استضافت أوروبا أخيرا اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى وسط تحديات الحرب الأوكرانية، وسياسة إثبات الوجود الصينية المتزايدة في آسيا. وقد ظلت بعض الأفكار المطروحة نصف منجزة في أحسن الأحوال، مثل "مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" التي تراهن عليها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للإسهام في نهضة الدول النامية، وخلق فرص عمل في الدول الصناعية، وتوفير عائدات من الاستثمار الخاص ومن ثم تحقيق السلام العالمي.
وفي تقريره الذي نشره موقع "المعهد الأميركي للبحوث الاقتصادية"، يقول الكاتب دوغ باندو إن قيادة مبادرة "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" تمثل "تهديدا" للصين التي ينظر إليها الكاتب باعتبارها "على وشك السيطرة على العالم من خلال مبادرة الحزام والطريق، إذ ستصبح البلدان الفقيرة بسببها معدومة من خلال دبلوماسية "فخ الديون"، كما ستسيطر على المشاريع الحيوية في جميع أنحاء العالم، مع بناء المنشآت ذات الاستخدامات العسكرية بشكل سري، حسب الكاتب.
تحدي الصين
وبناء على ذلك، يرى الكاتب أن الولايات المتحدة والغرب مطالبون بالرد من خلال استثمار أموال شعوبهم في النوع نفسه من المشاريع الخارجية، وإنقاذ السكان المحليين، وهزيمة الشيوعيين الصينيين.
ووفقا للكاتب، لا ينبغي الاستهانة ببكين لكنها في الوقت نفسه ليست بالجبروت الذي يتم تصويره، فالاقتصاد الصيني يعاني من التدخل السياسي، وتستحوذ المؤسسات الحكومية على موارد هائلة، وترزح البنوك تحت عبء الديون الثقيلة التي ينضاف إليها تهديد أزمة العقارات، في حين يطمح الشباب إلى مغادرة البلاد.
وأشار إلى أن برنامج مبادرة الحزام والطريق كان طموحا في الأصل، إلا أن بكين قد خففت من توقعاتها، وتدرك أن التركيز على الدول النامية التي تميل حكوماتها إلى أن تكون استبدادية وذات رقابة اقتصادية في الوقت نفسه يحدّ من احتمال تنفيذ المشاريع المتطورة وإدارتها جيدا. وحسب سارة هسو من جامعة "تينيسي"، فإنه "لا يوجد دليل على أن البنوك الصينية تفرط في الإقراض أو تستثمر في مشاريع خاسرة للحصول على موطئ قدم في تلك البلدان".
أميركا والصين
حسب الكاتب، لم تقم جمهورية الصين حتى الآن ببناء شبكة من القواعد الأجنبية، فقد ولّدت الممارسات التجارية الصينية أشكالا مختلفة من ردود الفعل السلبية في دول متنوعة مثل ماليزيا وزامبيا وسريلانكا وباكستان وميانمار، وعانت العديد من الدول من متلازمة "الصين القبيحة" المشابهة لمتلازمة "الأميركي القبيح" الأسطورية أثناء الحرب الباردة، ويرى الكاتب أن مبادرة الحزام والطريق ليست القوة الجيوسياسية الماحقة التي ترهب كثيرين في الغرب.
كذلك يعتقد الكاتب أن جو بايدن ملتزم بخطته السابقة لمحاربة التضخم من خلال إنفاق مزيد من الأموال، "وقد أعلن البيت الأبيض إلى جانب بقية قادة مجموعة دول السبع الكبرى مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي لحشد مئات المليارات من الدولارات وتقديم بنية تحتية عالية الجودة ومستدامة تحدث فرقا في حياة الناس في العالم، وتقوي وتنوع سلاسل الإمداد الخاصة بنا، وتخلق فرصا جديدة للعمال والشركات الأميركية، وتعزز أمننا القومي".
ومن المتوقع أن تسهم الولايات المتحدة بمبلغ 200 مليار دولار لمدة 5 أعوام؛ وذلك "من خلال المنح والتمويل الاتحادي والاستفادة من استثمارات القطاع الخاص"، على أن يستكمل هذا المبلغ "برأس مال إضافي من شركاء آخرين متشابهين في التوجهات ومصارف إنمائية متعددة الأطراف ومؤسسات التمويل الإنمائي وصناديق الثروة السيادية وغير ذلك".
ومن المقرر أن تسهم دول مجموعة السبع الأخرى بمبلغ 400 مليار دولار أخرى في الوقت نفسه، ومن المفترض أن يركز التمويل على 4 أولويات رئيسة:
- معالجة أزمة المناخ وتعزيز أمن الطاقة العالمي.
