يرى خبراء ومعلقون أميركيون أن زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لتايوان ستضرّ بصورة كبيرة بالعلاقات المتوترة في الأصل بين واشنطن وبكين.
وبيلوسي أرفع مسؤول أميركي يزور تايوان منذ 25 عاما، وذلك ما أثار غضب الصين التي وصفت الخطوة بأنها انتهاك لسياسة "الصين الواحدة".
وعبّرت بكين عن غضبها من هذه الزيارة لتايوان التي تعدّها جزءا من أراضيها، ووعدت بـ "إعادة توحيدها" بالقوة إذا لزم الأمر، وأعلنت سلسلة من التدريبات العسكرية المتقدمة والعقوبات على تايوان ردا على الزيارة.
وقال دبلوماسي صيني إن "على الولايات المتحدة دفع ثمن خطئها"، متوعدا بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي وستتخذ إجراءات مضادة ضرورية وحاسمة، وفق تعبيره.
ودفع ذلك إلى تصعيد جديد في علاقات أكبر قوتين في عالم اليوم، ولذلك يتطرق بعض الخبراء إلى سلبية موقف البيت الأبيض والرئيس جو بايدن من الزيارة وعدم تدخلهما بقوة لمنعها.
بيلوسي وصنع السياسة الخارجية
يمنح الدستور الأميركي الرئيس حقوقا واسعة بخاصة في ما يتعلق بصنع السياسة الخارجية، كونه يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى جانب منصبه الرئاسي على قمة الجهاز التنفيذي للدولة.
ولكن طبيعة النظام الأميركي اللامركزية تجعل من السهل على أي عضو في مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ) التعبير بحرية عن آرائه في السياسة الخارجية من دون الحاجة إلى الاستئذان أو الالتزام بموقف حزبي صارم.
وتزيد مساحة حرية الحركة مع قادة الكونغرس ورؤساء اللجان المتخصصة في القضايا الخارجية، وعلى رأسهم زعامة مجلس النواب. وطبقا للدستور، تتمتع نانسي بيلوسي بصلاحيات واسعة، من أهمها شغل منصب الرئاسة عند عدم قدرة الرئيس ونائبة على القيام بمهامها.
وسمح التوازن بين السلطة التنفيذية والتشريعية بأن تتحرك بيلوسي بحرية في اتخاذ قرارها بزيارة تايوان على الرغم من التكلفة المرتفعة لهذه الخطوة.
ولا يتخذ الكونغرس قرارات تنفيذية تتعلق بملفات السياسة الخارجية، إلا أنه يملك سلطة سنّ تشريعات وقوانين ملزمة للرئيس وجهازه التنفيذي عند تمريرها بأغلبية المجلسين وعدم معارضة الرئيس لها باستخدام حق النقض (الفيتو).
علاقة تمتد 5 عقود
تبلع بيلوسي 82 عاما وبدأت رحلتها في مجلس النواب ممثلة لدائرة بولاية كاليفورنيا منذ عام 1987، في حين يبلغ بايدن 79 عاما وانطلقت رحلته في مجلس الشيوخ عام 1973 لتمتد 35 عاما حتى شغله منصب نائب الرئيس عام 2008.
وترأس بايدن لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، فأتاح ذلك له الاقتراب من إدارة ملف العلاقات مع الصين وتايوان، كما سمح له بالتعامل مع بيلوسي في هذه الملفات، على مدار ما يزيد على 4 عقود.
وتمتلك بيلوسي تاريخا طويلا في معاداة الصين وسياسات بكين تجاه قضايا حقوق الإنسان، وجعلت من انتقاد الصين ودعم تايوان محورا رئيسا خلال أكثر من 3 عقود قضتها في الكونغرس، وكشفت النقاب عن لافتة شهيرة تخلد ذكرى ضحايا حملة القمع الدموية التي شنّها الجيش الصيني عام 1989 على المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في ميدان تيانانمين في بكين خلال زيارتها للميدان عام 1991.
وكتبت بيلوسي في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية "لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي في وقت يشرع فيه الحزب الشيوعي الصيني في تهديد تايوان والديمقراطية نفسها.. نقوم بهذه الرحلة في حين يواجه العالم خيارا بين الاستبداد والديمقراطية. وبينما تشن روسيا حربها غير القانونية مع سبق الإصرار والترصد ضد أوكرانيا، وتقتل آلافا من الأبرياء، حتى الأطفال، من الضروري أن نوضح لحلفائنا أننا لا نستسلم أبدا للمستبدين".
