتًا في الفترة الماضية أن تركيا تمكنت من تكوين تحالفات صلبة موالية لها داخل مناطق النفوذ التقليدي لباريس في شمال وغرب أفريقيا، على غرار تعزيز التعاون مع الجزائر ومالى والنيجر وتشاد. كذلك سعت تركيا إلى استغلال الجدل الذي صاحب الانسحاب الفرنسي من غرب أفريقيا، والتوتر المحتدم مع الجزائر لتوجيه انتقادات ضد الوجود الفرنسي في أفريقيا بشكل عام.

 

ترسيخ الوجود التركي: تعي تركيا أهمية تطوير العلاقة مع دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل للحفاظ على نفوذها ودورها المتنامي في هذه المناطق  بشكل خاص،  وبالتالي من المتوقع أن تعمل تركيا على استثمار التطور الحادث في علاقاتها مع مالى وتشاد، وكذلك  زيارة الرئيس الجزائري الأخيرة لتركيا لترسخ دورها الذي يشهد صعوداً لافتاً على حساب تراجع القوى الدولية الأخرى، وبخاصة فرنسا التي تراجع حضورها في شمال وغرب إفريقيا طوال السنوات التي خلت.

بالتوازي مع ذلك، تقدم تركيا نفسها كقوة صاعدة، وبطل نظام عالمي أكثر عدلا، وفي هذا الصدد يقول الأمين العام لمنطقة التجارة الحرة للقارة الأفريقية “وامكيلي مين”: “تأتي تركيا بلا أعباء استعمارية على الإطلاق.. هذه ميزة”. هنا، تراهن تركيا على توظيف صورة باريس الذهنية كدولة استعمارية في الوعي الجمعي الأفريقي لترسيخ وجودها في دول القارة عموما، وشمال وغرب أفريقيا خصوصاً، باعتبار ذلك يمثل فرصة لتعظيم سياستها، وإعادة صياغة خارطة التحالفات مع خصوم تركيا في مناطق نفوذها المختلفةس.

تأمين المصالح في ليبيا: لا تنفصل مساعى تركيا لتوظيف التراجع الفرنسي في منطقة شمال وغرب أفريقيا عن رغبتها في تأمين مصالحها الحيوية في ليبيا، وتثبيت أقدامها. وتعتقد أنقرة أن تطوير العلاقة مع دول شمال وغرب القارة تبقي ورقة ضاغطة يمكن توظيفها حال التوجه إلى حل الأزمة فى ليبيا، خاصة أن الوجود التركي في هذه المنطقة التي تقع على مرمي حجر من ليبيا، يسمح للأتراك بسهولة أكبر في دعم التيارات الموالية لها في ليبيا. على صعيد ذي شأن فإن الوجود التركي في الجزائر والنيجر وتشاد يوفر بيئة مواتية لتركيا للتأثير على مقاربات خصومها في ليبيا، وبخاصة فرنسا.

تعزيز فرصة تركيا كناقل للغاز: لا ينفصل الاهتمام التركي بمنطقة شمال وغرب أفريقيا عن رغبتها في تثبيت هيمنتها كناقل للطاقة عالمياً، خاصة في ظل تصاعد الاكتشافات النفطية في هذه المناطق، حيث يزخر إقليم غرب أفريقيا بثروات هائلة، وفي مقدمتها الغاز الطبيعي والنفط، حيث تؤكد التقارير أن 70% من النفط الإفريقي يتمركز بغرب القارة، وأن نصف الاكتشافات النفطية التي شهدها العالم مؤخراً كانت من نصيب الإقليم، خاصة في منطقة خليج غينيا.

في المقابل، ومع تصاعد التحركات الفرنسية العدائية ضد مشاريع التنقيب التركية شرق المتوسط، واستمرار باريس في دعم قبرص واليونان، ترى أنقرة أن منطقة شمال وغرب أفريقيا حيز مهم لمصالحها المختلفة، كما تتزايد أهميتها في ظل احتياطات النفط الكبيرة بها التي قد تساعد أنقرة على تخفيض وارداتها النفطية من إيران وروسيا. لذلك ربما تكون هذه الأهمية الاستراتيجية لمشاريع الطاقة أحد المداخل التفسيرية لتعزيز تركيا حضورها في الموانئ البحرية في مناطق شمال وغرب القارة.

ثالثا: ارتدادات محتملة

في إطار المتغيرات السابقة، يمكن الإشارة إلى جملة من الدلالات المهمة التي تعكسها مؤشرات صعود تركيا في منطقة شمال وغرب القارة في ظل تراجع حضور باريس، ويمكن توضيحها على النحو التالي:

تهديد النفوذ الفرنسي: يعكس الانخراط التركي في دول غرب وشمال أفريقيا مساعى أنقرة لمحاصرة النفوذ الفرنسي، ولعل ما يعزز هذا الطرح هو كثافة الزيارات المتبادلة بين المسئولين الأتراك ومسئولي هذه الدول.  كما يتوقع أن تطرح أنقرة نفسها كبديل للدور الفرنسي المتراجع، والتعويل على صورتها الذهنية الايجابية في الوعي الجمعي لدول هذه المنطقة كونها لم تكن دولة استعمارية بالمفهوم التقليدي فضلا عن تبنيها مبدأ “رابح- رابح” فى علاقاتها مع القارة.