- تطوير وتوسيع ونشر البنية التحتية لشبكات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الآمنة.
- تعزيز المساواة والإنصاف بين الجنسين.
- تطوير وتحديث البنية التحتية للنظم الصحية والإسهام في الأمن الصحي العالمي.
وأكد بايدن عند إعلانه المبادرة أن "هذه ليست مساعدة أو صدقة، بل هي استثمار سيحقق عوائد لكل شخص بما في ذلك الشعب الأميركي وشعوب بلداننا جميعا، وسيعمل على تعزيز جميع اقتصاداتنا".
بناء عالم أفضل
يهدف البرنامج إلى "الترويج للديمقراطية وهزيمة الاستبداد"، ويبدو كل هذا رائعا من الناحية النظرية، لكن الكاتب يرى أن المشاكل المرافقة له كثيرة:
- أولها أن "مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" تم تجديدها بعد أن بدأت في السنة الماضية باسم "إعادة بناء عالم أفضل" بهدف التماهي مع خطة الإنفاق المحلي الكبيرة للإدارة الأميركية. وإدراكا منها أن المعارضين الجمهوريين من غير المرجح أن يتقبلوا جهدا دوليا مشابها، وأن الحكومات الأجنبية لا تريد أن ينظر إليها على أنها تدعم برنامجا سياسيا حزبيا، وضعت الإدارة مبادرتها القديمة في روح جديدة.
- ثانيا، يوحي الاسم الجديد والإعلان الرسمي بأن جميع المسؤولين توصلوا إليه بعد عام من التفكير والسفر والمشاورات. هل هذا هو حقا العمل الصعب لصياغة البيان؟ ومع عدم تقديم أي أسماء أو التزامات، إذن من أين جاءت التقديرات بـ200 مليار دولار و600 مليار دولار؟ وكيف ستنفذ المساهمات المالية؟ إن مؤتمرات المعونة الدولية تجتمع بشكل روتيني، وتقدم وعودا سخية بالمساعدة، ومع ذلك حتى هذه الالتزامات التي تم التعهد بها لبعض أكثر الناس يأسا على وجه الأرض، غالبا ما لا يتم الوفاء بها.
- ثالثا، إن "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" ليست ناقصة فقط بل بالكاد بدأت، والإدارة وأعضاء مجموعة السبع لا يتظاهرون حتى بأنهم قد طوروا شيئا جديدا، بل قاموا بدلا من ذلك بعرقلة بعض المشاريع القائمة، وقاموا بدعوة بعض الوكالات، وأشاروا إلى بعض الأموال الموجودة، وتوقعوا أن تنضم إليها مجموعة من الوكالات العامة والصناديق الخاصة القائمة، ثم توقعوا مشاريع رائعة لم تُحدد بعد، فضلا عن إنشائها، وأشاروا إلى أن كل شيء سيخضع لمعايير لم يتم تطويرها بعد، مع عائدات لم يبرهن عليها بعد، حسب الكاتب.
- رابعا، من الصعب هزيمة خصم لا تملك شيئا لهزيمته به؛ فقد واءمت بكين مبادرة الحزام والطريق مع الواقع الاقتصادي والسياسي بمرور الوقت، وقدمت أموالا حقيقية لمشاريع حقيقية، وإن تفاوتت النتائج. أما جهود الولايات المتحدة السابقة لمواجهة برنامج الصين فلم تحقق الكثير، في حين تريد الدول الفقيرة الأموال لأن ما يبدو أنه انتقاد أميركي للتمويلات الصينية لا يخدم مصالحها الذاتية.
- خامسا، كيف ستقدم كل هذه الاستثمارات الضخمة غير المحددة "عوائد للجميع" على حد تعبير بايدن؟ وإذا كان هناك هذا العدد من المشاريع الفريدة ذات التصميم الاجتماعي والاقتصادي السليم، فلماذا لم تموّل بالفعل؟ فكل من البنك الدولي، وبنك التنمية الآسيوي، وبنك البلدان الأميركية، وبنك التنمية الأفريقي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير في حالة انشغال، وكذلك الأمر لدى عشرات وكالات المعونة في جميع أنحاء العالم المتقدم، كما تحتفظ الحكومات بصناديق الثروة السيادية، ويبحث رأس المال الخاص عن فرص اقتصادية مهملة لا تعوض. إذن، ما القيمة الإضافية التي ستقدمها البيروقراطيات الحكومية عبر مجموعة السبع؟
- سادسا، إذا كانت الخطة كلها مرتبطة بالتمويل الخاص، فما دور الحكومة؟ فقد قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان "ما نحاول الحث عليه حقا هو إرساء علاقة اقتصادية طويلة الأمد متجذرة في استثمارات القطاع الخاص، وليس في التحويلات النقدية الضخمة من الخزانة الأميركية إلى هذه البلدان. وهذا يعني أخذ مبالغ أقل نسبيا من الأموال، والاستفادة من استثمارات القطاع الخاص الكبيرة لتضيف ما قد يصل إلى مليارات الدولارات، وفي النهاية عشرات المليارات من الدولارات".
