تشكِّل القدس محورًا أساسيًّا للصراع مع إسرائيل بفعل مكانتها الدينية والسياسية، وباتت المدينة في الآونة الأخيرة بيئة حاضنة لتجديد النضال الفلسطيني؛ حيث انطلقت منها شرارة معظم الهبَّات الشعبية في آخر عشر سنوات لمواجهة الإجراءات الإسرائيلية التعسفية المستمرة التي تستهدف الأماكن الدينية وخصوصًا المسجد الأقصى، وعمليات التهويد والأسرلة لأحياء المدينة، وتنفيذ المشاريع الاستيطانية والاستعمارية للسيطرة على الأرض وتقسيمها، ومحاولات اقتلاع الفلسطينيين عبر التضييق عليهم، وإتمام إجراءات فصل المدينة عن محيطها وعزلها بشكل دائم، وجعلت هذه الهبَّات والحراكات القدس في مركز المواجهة، وسميت بأسماء المناطق التي انطلقت فيها أو الغايات التي انطلقت من أجلها.
تتناول هذه الورقة واقع النضال الفلسطيني في القدس من حيث أشكال النضال وأدواته ومستقبله وانعكاساته على عموم النضال الفلسطيني، والرؤى الفلسطينية الفصائلية والشعبية وعلاقتها ودورها في هذا النضال، وتأثير هذه المواقف من النضال الفلسطيني على أدوار الفاعلين الأساسيين، والمعادلة السائدة بين إسرائيل والقدس في ظل هذه الرؤى. تنطلق الورقة من فرضية وجود تحول في النضال الفلسطيني في القدس في سياق العزل والخصوصية التي فرضها الاحتلال عليها، بالتوازي مع التغيرات الحاصلة على عموم النضال الفلسطيني بفعل مواقف الأطراف بالنظر إلى مشاريعها السياسية ونظرتها للمقاومة في ظل تعدد المشاريع السياسية لدى كبرى الفصائل على الساحة الفلسطينية وتحولات النضال الفلسطيني بشكل عام.
أولًا: مكانة القدس والنضال الفلسطيني
تختلف الرؤى المتعلقة بمكانة القدس لدى الفاعلين السياسيين الفلسطينيين، فمنظمة التحرير الفلسطينية ووليدتها السلطة الفلسطينية تسعى لأن تصبح القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين في إطار مشروع حل الدولتين بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، مع التنازل لإسرائيل بشكل غير مباشر عن القدس الغربية التي كانت قد احتلتها عام 1948 بموجب اعتراف المنظمة بإسرائيل، وقد أجَّلت التفاوض مع إسرائيل بشأن القدس لقضايا الحل النهائي الواردة في البرنامج المرحلي لاتفاق أوسلو الذي أسست بموجبه السلطة الفلسطينية، عام 1994. في حين ترى فصائل العمل الوطني والإسلامي المعارضة لنهج أوسلو، المتمثلة بحركتي المقاومة الإسلامية "حماس" والجهاد الإسلامي، وكذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن القدس بشقيها وضواحيها عاصمة لفلسطين في إطار مشروع تحرير كامل التراب الوطني. وترى أنه لا حق ولا سيادة لإسرائيل على المقدسات الإسلامية والمسيحية. ويختلف خطاب الأحزاب الإسلامية عن اليسارية في نظرتها للقدس، بتركيز الأولى على الأهمية الدينية للمدينة كوسيلة للتعبئة الفكرية والحشد الجماهيري، بينما تركز الأحزاب اليسارية على البُعد القومي العروبي. وهناك أيضًا حزب التحرير الإسلامي في فلسطين الذي يلتقي مع الأحزاب الإسلامية في أن القدس أرض إسلامية والدفاع عنها جهاد لكنه يختلف معها ومع السلطة الفلسطينية أيضًا في نظرته لفكرة الدولة الفلسطينية والحدود؛ حيث يدعو إلى "إقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة"، ويرى أن دفاع أفراده عن مدينة القدس وبالأخص المسجد الأقصى هو جهاد مؤقت لحين استنهاض الجيوش الإسلامية لتحريره. أما الأحزاب العربية والإسلامية داخل إسرائيل فإنها ترى أن القدس حق للفلسطينيين والعرب، وأن النضال مشروع فيها لحمايتها. وتتقارب "الحركة الإسلامية" داخل الخط