وعلى الرغم من الاستقطاب الشديد بين الحزبين، والعداء الذي يجمع بيلوسي بقادة الجمهوريين، أصدر 26 عضوا جمهوريا في مجلس الشيوخ، بمن فيهم زعيم الأقلية ميتش ماكونيل، بيانا مشتركا دعما لزيارة بيلوسي.
تصعيد كان يمكن تجنبه
أشارت تقارير عدة إلى رفض البيت الأبيض والبنتاغون زيارة بيلوسي لتايوان، أو أظهرت عدم الحماسة لها. ولم تكن إدارة الرئيس جو بايدن داعمة علنا لرحلة بيلوسي، إذ قال الرئيس بايدن نفسه إن الجيش الأميركي يشعر بأنها "ليست فكرة جيدة في الوقت الحالي" وسط تصاعد التوترات بين الجانبين.
وغرد ستيفين والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "هارفارد"، مستغربا عدم تنسيق بيلوسي مع البيت الأبيض. وقال "بعد أسبوع واحد فقط من حصول إدارة بايدن على فوز تشريعي كبير في الكونغرس بشأن المناخ وتطوير التكنولوجيا، يهدد الافتقار إلى التنسيق بين المتهورة نانسي بيلوسي والبيت الأبيض، في مسألة تايوان، بأزمة دبلوماسية غير ضرورية. من المسؤول هنا؟".
"استفزاز متهور"
وفي الوقت نفسه، وصف معلقون أميركيون من أطياف أيديولوجية مختلفة، منهم الكاتب الليبرالي الشهير توماس فريدمان ومذيع شبكة "فوكس" الشهير تاكر كارلسون، رحلة بيلوسي بأنها استفزاز متهور يدفع باتجاه حرب لا يريدها أحد.
ووصف فريدمان الزيارة بأنها "متهورة تماما، وخطرة، وغير مسؤولة"، لأسباب ليس أقلها أن البيت الأبيض شارك في مفاوضات حساسة لمنع الصين من تقديم المساعدة العسكرية لروسيا في أوكرانيا.
وتساءل كارلسون "لماذا تذهب نانسي بيلوسي إلى تايبيه؟ ما تأثير ذلك؟ حسنا، لسنا بحاجة إلى تخمين. وقالت الحكومة الصينية مرارا وتكرارا بوضوح إن بيلوسي إذا هبطت في تايوان، فقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب عالمية".
وأشار كارلسون إلى أن "زيارة رئيسة مجلس النواب لتايوان دليل على الاختلال الوظيفي السياسي حيث يوجد رئيس ديمقراطي لا يستطيع ردع رئيسة مجلس النواب الديمقراطية عن الانخراط في مناورة دبلوماسية عدّها فريقه للأمن القومي بأكمله غير حكيمة؛ من مدير وكالة المخابرات المركزية إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة".
ويرى هؤلاء أن واشنطن لطالما حافظت على موقف "الغموض الاستراتيجي" في ما يتعلق بتايوان. وهذه السياسة، التي أرسيت في قانون العلاقات مع تايوان لعام 1979، جعلت واشنطن لا تتخذ موقفا رسميا بشأن تايوان، غير أنها توفر "علاقات جوهرية ولكن غير دبلوماسية"، بما في ذلك الدعم العسكري.
ونادرا ما يزور المسؤولون الأميركيون تايوان، وكان آخر مسؤول رفيع المستوى تطأ قدماه الجزيرة رئيس مجلس النواب آنذاك نيوت جينجريتش في عام 1997.
لماذا زارت بيلوسي تايوان في هذا الوقت؟
من المعروف على نطاق واسع في واشنطن أن بيلوسي تستعد لخسارة منصبها في رئاسة مجلس النواب عقب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، التي يتوقع أن يسيطر فيها الجمهوريون على أغلبية المجلس.
ويتوقع أن تتقاعد بيلوسي قريبا، من هنا يمكن أن تكون زيارة تايوان تتويجا لمسيرة مهنية طويلة نددت فيها بيلوسي كثيرا بسجل الصين المتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية.
*محمد المنشاوي - باحث وكاتب متخصص في الشؤون الأميركية، ظهرت كتاباته في كبريات الصحف الأميركية مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وفورين بوليسي وغيرهم. عمل المنشاوي في عدد من مراكز الأبحاث بواشنطن.