على الرغم من الآثار الكارثية لجائحة كورونا “كوفيد-19” والحرب الأوكرانية على القارة الأفريقية فإن مشروع الاتحاد الأفريقي “إسكات البنادق بحلول عام 2020” لا يزال مجرد حبر على ورق. لقد ازدادت حدة النزاعات والصراعات الأفريقية وإن لم يتم توجيه الاهتمام الكافي لها من قِبل وسائل الإعلام الدولية. وعلى سبيل المثال دخلت منطقة الساحل في عام 2022 منعطفاً جديداً بعد نحو عقد من الزمان وسط اضطرابات متصاعدة، مع زيادة مستويات العنف السياسي المنظم في عام 2021 مقارنة بعام 2020. ويرتكز هذا الصراع العنيف في منطقة الساحل إلى حد كبير على تمرد الحركات الإرهابية في كلٍّ من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وهي الدول الأكثر تضرراً من الأزمة. بيد أن الآثار غير المباشرة للأزمة على الدول الساحلية المجاورة لغرب أفريقيا مثل ساحل العاج وبنين اتخذت أبعاداً أكبر وأكثر تعقيداً. كما أدى ضعف الحوكمة والمنافسة بين القوى الكبرى إلى زيادة تعقيد الديناميكيات الإقليمية، رغم أن التأثير العام لا يزال غير واضح.
وعلى صعيد القارة كلها فقد لقي أكثر من 20 ألف أفريقي حتفهم في صراعات عنيفة في عام 2020، أي ما يقرب من عشرة أضعاف ما كانت عليه الحال قبل عقد من الزمن. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية التي عانت مقتل ملايين عدة في النزاعات العنيفة على مدار العقود الماضية، كان أكثر من 2400 شخص ضحية للحرب في عام 2020 وحده. ومن الواضح أن عملية إضفاء الطابع الأمني على عمليات التنمية، أي إخضاع أهداف النمو والتنمية للأولويات الأمنية، لم تنجح في توفير الأمن، بل إنها قوضت دعائم التنمية تماماً. كما أن التعويل على المصادر الخارجية في مبادرات الأمن الداخلي وإحلال السلام لم يجد نفعاً هو الآخر، وبدلاً من ذلك، تم تمكين القوى الأجنبية من التدخل في الصراعات الوطنية؛ ما أدى إلى إطالة أمدها. لم يكن مستغرباً تقويض عمليات التكامل الإقليمي والتنمية الاقتصادية، كما تبرزه حالات ليبيا ومالي والصومال، التي تشهد ما يمكن تسميته حالة حرب بالوكالة لأكثر من عقد من الزمان. وتسعى هذه الدراسة إلى مناقشة مفهوم الحرب الباردة الجديدة ومدى اختلافه أو تشابهه مع مفهوم الحرب الباردة الأولى، ثم الإجابة عن عدد من التساؤلات المهمة التي تشمل: لماذا تكتسب أفريقيا أهمية استراتيجية متزايدة في سياق سياسات التنافس الدولي؟ وما ملامح الحرب الباردة الجديدة وانعكاساتها على أفريقيا؟ وكيف تنجو أفريقيا من مخاطر حرب باردة جديدة من خلال عدم تكرار البدايات الخاطئة؟
الحرب الباردة (2)
ربما تكون الحرب الباردة قد انتهت قبل ثلاثة عقود، ولكن بدأ عالم اليوم يشهد نوعاً آخر مختلفاً تماماً عن الحرب الباردة الأولى، حيث بات حلف “الناتو” يركز على منطقة المحيطين الهندي والهادي من جهة، وعلى دول الجوار في أوروبا الشرقية من جهة أخرى، مع احتواء كل من الصين وروسيا. وإذا كان المفكر الاشتراكي الفرنسي رينيه دومون قد أكد أن مشكلة أفريقيا تتمثل في البدايات الخاطئة فإن القارة لا تستطيع تحمّل تبعات حرب باردة أخرى. لقد أودت الحرب الباردة الأولى بحياة الملايين من الأفارقة وقوضت التكامل الإقليمي والتنمية الاقتصادية، ولا يمكن للأفارقة تحمّل مثل هذه التبعات مرة أخرى. على سبيل المثال من شأن حرب باردة ثانية، في ظل انتشار القواعد العسكرية الأجنبية والاستعانة بمصادر خارجية للأمن القومي، أن تقوض الجهود الأفريقية لتحقيق التكامل الاقتصادي وتسريع عملية التحول الهيكلي لتحقيق اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية.