ومع قدرة القطاع الخاص على الاستثمار الآن، ما الذي تطمح الحكومة لجلبه بخلاف الأموال الخاصة غير المتوفرة؟ وما الذي سيجعل المستثمرين من القطاع الخاص يدخلون هذه الأسواق الآن، على عكس أي وقت مضى؟ هل ستُموَّل بأموال دافعي الضرائب؟ إذن، لن تكون هناك عائدات حقيقية، حسب الكاتب.
- سابعا، إذا كانت الخطة الحقيقية هي تمويل مشاريع ذات آفاق اقتصادية أقل من ممتازة ومن النوع المدعوم لمدة طويلة من قبل بنوك التنمية المتعددة الأطراف والحكومات، فما مدى واقعية توقع "عوائد للجميع"؟ ولماذا نتوقع نتائج أفضل من مساعدات التنمية الاقتصادية السابقة؟ وماذا عن شركة "ملينيوم شالنج" التي كُشف النقاب عنها سنة 2004 وسط ضجة كبيرة بوصفها وسيلة جديدة لمساعدة التنمية العالمية بشكل أفضل؟ وما الدليل على ندرة الأموال للمشاريع الجيدة؟
عموما، يعدّ سجل المساعدات الاقتصادية سيئا، وليس هناك دليل على أن كثيرا من الخير سيأتي من الولايات المتحدة وأوروبا بوضع أموال جيدة بعد الأموال السيئة التي قدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنوك التنمية المتعددة الأطراف الأخرى، فضلا عن وكالات المعونة الحكومية والبنوك التجارية.
اعتبارات سياسية
ثامنا، من المرجح أن تتأثر "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" بمتطلبات الحذر من التحيز والتمييز العنصري، وقد تكون هناك مزايا سياسية محلية من خلال معالجة قضايا مثل تغير المناخ، وتكنولوجيا المعلومات، والمساواة بين الجنسين، والرعاية الصحية. ولكن من المرجح أن توضع العديد من البرامج الملائمة لتلك الموضوعات بعيدا عن موضوع البنية التحتية الذي من غير المرجح أن يقدم أي عوائد اقتصادية، وقد يكون بعضها مثيرا للجدل سياسيا في الداخل والخارج، كما أن من المرجح تجاهل العديد من مجالات الاستثمار المهمة.
وأخيرا، يختم الكاتب بالتساؤل: كيف يمكن لبرنامج استثمار غير مموّل ولا يخضع للمعايير حاليا النهوض بالديمقراطية؟ وهل سيعمل الحلفاء مع الأنظمة الديمقراطية فقط، حقيقية كانت أو صورية؟ إذا كان الأمر كذلك، سيظل كثير من العالم يعتمد على آليات التمويل الحالية، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق. وإذا لم يكن الأمر كذلك، هل سيكون تقديم الأموال مشروطا على الأقل بسلوك أفضل وتعاون أقل مع السلطات الاستبدادية؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن المرجح أن تتصاعد الحماسة للمشاركة، وإذا لم يكن كذلك فكيف ستجعل "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" الديمقراطيات "تفوز بالمنافسة" ضد الصين، كما ادّعى بايدن؟
يقول الكاتب إن للغرب تاريخا طويلا في تقديم التمويل التنموي للدول الفقيرة، "ومع الأسف كان سجله سيئا؛ فقد استمرت المشاكل مع مرور السنين، وفي نهاية المطاف أدركت الحكومات الدور الحيوي للأسواق والديمقراطية في الدول النامية، كما دعمت بنوك التنمية المتعددة الأطراف كثيرا أسلوب الإدارة الأفضل لمساعدة المشاريع على النجاح".
وخلص الكاتب إلى أن من غير المرجح أن يكون برنامج "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" الجديد الذي قدمته إدارة بايدن أفضل من مبادرات التطوير السابقة، وعلى الأرجح "لن يقدم أي جديد، والأسوأ من ذلك أنه مشروع ذو طابع سياسي يستهدف الصين بالأساس".