الأخضر (الفرع الشمالي) التي يقودها الشيخ رائد صلاح مع نظرة حركة الإخوان المسلمين للقدس بأنها إسلامية، وبسبب نضال الحركة ونشاطها داخل القدس أصبحت محظورة وملاحقة من قبل إسرائيل. والفرع الجنوبي من الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر يدعو عبر ذراعه السياسية والبرلمانية "القائمة الموحدة" المشاركة في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي والتي يتزعمها منصور عباس، إلى الهدوء في المسجد الأقصى وإتاحة المجال للناس لأداء العبادات، ويرى أن القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية وهذا موقف ثابت لا يمكن تغييره، وأن وضعية القدس والمسجد الأقصى يجب الاتفاق عليها ضمن أي اتفاق سلام. وتعمل "القائمة العربية المشتركة في الكنيست -التي تضم عددًا من الأحزاب العربية (أربعة أحزاب) - تجاه عدم السماح بتمرير بعض القوانين التي تسعى لتهويد القدس بما فيها قانون القومية، الذي يسعى لأن تكون القدس الكاملة والموحدة عاصمة لإسرائيل، وترى أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967. أما إسرائيل فترى أن القدس الموحدة بشقيها مع الأحياء المحيطة التي تسعى لضمها في إطار مشروع القدس الكبرى هي عاصمة لدولة إسرائيل، فيما تسعى الأصوات اليمينية فيها إلى تنفيذ مخططات تهويد المسجد الأقصى وخاصة من حيث التقسيم الزماني والمكاني للمسجد.
يسهم الفلسطينيون في جميع أماكن وجودهم في النضال الوطني نحو القدس بوسائل مختلفة، ففلسطينيو الضفة الغربية وخصوصًا الشباب ينتهجون أحيانًا عمليات الطعن والدهس، وينفذون بعض العمليات المسلحة في داخل القدس وعلى أبواب المسجد الأقصى، إضافة للمظاهرات الشعبية الداعمة والمواجهات الشعبية مع جيش الاحتلال. أما قطاع غزة المعزول تمامًا عن الضفة والقدس، فينظم الفلسطينيون مظاهرات قرب حدود القطاع لدعم صمود القدس، وتتلقى الحاضنة الشعبية "للمقاومة" في القطاع الغارات الإسرائيلية في جولات المواجهة العسكرية بين إسرائيل والفصائل، فيما يلتقي نضال الفلسطينيين من حملة بطاقة الهوية الإسرائيلية في المناطق المحتلة عام 1948 مع نضال المقدسيين بحكم القدرة على دخول القدس والمشاركة في فعاليات نصرة القدس والرباط في المسجد الأقصى وإعادة إعماره. وبالنسبة لفلسطينيي الشتات، يتمثل نضالهم مع القدس عبر تنظيم حملات داعمة من النواحي المالية، وتدويل قضية القدس عبر المسيرات والفعاليات والمؤتمرات العلمية المختلفة وفي الخطب والفعاليات الدينية. ويرى المقدسيون، وهم المعنيون بها وبهمومها بشكل مباشر، أن مدينتهم غير قابلة للتقسيم والتهويد، ويواجهون كلًّا من سياسات الاقتلاع وانتهاك الحقوق، وهو نضال مركب يجمع بين الأهداف السياسية التحررية، والأهداف المعيشية لتحصيل الحقوق والوقوف في وجه سياسات بلدية القدس والقوانين التي تطبق مباشرة على السكان بقبضة الحكم العسكري.
ثانيًا: تحولات في فضاء القدس المكاني
سعى الاحتلال منذ بداية الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" التي انطلقت من المسجد الأقصى، نهاية شهر سبتمبر/أيلول من عام 2000، إلى عزل مدينة القدس جغرافيًّا عن محيطها عبر سلسلة من الإجراءات الاستيطانية والعسكرية بدأت بنصب الحواجز وأبراج المراقبة وشق الطرق الالتفافية وتقطيع أواصر المناطق المحيطة، مرورًا ببناء جدار الضم والتوسع الاستيطاني حول القدس الذي اكتمل بحلول عام 2008 وبلغ طوله 168 كم، وخلَّف جملة من الآثار على أصعدة مختلفة طالت السكان الفلسطينيين أعمقها الجانب الجيوسياسي.