في مقدمة كتابه “الدبلوماسية”، كتب هنري كيسنجر أنه “على رأس كل قرن تظهر بلد لديها القوة والإرادة والزخم الفكري والأخلاقي لتشكيل النظام الدولي بأكمله وفقاً لقيمها”. كان العديد من الصينيين يقرؤون هذه المقولة باعتبارها تنطبق على جمهورية الصين الشعبية في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإنه على الرغم من أن الصين لديها الإرادة لتشكيل النظام الدولي، فإن قوتها غير مؤكدة، كما أن إعدادها الفكري والأخلاقي ربما يكون غير كافٍ. وفي الوقت نفسه لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقوتها العالمية، وإن كانت تواجه تحديات كبرى في النظام الدولي. وذلك دفع هنري كيسنجر مرة أخرى في نوفمبر 2019 لكي يحذر أن الولايات المتحدة والصين أصبحتا على شفا حرب باردة جديدة يمكن أن تنتهي بنزاع أسوأ من الحرب العالمية الأولى. وبعد جائحة كورونا “كوفيد-19” والتغيير في الإدارة الأمريكية، والحرب الدموية في أوكرانيا لاحقاً، دخلت العلاقة بين الصين والولايات المتحدة مرحلة الحرب الباردة الجديدة.
قد تبدو هذه الحرب الباردة الجديدة تعبيراً عن ضغوط مماثلة لتلك التي فرضتها الحرب العالمية الثانية. وعليه يمكن استخدام مفهوم الحرب الباردة (2) أو الجديدة؛ لأن ذلك يذكرنا أولاً بالدمار الذي يمكن أن يُحدثه هذا التنافس إذا أصبح ساخناً، وثانياً الاستمرارية من حالة التنافس الدولي خلال الفترة (1947 – 1991)، وتلك التي بدأت في عام 2012. تماماً مثلما ينظر العديد من المؤرخين اليوم إلى الحربين العالميتين على أنهما صراع واحد مع وجود فترة استراحة طويلة. لكل هذا ينبغي أن نرى الحربين الباردتين على أنهما مرحلتان متصلتان في تطور النظام العالمي في حقبة ما بعد الاستعمار والعصور العالمية. ومع التأكيد على الاستمرارية فإن هناك عوامل فريدة للحرب الباردة (2) سوف تشكل ملامحها ونتائجها. وعلى سبيل المثال التعددية، وما سماه فريد زكريا “صعود البقية”، وهو ما يعني أنه لا يمكن للصين أو الولايات المتحدة أن تسعيا لتحقيق هذا النوع من النصر الكامل الذي حققته الولايات المتحدة في الحرب الباردة الأولى.
تبدو الحرب الباردة الجديدة بخصائص مختلفة بسبب العدد الكبير من التغييرات التاريخية التي يعد ظهورها المتزامن السمة المميزة للعصر الذي نعيش فيه. إن صعود الصين ودول أخرى مثل روسيا يدعونا إلى إعادة النظر في افتراضاتنا الجيوسياسية المتعلقة بطبيعة النظام الدولي. لكننا نواجه في الوقت نفسه تحديات كبيرة بالقدر نفسه في مجالات أخرى، مثل: الاحتباس الحراري، وفقدان التنوع البيولوجي، وعولمة سلاسل التوريد، ومسببات الأمراض، والجريمة، وظهور تقنيات جديدة، مثل: البيولوجيا التركيبية، والهندسة الوراثية، وارتفاع معدلات العلمانية، والتطرف الديني، التي ستعيد بدورها تشكيل المجتمعات. وعليه، من المرجح أن تقوم الولايات المتحدة والصين بتقديم تنازلاتٍ وتعاونٍ خلال الحرب الباردة الجديدة لم تشهدها فترة تنافس الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة الأولى. علاوة على ذلك، فإن مواجهة هذه التحديات ستحد من الموارد والاهتمام الذي يمكن لواشنطن وبكين تخصيصهما لمنافسة بعضهما.