كما تستخدم أنقرة علاقاتها بدول الساحل والجزائر وليبيا كوسيلة للرد على تحركات باريس المضادة للمصالح التركية، فقد اتجهت تركيا مؤخراً نحو توطيد التعاون مع مالي والنيجر وتشاد والجزائر وموريتانيا والمغرب في مجال الصناعات الدفاعية، وذلك رداً على توقيع باريس اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع اليونان في في 28 سبتمبر 2021، والتي وصفها الرئيس الفرنسي “ماكرون” بأنها “شراكة استراتيجية”، وبلغت قيمتها حوالي 5 مليارات يورو، وتتضمن حصول اليونان على ثلاث فرقاطات من باريس.

امتلاك أوراق للمساومة مع واشنطن: تتصاعد المخاوف الأمريكية من تراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي وشمال القارة، خاصة أن هذا التراجع سمح بتمدد النفوذ الروسي. ومن ثم، ربما تتجه واشنطن نحو دعم الحضور التركي في هذه المناطق، باعتبار أن تنامى نفوذ أنقرة يمكن أن يمثل ثقل موازن لروسيا فضلاً عن توظيف تركيا كعامل مهم لفرض التوازن في مواجهة النفوذ الصينى المتزايد في غرب أفريقيا، وهو أمر من شأنه أن يفتح أفاق جديدة لاساعادة التأثير التركي في الاستراتيجية الأمريكية، ويسمح في ذات الوقت بتحييد الضغوط الغربية على تركيا فى الملفات الخلافية.

تصاعد فرص إقامة قواعد عسكرية تركية: نجحت تركيا خلال المرحلة الماضية في تطوير علاقاتها العسكرية مع دول الساحل وشمال أفريقيا، وربما يسمح التطور العسكري التركي الحادث، والذى يتزامن مع تراجع الحضور الفرنسي فى توفير بيئة مواتية لتحقيق طموح انقرة بإنشاء قاعدة عسكرية لها في منطقة الساحل الأفريقي. وكان التركيز، في بداية الأمر، منصباً على النيجر، والتي وقعت معها أنقرة اتفاقية تعاون عسكرية في يوليو 2020. بيد أن استمرار العلاقة الاستراتيجية بين نيامي وباريس، قد يدفع أنقرة إلى البحث عن بديل آخر، وتشير بعض التقديرات إلى أن مالى أو تشاد ربما تمثل الوجهة الجديدة لتركيا خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعد انسحاب باريس من الأولى، وتصاعد الاجتجاجات ضد الوجود الفرنسي فى الثانية.

القفز على الإخفاقات التركية المحتملة: يبدو أن أنقرة تسعى إلى تعزيز دورها في منطقة غرب وشمال أفريقيا بعد وجود مؤشرات على تصاعد التحديات التي تواجهها في منطقة شرق المتوسط للتنقيب عن مكامن الطاقة بسبب تحركات خصومها الأوروبيين، وبخاصة باريس. كما أن دخول الانتخابات التركية المقرر لها 2023، والتي تتزامن مع تراجع الرصيد التقليدي للرئيس التركي، وحزب العدالة والتنمية في الشارع التركي، تفرض على النظام الحاكم تحقيق اختراقات خارجية يمكن توظيفها في تحقيق انتصار داخلى، وتعويض شعبية الرئيس التركي، إذ كشف آخر استطلاع رأي أجرته مؤسسة “يويلام” للأبحاث خلال شهر مايو 2022 أنّ أردوغان يتخلف عن مرشح أحزاب المعارضة المرتقب بـ(7.8) نقاط، كما أشار الاستطلاع إلى أن 34% من المستطلعين قالوا إنّهم سيصوتون لأردوغان مقابل  51.8% قالوا إنّهم يفضلون مرشح المعارضة.

ختاماً، فإن الموقف التركي الذي يتبنى استراتيجية مرنة، إزاء محاولة استثمار تراجع الحضور الفرنسي في غرب وشمال أفريقيا، يعكس حرصاً لدى أنقرة على تحقيق اختراقات في أفريقيا، وهو ما حدا بها إلى رفع مستوى التنسيق العسكري مع دول المنطقة، وتعزيز المبادلات التجارية فضلاً عن توظيف التوترات الراهنة بين باريس ودول الساحل لتقليص نفوذ فرنسا. ومن جانب آخر، فإن حرص تركيا على تعظيم وحماية مصالحها في دول المغرب العربي، يدفعها نحو استثمار تراجع دور باريس من خلال إلتزام موقف أكثر تقارباً مع دول شمال أفريقيا وتجمع دول الساحل غرب القارة.