حوَّلت إسرائيل القدس من محافظة كاملة بمساحة 345 كم2 إلى أجزاء معزولة عن بعضها، منها القدس الشرقية المكونة من البلدة القديمة والأحياء المحيطة وتبلغ مساحتها 123كم2، وتجاوز ذلك التقسيم السابق للقدس إلى شطرين: شرقي وغربي، حسب مراحل احتلال المدينة. فقد عُزلت مدينة القدس عن ضواحيها بالجدار مع تثبيت الحواجز العسكرية نقاطًا حدودية دائمة، وأبرزها حاجز قلنديا الذي بات يشكِّل نقطة عبور حدودية بين القدس والضفة الغربية، يمنع عبور الحواجز إلا لحملة هوية القدس والتصاريح، وحولت إسرائيل صفته من حاجز إلى معبر، فصلت به مدينة القدس أيضًا عن شمالها وشمال غربها، وضمَّت التجمعات الاستيطانية المحيطة بالقدس داخل الجدار وربطتها بالمدينة، فيما عزلت الأحياء والبلدات الفلسطينية. وطبَّق الاحتلال على هذه الأخيرة سياسات الإهمال الاستعماري لخلق أزمات مستمرة على أصعد اجتماعية واقتصادية لتحويلها إلى مجتمع غير مستقريبحث سكانه من الفلسطينيين عن احتياجاتهم المعيشية وحلول لأزماتهم المستمرة، وجعلت لكل منها خصوصية مختلفة في إجراءات الفصل والعزل عن بقية المناطق وعن شريانها الحيوي المرتبط بمدينة القدس، وحولتها تجاه رام الله التي باتت أشبه بـ"عاصمة اقتصادية"، بفعل تركز مؤسسات السلطة الفلسطينية والنشاط التجاري والقطاع الخاص فيها، وتحول مفهوم المواجهة إلى تعزيز الصمود في الوضع الراهن في بيئة الضفة الغربية.
عمَّقت إجراءات عزل القدس جغرافيًّا من آثار تقسيم الهوية وظهرت الفوارق بعد الانتهاء من أنظمة العزل عبر إعادة تعريف المقدسيين بأنهم الذين يمتلكون الهوية التي منحتها إسرائيل لسكان القدس، فهم القادرون على اجتياز الحواجز والتنقل إلى مناطق الضفة الغربية، بينما لا تسمح إسرائيل لأهالي الضفة الغربية ومنهم سكان ضواحي القدس بدخول القدس، إلا لحملة التصاريح التي تُخضع إصدارها لشروط أمنية وعمرية.
وفي ظل هذا التفرد، أمعنت إسرائيل بسياساتها الاستعمارية لتكريس واقع مغاير داخل أحياء القدس، حوَّلت السكان فيها إلى مجموعة اجتماعية منفصلة عن محيطها الفلسطيني في ظل الحكم العسكري البوليسي، وطبقت عليهم سياسات المحو والاقتلاع المستمرة، ومنها: سحب الإقامات، وهدم المنازل والهدم الذاتي القسري بحجة عدم الترخيص، والسيطرة على أملاك الغائبين، وتقييد التوسع العمراني بتقييد البناء وعدم منح التراخيص، وتحويط المدينة بالجدار والمستوطنات ومصادرة آلاف الدونمات داخلها، والاستمرار بفرض الضرائب المالية مثل ضريبة "الأرنونا" (ضريبة المسقفات) التي تُفرض على العقارات شهريًّا، وتقييد المشاريع الاقتصادية والتجارية عبر ضرب قطاع السياحة بتشديد الإجراءات العسكرية في البلدة القديمة وتقييد السياحة الدينية؛ مما قلَّل من عدد الزوار في محيط البلدة القديمة التي باتت محالها التجارية تعاني ضعف القوة الشرائية وتتعرض لخسارات كبيرة ووصل الأمر إلى إغلاق مئات المحال التجارية في المدينة، فيما ينافسها تجار الاحتلال الذين يتلقون دعمًا وإعفاءات ضريبية من حكومتهم.