وعلى أي حال فإن النظام الليبرالي الدولي الذي ساعدت أمريكا في تأسيسه منذ نحو 75 عاماً ينهار. كما جادل مايكل بيكلي، مؤخراً، فإن الخوف من الصين يؤدي إلى تشكيل نظام دولي جديد. ومن جهة أخرى في ظل غياب التناقضات الأيديولوجية والقيمية الحقيقية في الحرب الباردة (2)، يتم بناء الصراع بشكل مصطنع؛ فروسيا متهمة بالآثام كلها، من قمع الديمقراطية إلى التدخل في الانتخابات في الدول الأجنبية. والصين متهمة بقمع الأقليات العرقية في الداخل وبالتجسس في الخارج. وردّاً على ذلك، يتم تقديم صورة لغرب ما بعد مسيحي بلا روح، مملوء بأنواع الانحرافات جميعها، وتبدو الولايات المتحدة، وكأنها تحاول استعباد العالم بأسره. مثل هذه التركيبات الأيديولوجية تقسم الشعوب فيما بينها بشكل فعال وتدمر سمعة دول بأكملها، لكنها غير قادرة على زرع الكراهية الحقيقية في مواطني الدول المتنافسة. انتهى التقسيم إلى الأسود والأبيض، كما كان خلال الحرب الباردة الأولى، وتم استبداله بظلال عديدة من اللون الرمادي. فالصين وروسيا تعلنان شراكة استراتيجية غير مسبوقة بين البلدين، لكن البنوك الصينية ترفض منح قروض للشركات الروسية خوفاً من العقوبات الأمريكية. وتشترك الهند والصين في مجموعة “بريكس” و”منظمة شانغهاي للتعاون”، لكن الهند تعارض مشروع الحزام والطريق الصيني. كما أن البرازيل جزء من “البريكس”، لكنها تدعم العقوبات الأمريكية ضد إيران. حتى في المجتمع الأطلسي، ليس كل شيء على ما يرام: تختلف الولايات المتحدة وألمانيا حول عدد من القضايا، وتتحرك تركيا أكثر فأكثر بعيداً عن الناتو وتنتهج سياسة مستقلة. وهنا يثور التساؤل: هل تجد أفريقيا نفسها مرة أخرى ساحة للتنافس الدولي في الحرب الباردة الجديدة أم إن القارة ستصوغ سياسة جديدة لانتشال الجماهير من الفقر؟
أهمية أفريقيا في الحرب الباردة الجديدة
تحتل أفريقيا مكانة مهمة للغاية بالنسبة إلى القوى العالمية الكبرى المتنافسة – الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا- في ظل تحولات النظام الدولي. إذ تشكل الدول الأفريقية ما يقرب من ربع الدول التي تمتلك حق التصويت في الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الأخرى، ناهيك عن العديد من المؤتمرات والمنتديات العالمية.
وعليه، فإن الحصول على تأييد الدول الأفريقية يمثل احتياطاً استراتيجياً مهماً في الساحة الدبلوماسية العالمية في ظل تنافس القوى العظمى. لقد أصبحت أفريقيا بالفعل ساحة تنافس شديد بين هذه القوى الأربع، ويرجع ذلك أساساً إلى ثلاثة أسباب:
(أ) تفرد مواردها الطبيعية
(ب) أهميتها الجيوستراتيجية حيث تمثل جسراً طبيعياً بين منطقتي أوروبا والمحيط الأطلسي والهند والمحيط الهادي التي تقع في مقدمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، كما أنها تعد بوابة جنوبية لأوروبا بموجب تصميمات "الحزام والطريق الصيني".
(ج) وزنها الجماعي وأهميتها للمناورة السياسية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، بالنسبة إلى كل من الصين والولايات المتحدة، فإن “مناطق الضعف الأفريقية” هي أداة قوية لإبراز نفوذ كل منهما أمام أوروبا، التي تعد علاقتها الخاصة بأفريقيا واحدة من المظاهر المتبقية من “النفوذ العالمي” المتراجع للاتحاد الأوروبي. إذ لا تزال الفوائد من العلاقات الاقتصادية مع المستعمرات السابقة مصدراً مهماً لرفاهية الطبقة الوسطى في الدول الأوروبية.
طبقاً لوثائق الاتحاد الأوروبي، فإن أفريقيا “شريك استراتيجي” وإن البرامج والسياسات التي يتم تنفيذها تأتي في إطار “الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا”. وعلى عكس مراكز القوى العالمية الأخرى المتنافسة جميعها، فإن الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية للمنطقة في حد ذاتها لا تشكل مصدر قلق رئيسياً لروسيا المعاصرة. في سياق استراتيجية موسكو الحالية، تعتبر القارة مهمة في الغالب كشريك اقتصادي محتمل. لذلك، فإن المصالح الجيوستراتيجية للاتحاد الروسي في المنطقة تخضع لتلك الرؤية. وعلى عكس الدعاية الغربية، من وجهة النظر الاستراتيجية، فإنها تُترجم بشكل شبه حصري إلى مخاوف تتعلق بحرية الملاحة ونقل البضائع الروسية عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. علاوة على ذلك، حتى عند المقارنة مع الجهات الفاعلة الثلاث الأخرى، فإن مكاسب موسكو الملموسة فيما يتعلق بوجودها الأفريقي ما زالت محدودة للغاية.
وفقاً لتوقعات معهد الدراسات الأفريقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ستزداد أهمية المناطق الإقليمية الفرعية في القارة بشكل غير متزامن. ويتم اليوم توجيه الانتباه الأكبر إلى المنطقة الواسعة الواقعة جنوب البحر الأبيض المتوسط التي تضم دول شمال أفريقيا والساحل. كما سوف يزداد الاهتمام الاستراتيجي بـمنطقة البحر الأحمر الكبرى بشكل كبير، أي بلدان أفريقيا وآسيا التي لها منفذ إلى البحر الأحمر، بما في ذلك مصر وشبه الجزيرة العربية وإسرائيل وأرخبيل سُقطرى وسيشيل وحتى أرخبيل تشاغوس. بالإضافة إلى المناطق النائية الأفريقية غير الساحلية، مثل: إثيوبيا وجنوب السودان وشرق تشاد وشمال كينيا. من المرجح كذلك تزايد أهمية المناطق الفرعية الجنوبية الشرقية والجنوبية، مثل: تنزانيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا والأقاليم ذات الصلة، والمعروفة باسم المخروط الجنوبي لأفريقيا. في الفترة المقبلة حتى عام 2030، ستشهد منطقة البحر الأحمر الكبرى طفرة اقتصادية، تتبعها زيادة في الأهمية الجيوستراتيجية نتيجة اندماجها النشط في البنية التحتية العالمية، والنقل، وسلاسل المعلومات والاتصالات. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الاهتمام المتزايد بالمنطقة في إطار مشروع “الحزام والطريق” ومشروع الحلم الصيني الضخم. ولم يكن مستغرباً، فقد أصبحت تلك المنطقة الفرعية بالفعل هدفاً لإنشاء قواعد عسكرية كبيرة للقوى الأجنبية من خارج أفريقيا، وهو دليل واضح على أهميتها الاستراتيجية طويلة المدى. ومن المتوقع كذلك أن يستمر نمو الأهمية الجيوستراتيجية للمخروط الجنوبي لأفريقيا لفترة أطول تتراوح ما بين 15 إلى 20 عاماً تقريباً، وسيعتمد ذلك في الغالب على وتيرة تسويق احتياطيات الهيدروكربونات الكبيرة المكتشفة حديثاً التي يصعب استغلالها في مضيق موزمبيق، بالإضافة إلى المواد الخام الاستراتيجية، بشكل أساسي الخامات التي تحتوي على معادن أرضية نادرة في حزام النحاس وجنوب زيمبابوي، بالاقتران والاعتماد على مدى إدراج الصين لهذه الموارد في تعزيز إمكاناتها الاستراتيجية.
ملامح الحرب الباردة الجديدة
يمكن الحديث عن أربعة ملامح بارزة لما يمكن أن نسميه الحرب الباردة الجديدة الزاحفة باتجاه أفريقيا:
- تزايد دور القوى الصاعدة في النظام الدولي
برزت “القوى الصاعدة” في الساحة العالمية، وعلى رأسها الصين والهند والمكسيك وتركيا وإندونيسيا وروسيا، التي تطالب بدور مناسب في إدارة الشؤون العالمية. وتسعى هذه القوى حثيثاً لأن يكون لها وضع سياسي يعكس قوتها الجديدة، فضلاً عن تحدي المؤسسات التي ضمنت سيادة الغرب في كل من الشؤون العالمية وتوزيع الثروة في العقود السابقة. وتهدف هذه القوى الصاعدة إلى تسوية العديد من المشكلات الدولية. أولاً، لم تعد القوى الصاعدة مستعدة لاتخاذ موقف تابع في سلاسل القيمة العالمية التي تسيطر عليها الشركات الغربية متعددة الجنسيات. ثانياً، تطالب القوى الصاعدة بإعادة تشكيل المؤسسات العالمية، وخاصة الاقتصادية منها، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الدول المنتصرة، على سبيل المثال لم يشارك الاتحاد السوفيتي في إنشاء المؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل: “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”. ثالثًا، تعتزم القوى الصاعدة إزالة النظام اللوجيستي العالمي جزئياً على الأقل من السيطرة المطلقة للولايات المتحدة وحلفائها. إذ تخضع التجارة العالمية لسيطرة شركات عالمية مقرها الغرب وتحرسها البحرية الأمريكية. على سبيل المثال كان الرد على هذا الوضع هو مشروعات البنية التحتية الصينية وجهود روسيا لتطوير الشحن في القطب الشمالي.