كما تفرض إسرائيل قيودها على العمل المؤسسي عبر فرض الرقابة المشددة وإغلاق عشرات المؤسسات والجمعيات بالنظر إلى نشاطها وأهدافها، وفرض قيود على الحريات العامة ومنها حرية التنقل والحركة، من خلال نصب الحواجز ونقاط الشرطة على أبواب البلدة القديمة وأبواب المسجد الأقصى، واستمرار الاعتقالات وإبعاد النشطاء وفرض غرامات مالية باهظة عليهم، وفرض أساليب الضبط والتحكم البوليسي لمواجهة محاولات انتفاض المقدسيين ضد سياسات الاحتلال، والتي تشمل تشغيل كاميرات المراقبة في كل الشوارع والأماكن، ونشر قوات كبيرة من الجيش و"حرس الحدود" بشكل دائم في أزقة وشوارع القدس، كما تسعى إسرائيل إلى تنفيذ مشروع القدس الكبرى بتوسيع حدود المدينة لتبلغ مساحتها نحو ثمانمئة كيلومتر مربع، وتشغل 10% من مساحة الضفة الغربية.
ثالثًا: نضال المقدسيين: تحولاته وأشكاله
شهد النضال في مدينة القدس تحولات تاريخية بارزة ارتبطت بطبيعة الأحداث والمواجهة مع إسرائيل، وكانت الفصائل تنشط بشكل منظم في مدينة القدس خلال الانتفاضة الثانية عام 2000-2004، التي شهدت أيضًا مشاركة أهالي الضفة الغربية للمقدسيين في ساحات المواجهة في أحياء المدينة والمسجد الأقصى، ولكن تحول النضال فيها تدريجيًّا إلى إطار أضيق يقتصر على سكان المدينة، بفعل إجراءات عزل المدينة والتي أيضًا ترافقت مع تراجع الوحدة الوطنية وتفتت الجبهة الداخلية الفلسطينية بفعل الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس بعد عام 2007، وتراجع على إثرها العمل الفصائلي في الضفة الغربية على إثر ملاحقات الاحتلال وتعزيز "قبضة السلطة الفلسطينية" الأمنية المرتبطة بتنسيق أمني مع إسرائيل، فاتجه المقدسيون إلى النضال من خلال الهبَّات الشعبية التي تبدأ من القدس وتتوسع رقعتها جغرافيًّا إلى الضفة الغربية وبعض المناطق العربية داخل إسرائيل، ومنها هبَّة الاحتجاج على حرق الطفل محمد أبو خضير من قبل المستوطنين اليهود عام 2014، وهبة الأقصى 2015-2016 التي أُطلق عليها "هبة السكاكين"، وحراك البوابات الإلكترونية، عام 2017، من خلال الاعتصام المفتوح في منطقة باب الأسباط احتجاجًا على نصب بوابات إلكترونية وأنظمة تفتيش على بوابات المسجد الأقصى، واستمر لمدة 14 يومًا.
دخل النضال المقدسي في مراحل أكثر عمقًا بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، القدس عاصمة لإسرائيل نهاية، عام 2017، عبر سلسلة من الهبَّات الاحتجاجية ردًّا على تصاعد إجراءات الاحتلال بحق القدس، منها: هَبَّة مصلى باب الرحمة، عام 2019، التي انتهت بإعادة فتح المصلى بعد سنوات طويلة من الإغلاق التعسفي، وشهدت مدينة القدس، عام 2021، هبَّة شعبية كانت الأوسع ردًّا على تصاعد موجة الانتهاكات الإسرائيلية ومنها تزايد اقتحامات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال بالتزامن مع شهر رمضان، وفي إطار المساعي لتمرير مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد عبر تشجيع وحماية مجموعات المستوطنين وجماعات الهيكل لاقتحام باحات المسجد، وإغلاق جيش الاحتلال لباب العمود وأحياء أخرى في المدينة بهدف تقييد حركة الفلسطينيين وتعكير الأجواء الرمضانية وفرض السيطرة تمهيدًا لمسيرة المستوطنين السنوية في ذكرى احتلال القدس؛ والتي بات يُطلق عليها "مسيرة الأعلام"، وبدأت الهبة بفعاليات فلسطينية عفوية في باب العمود لكسر قرارات الاحتلال التعسفية كونه يشكِّل فضاء عامًّا للمقدسيين. وبعد مواجهات استمرت لعدة أيام أزال الجيش الحواجز وفتح الباب، وانتقلت التظاهرات لاحقًا إلى حي الشيخ جراح الذي كانت محكمة الاحتلال قد أصدرت قرارًا يقضي بإخلاء منازل لعائلات فلسطينية فيه بحجة عدم ثبوت الملكية. وزادت حدة هذه المواجهات بعدما أعلنت المجموعات الشبابية والفعاليات المجتمعية المقدسية عن تنظيم اعتصام في حي الشيخ جراح بمشاركة نشطاء فلسطينيين من المناطق المحتلة عام 1948 وشهدت مناطق فلسطينية أخرى في الضفة الغربية فعاليات ومظاهرات منظمة اتجهت إلى نقاط التَّماس، وانتقلت لاحقًا إلى المناطق المحتلة عام 1948، ودخلت غزة في مواجهة عسكرية مع إسرائيل ردًّا على اقتحام المسجد الأقصى وتصاعد الانتهاكات بحق المعتصمين في الشيخ جراح وبقية المناطق، وأسهم ذلك في تعمق الهبة الشعبية وزيادة حدة المواجهة، وانطلقت مسيرات تضامنية في عواصم العالم، واستمرت هذه الأحداث حتى 21 مايو/أيار 2021.