في هذا السياق، تبرز أفريقيا كساحة جيوسياسية رئيسية، حيث سعت القوى الصاعدة إلى الحصول على التأثير والموارد والأصوات. وعلى الرغم من أن وجود هذه القوى كان مدفوعاً في المقام الأول بالتجارة والطاقة، فإن مصالحها الأفريقية قد أصبحت ذات طابع استراتيجي أكبر، وهو ما جعلها أكثر حساسية تجاه القضايا الأمنية في أفريقيا. لم يكن مستغرباً أن تستثمر هذه القوى الصاعدة في منع الصراع من خلال المساهمة في حفظ السلام والوساطة وإصلاح قطاع الأمن. ومع ذلك، فإن هذه المبادرات لم تكن جديدة تماماً. على سبيل المثال، أعادت الصين بناء القوات المسلحة التنزانية من الألف إلى الياء في منتصف الستينيات من القرن الماضي. وفي عام 1975، أرسلت البرازيل سراً فريقاً من الخبراء العسكريين لمساعدة الجبهة الوطنية لتحرير أنغولا خلال المراحل الأولى من الحرب الأهلية. كما جاءت أول مشاركة رئيسية للهند في حفظ السلام مع عملية الأمم المتحدة في الكونغو خلال الفترة ما بين الأعوام من 1960 إلى 1964، حيث تكبدت خسائر فادحة. وعليه فإن الكثير من القوى الصاعدة تمتلك خبرة واسعة سابقة في مجال الأمن الأفريقي
يبدو أن مشاركة الصين، مؤخراً، اجتذبت أكبر قدر من الاهتمام العلمي والعام. فالملف الأمني للصين في أفريقيا يتميز بمساهمتها المتزايدة في بعثات حفظ السلام وبيعها الأسلحة للأفارقة. كما أقامت أول قاعدة عسكرية أجنبية لها في عام 2017 في جيبوتي، وعُقد المنتدى الصيني-الأفريقي الأول للدفاع والأمن في عام 2018. أما بالنسبة إلى البرازيل فقد استثمرت حتى عام 2014، بشكل كبير في الاتصالات العسكرية مع نظرائها الأفارقة من خلال اتفاقيات تعاون دفاعي متعددة وبيع أو التبرع بالمعدات العسكرية، في المقام الأول إلى البلدان المطلة على جنوب المحيط الأطلسي. وفي الوقت نفسه، بنت الهند على مصالحها الاقتصادية في شرق أفريقيا من خلال السعي إلى زيادة قدرات خفر السواحل الإقليمية والقدرات البحرية والاعتماد على التدريبات المشتركة والدوريات والتعاون التقني والاستخباراتي وتسليم المعدات الدفاعية.
ومع ذلك، على الرغم من أن هناك مصالح متشابهة في تكثيف التشابكات الأمنية مع أفريقيا، فقد ظهرت أوجه تشابه بين هذه القوى الصاعدة على المستوى المعياري الخطابي أيضاً، إذ تسلط المبادئ التوجيهية والاستراتيجيات الرسمية الضوء على أهمية دور التعاون العسكري. وغالباً ما يتم استخدام مفاهيم التضامن والتعاون متعدد الأطراف كمحور أساسي لعلاقتهم مع أفريقيا. ويؤكد الخطاب الرسمي للقوى الصاعدة عموماً أنها لا تمتلك تاريخاً استعمارياً مثل القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة، وبالتالي تشكل بديلاً مقبولاً لدى الأفارقة. وبالفعل، فإن مواقف القوى الصاعدة الخارجية ترتكز إلى حد كبير على سردية مبنية تماماً في مواجهة الدول الغربية. أخيراً، كثيراً ما يتم طرح مبادئ احترام السيادة الوطنية وعدم فرض شروط سياسية باعتبارها مزايا إضافية.
- الحرب بالوكالة
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية وعودة الحروب بالوكالة للقوى العظمى التي تعمل على استدامة تدويل الصراعات وتسريعها، يمكن أن تعاني أفريقيا، مرة أخرى، تداعيات كبيرة تتجاوز التكاليف المالية وتباطؤ النمو الاقتصادي. وبالفعل تشعر الدول الأفريقية بضغوط متزايدة من جانب كلٍّ من واشنطن وبكين للانحياز إلى أي منهما. والناظر إلى أزمة أوكرانيا في عام 2021 يجد أنها تسلط الضوء على مثل هذه المعضلات، التي من المرجح أن تزداد حدة مع اتساع نطاق ساحة المواجهة بين القوى العظمى. ولا شك أن هذه الحروب بالوكالة تزيد من حالة عدم اليقين، وتقوض الاستثمار طويل الأجل وتعطل النمو الاقتصادي، كما تؤثر سلباً في استقرار التجارة عبر الحدود. فقد تراجعت التجارة غير الرسمية بين مالي والجزائر، على سبيل المثال، بأكثر من 64% منذ عام 2011، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الصراع في شمال مالي وإغلاق الحدود بين البلدين. لقد كانت عملية إعادة الاصطفاف الجيوسياسي هذه على قدم وساق في أفريقيا حيث تدور حروب بالوكالة في مناطق متعددة بما في ذلك إثيوبيا، التي تستضيف مقر الاتحاد الأفريقي، حيث تتنافس القوى المتنافسة على السيطرة على الموارد الطبيعية وطرق التجارة الاستراتيجية. كما وضع تناطح القوى العظمى العالم على الطريق نحو حرب باردة جديدة، وظهرت أفريقيا مرة أخرى كساحة لممارسة هذا النزال.
ويمكن أن نشير إلى أربعة عوامل يمكن أن تزيد من تكرار الحروب بالوكالة في بيئة جيوسياسية متغيرة يهيمن عليها طوفان من المقاتلين الأجانب وانتشار التكنولوجيا في أفريقيا. تشمل هذه العوامل صعود الصين وغيرها من القوى الكبرى والمتوسطة في النظام الدولي، والحرب على الإرهاب، وظهور الشركات العسكرية الخاصة، وتأثير التكنولوجيا الرقمية.
لقد تغيرت طبيعة المشهد الأمني في أفريقيا في السنوات الأخيرة بعد تصاعد وتيرة التنافس الدولي: من خلال التدريب العسكري والدعم الفني، ومبيعات الأسلحة – بما في ذلك الطائرات من دون طيار – والتي تغير من طبيعة الصراع في بعض البلدان، وإنشاء القواعد العسكرية. وربما يساعد على ذلك اتجاه عام يدفع إلى القلق الشديد. يتمثل هذا الاتجاه في تزايد التأثير – السلبي عادة – للقوات الأجنبية على الصراعات والتحولات السياسية في القارة الأفريقية. لقد أصبحت هذه الصراعات بشكل متزايد ساحات للحرب بالوكالة، حيث تستعرض القوى الأجنبية عضلاتها لتحديد النتائج وفقاً لمصالحها. لنأخذ التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل كمثال، أو تدخل روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى، والصين في القرن الأفريقي وجميعهم لم يؤدِ إلى نتائج أفضل على الأرض، أو دور القوى “الوسطى” مثل تركيا في ليبيا، حيث أدى الإمداد الحماسي واستخدام الأسلحة الفتاكة، وخاصة الطائرات من دون طيار، إلى تكثيف ديناميكيات وتكاليف النزاعات هناك بشكل كبير.
إن السماح لأفريقيا بالتحول إلى ساحة لسياسات القوى الكبرى والمتوسطة كان له بالفعل تأثير مدمر في أولئك الذين يعيشون في بلدانها. وعليه، فإن التقدم نحو الأهداف التنموية وخطة الاتحاد الأفريقي سوف يلقى بها جانباً إذا سمحت أفريقيا للمنطقة بأن تكون مرة أخرى منصة للتنافس بين القوى الكبرى والتي تأخذ شيئاً فشيئاً شكل الأنشطة العسكرية. وعليه يصبح أحد أكبر التحديات السياسية التي تواجه الجهات الفاعلة الأفريقية – بما في ذلك الاتحاد الأفريقي – يتمثل في معرفة كيفية وقف هذه الاتجاهات الخطرة وعكسها. إن نقطة البداية، بالطبع، هي معالجة فجوة القيادة والحكم الرشيد والالتزام بمبادئ الوحدة الأفريقية كأيديولوجية منظمة للتعبئة والعمل الجماعي. يعني ذلك أن مشروع التضامن الأفريقي والوحدة الحقيقية كما عبّـر عنها الأباء المؤسسون، بعيداً عن التعابير البلاغية السائدة اليوم، تعد طوق النجاة الوحيد من براثن الحرب الباردة الجديدة.
- تمدد الجماعات الإرهابية
تزامنت الزيادة الهائلة في الصراعات العنيفة والخسائر المادية والبشرية المرتبطة بها في أفريقيا مع تمدد الشبكات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية، التي استفادت من ظاهرة المقاتلين الأجانب المتنقلين وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية وسط عمليات إعادة الاصطفاف الجيوسياسي وتصاعد التوترات في النظام الدولي. وعلى الرغم من أن الأزمة الأوكرانية أعادت إحياء التوترات بين الشرق والغرب التي ميزت النصف الأخير من القرن الماضي، فإن التحالفات الجيوسياسية الجديدة تتشكل من خلال المنطق نفسه الذي سيطر على الحرب الباردة الأولى. لقد تركت التهديدات الإرهابية والفقر وتغير المناخ وجائحة كورونا “كوفيد-19” الشعوب الأفريقية في حالة يأس وإحباط عام. انعكس ذلك من خلال تدخل العسكريين الذين أطاحوا حكومات مدنية عاجزة عن مواجهة المد الإرهابي، بما في ذلك حالتا مالي وبوركينا فاسو. وقد سعت روسيا إلى توسيع نفوذها في أفريقيا من خلال تقديم الدعمين العسكري والأمني للحكومات الانتقالية في كل من البلدين. وسرعان ما حلت قوات ميليشيا “فاغنر” التي تعمل بالوكالة لروسيا محل القوات الفرنسية التي انسحبت من مالي.
وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي عام 2022 ازداد عدد الجماعات الإرهابية في أفريقيا مع عودة المقاتلين الأجانب وإضعاف جهاز أمن الدول بسبب عدم الاستقرار السياسي الداخلي والصراعات العنيفة. على سبيل المثال تمثل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 48% من الوفيات العالمية بسبب الإرهاب. كما انتشرت الهجمات خارج بؤر التوتر الساخنة التاريخية، مثل: منطقة الساحل والقرن الأفريقي لتشمل الجنوب الأفريقي والمناطق الساحلية في غرب أفريقيا. هذا على الرغم من تبنّـي الاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء فيه أطراً سياسية واسعة النطاق بشأن الإرهاب والتطرف العنيف، مثل اتفاقية الجزائر لعام 1999 بشأن منع الإرهاب ومكافحته وبروتوكول عام 2004 ذي الصلة، الذي نشر عدداً من الإجراءات المتعلقة بمكافحة الإرهاب وبعثات دعم السلام في أجزاء مختلفة من القارة. ويشمل ذلك فرقة العمل المشتركة المتعددة الجنسيات، ومجموعة دول الساحل الخمس (G- 5)، التي تشمل بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، وبعثة الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي في موزامبيق، وبعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال، ومبادرة التعاون الإقليمي ضد جيش الرب للمقاومة.
- عسكرة مقاربات الدول الأجنبية في أفريقيا
لقد تغيرت طبيعة المشهد الأمني في أفريقيا في السنوات الأخيرة بعد تصاعد وتيرة التنافس الدولي: من خلال التدريب العسكري والدعم الفني؛ ومبيعات الأسلحة – بما في ذلك الطائرات من دون طيار- التي تغير طبيعة الصراع في بعض البلدان، وإنشاء القواعد العسكرية. تشهد أفريقيا اليوم أكبر عدد من العمليات العسكرية التي تقوم بها دول أجنبية على أراضٍ أفريقية – ما لا يقل عن 13 دولة، يمتلك معظمها قواعد عدة عسكرية منتشرة في جميع أنحاء القارة. ولا شك أن طبيعة هذا “التدافع الجديد على أفريقيا” وكثافته مألوفان للغاية، ويشيران إلى أننا أمام حالة حرب باردة جديدة.
وفقاً لأحدث التقديرات الرسمية، فإن أفريقيا تحتضن ما لا يقل عن 47 قاعدة عسكرية أجنبية، مع امتلاك الولايات المتحدة النصيب الأكبر، تليها فرنسا. كما اختارت كل من الصين واليابان إنشاء أول قاعدة عسكرية خارجية لهما منذ الحرب العالمية الثانية في جيبوتي، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تستضيف مواقع عسكرية أمريكية وصينية جنباً إلى جنب. وفقاً لوزارة الدفاع الفرنسية، لدى فرنسا ما يقدر بنحو 7550 عسكرياً منتشرين في جميع أنحاء القارة في عمليات ومهام عسكرية مختلفة (باستثناء عمليات الأمم المتحدة). كما أن الولايات المتحدة لديها عدد أكبر منتشر عبر 34 قاعدة عبر مناطق الشمال والغرب والقرن الأفريقي. ويبدو أن القرن الأفريقي يمثل بؤرة هذا الوجود بنحو 11 قاعدة عسكرية أجنبية. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى قرب المنطقة الاستراتيجي من الشرق الأوسط وآسيا والتهديدات المتصاعدة على طول البحر الأحمر.
وعلى أي حال تنطوي عمليات العسكرة وإضفاء الطابع الأمني على أفريقيا من قِبل الجهات الخارجية، ولاسيما الولايات المتحدة والصين على تنفيذ استراتيجيات عسكرية تشمل نشر القوات، والتعاون في المواجهات المسلحة ضد الجماعات الإرهابية، وحماية المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، وإنشاء قواعد عسكرية تهدف إلى خلق مناخ – ولو متصور – من الاستقرار والأمن من خلال إحباط التهديدات الخطرة الموجهة إلى المصالح الداخلية والخارجية. والنتيجة هي زيادة الوجود العسكري الخارجي في أفريقيا الذي يصبح مع مرور الوقت مؤسسياً. وعليه، فكلما زادت العسكرة والأمننة الداخلية والخارجية، زاد احتمال نشوب صراع على السلطة بين قوى زعزعة الاستقرار – المتمثلة في جماعات الإرهابيين والمتمردين – وقوى تعزيز الأمن الوطني، والتي من المفترض أن تمثلها الصين والولايات المتحدة والأنظمة الأفريقية الحالية.
علاوة على ذلك، يمكن القول إن العسكرة والأمننة يمكن أن يكون لهما آثار سلبية في شكل إثارة المزيد من الهجمات الإرهابية أو أعمال التمرد ضد الولايات المتحدة والصين والأنظمة الوطنية الحاكمة، بسبب إصرار الجميع على توظيف مفاهيم المباراة الصفرية؛ وهذا يعني أنه من المرجح أنه كلما زاد وجود المصالح الاقتصادية الخارجية والوجود العسكري، زادت وتيرة الهجمات الإرهابية على دول، مثل: مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو وساحل العاج، من بين دول أخرى
تصبح النتيجة الإجمالية والحالة هذه هي صراع طويل الأمد لا ينتهي بين الأنظمة الأفريقية الوطنية والولايات المتحدة والصين كقوى خارجية يُنظر إليها على أنها تتدخل في الشؤون الداخلية للبلد المضيف.
الهروب إلى المستقبل
لا يمكن لأفريقيا أن تتحمل تبعات حرب باردة ثانية أو أن تكرر البدايات الخاطئة نفسها. لقرون خلت، كانت القوى الاستعمارية، ثم القوى العظمى زمن الحرب الباردة الأولى، تنظر إلى أفريقيا حصرياً من منظور مصالحها الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية. وهذا ما أدى إلى تقويض فرص لاستثمار طويل الأجل والتكامل الإقليمي، كما أنه أدى إلى نمو مذهل في أماكن أخرى من العالم على حساب القارة الأفريقية. واليوم، نشهد العقلية نفسها، التي تغذيها التوترات بين الولايات المتحدة والصين وإلى حد ما روسيا، تعمل على إدامة حالة انعدام الأمن وتفاقمها؛ ما يكرس وضع الهشاشة في الدول الأفريقية، وخاصة في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي، التي تعاني “فخ الصراع والفقر والإرهاب” وهو الأمر الذي يبقيها في دوامة التراجع والتخلف. لا تكمن الصعوبة في تطوير أو تبنّـي أفكار جديدة بقدر ما تكمن في الهروب من الأفكار القديمة للقفز إلى المستقبل. لن يكون تجاوز عقلية الحرب الباردة سهلاً، ولا سيما في بيئة جيوسياسية متغيرة، حيث يقلل انتشار التكنولوجيا من التكاليف المباشرة التي يتحملها رعاة الحروب بالوكالة. ولكن من الضروري تعزيز النمو والازدهار في أفريقيا من خلال دعم المبادرات الوطنية في تحقيق الأمن والتنمية والتكامل الإقليمي.
لا شك أن الحكومات الأفريقية بحاجة إلى أن تكون أكثر ذكاءً فيما يتعلق بممارسة نفوذها في النظام الدولي الجديد، مثل: تحديد الأولويات، وبناء الشبكات، ووضع جدول الأعمال، والابتكار، وحل المشكلات، وضمان صياغة المصالح من منظور جماعي وليس ثنائي. ولكي تتعافى البلدان الأفريقية من آثار جائحة “كوفيد-19” والحرب الأوكرانية وتحقق تحولاً اجتماعياً واقتصادياً ذا مغزى أيضاً، ستحتاج إلى أن تكون قادرة على التأثير في أنظمة الحوكمة العالمية لتشكيل القواعد والمعايير لصالحها. وعليه، فإذا لم تعمل هذه الدول بشكل فعال من خلال مؤسسات متعددة الأطراف، فقد لا تستطيع تحقيق مصالحها؛ إذا تصرفت بشكل ثنائي. وفي هذه الحالة يكون من غير المرجح أن تحدث أفريقيا تغييراً طويل المدى في إدارة الشؤون العالمية. علاوة على ذلك فقد أوجدت التعددية القطبية العالمية الناشئة فرصاً، ولا سيما للدول الأفريقية لتنويع علاقاتها الخارجية. من المحتمل أن تشارك القوى الصاعدة الأصغر حجماً مثل الدول الخليجية (ولاسيما الإمارات والسعودية) في تبنّـي وجهات نظر أفريقيا وانشغالاتها أكثر من الجهات المانحة القديمة، وذلك من خلال ما تقدمه من شراكات مثمرة أو ما نطلق عليه مفهوم “الطريق الثالث” بعيداً عن حدية النهجين الصيني والغربي.
ختاماً فإنه من الواجب أن تقلل أفريقيا من فرص التدخل الأجنبي بأشكاله كافة من أجل النهوض بأهدافها الأمنية والإنمائية. يمكن أن يبدأ هذا بمنع الصراع والتحول نحو نهج إقليمي للأمن القومي يزيد من المكاسب الاقتصادية والأمنية المرتبطة بالاقتصاديات السياسية ذات الحجم الكبير. بيد أن تحقيق هذه الأهداف، يفرض على صانعي السياسات الالتزام أولاً بمعالجة أصل الداء والعوامل المسببة للصراعات. وعادة ما ترتبط هذه العوامل بعدم العدالة والفساد وضعف المؤسسات وفشل الدولة في أداء وظائفها، وهي جميعها عوامل تنذر في كثير من الأحيان بالتدخل الأجنبي. من جهة أخرى، يجب على القادة الأفارقة إعطاء الأولوية لنهج إقليمي على مستوى القارة لتعزيز الأمن واستدامة السلام. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تزيد من قوة المساومة الجيوسياسية للقارة لتحويل الحدود الأمنية القارية وخفض التكاليف المرتبطة التي تتحملها البلدان الأفريقية بشكل منفرد، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تسريع النمو الاقتصادي ووضع أفريقيا على مسار التنمية المستدامة بشكل صحيح والاستفادة من فرص التحول إلى عالم متعدد الأقطاب. عندئذ يمكن لأفريقيا تجاوز مخاطر الحرب الباردة (2) فقط. وفي ظل الضغوط المتزايدة من واشنطن والاتحاد الأوروبي على الدول الأفريقية من أجل الانضمام للعقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، يناقش العديد من السياسيين الأفارقة مسألة إحياء حركة عدم الانحياز التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة الأولى.