وفي شهر رمضان عام 2022، اقتحم جيش الاحتلال المسجد الأقصى، وشهدت المدينة اشتباكات متفرقة ردًّا على قمع الاحتلال للمواطنين ومساعيه لإخلاء فضاء المدينة المكاني من الفلسطينيين تحضيرًا لمسيرة الإعلام التي ينظِّمها المستوطنون. كما كسر المقدسيون قرار الاحتلال بتقييد مسار وحجم موكب تشييع الصحفية، شيرين أبو عاقلة، (13 مايو/أيار 2022)، وتوجهوا بالآلاف ورفعوا الأعلام الفلسطينية في تشييع لم تشهده القدس منذ سنوات.
تشير هذه الجولات من المواجهة إلى أن الهبَّة الشعبية المؤقتة أصبحت أحد أشكال نضال الفلسطينيين الجماعي في القدس، ويلاحظ أن أشكال النضال في القدس قد تطورت بالنظر إلى واقع المدينة وعلاقتها بالمحيط رسميًّا وشعبيًّا؛ حيث استحدث الفلسطينيون أساليب جديدة للمواجهة في المدينة تخترق الخصوصية الجيوسياسية لها كتجمع معزول عن محيطه، سكانه مراقبون بأنظمة الكترونية تعزز من الشعور بالرقابة والملاحقة الدائمة، ومن ذلك عدم تركيز الفعل النضالي في منطقة معينة ولدى قيادة محددة يسهل السيطرة عليها، والتحول نحو النضال الجماعي والفردي الأكثر عفوية والأصعب توقعًا.
ويمكن القول: إن النضال في مدينة القدس ينقسم إلى شكلين رئيسيين:
1. النضال الجماعي: خلقت سياسات الاحتلال واقعًا مغايرًا لمدينة القدس زادت فيه خصوصية السكان الفلسطينيين كمجموعة اجتماعية يقدر عددهم بـ311044 نسمة، يهددها خطر الاستهداف الجماعي وتنحصر في مساحة جغرافية محدودة ومحاصرة ومعزولة، وأعاد ذلك تموضع الهوية الجماعية بالنظر إلى المخاطر ومحدودية الاتصال مع التجمعات الأخرى للفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، والضفة الغربية وغزة والشتات، وتجمعت أحياء القدس التي يحاول الاحتلال تقسيمها وعزلها وتخصيص قضاياها في نضال جمعي يلتف في مواجهة الاحتلال، وتجمعهم البلدة القديمة والمسجد الأقصى كساحات مواجهة.
أصبح النضال عبر الهبَّات الشعبية أشبه بنسق اجتماعي تراكمي في مواجهة الاحتلال، يحمل في كل مرحلة من المراحل على عاتقه قضية مستفيدًا من التجارب السابقة، ويركز المقدسيون جهودهم لتغيير الوضع الراهن المتعلق بها عبر نضال جماعي، يسود فيه نمط جماهيري يوظف الاعتصامات والمسيرات لتحقيق أهدافه، ويتزامن معه العصيان المدني للفلسطينيين عبر التوقف عن العمل والإضراب التجاري، وإغلاق الشوارع في القدس وإيقاف المركبات ورفع الأعلام والشعارات، وفعاليات فنية وثقافية مختلفة مثل حلقات القراءة حول سور القدس، ومهرجانات ومسرحيات وغيرها. ويسير النضال بمشاركة شرائح مهنية مختلفة أبرزها التجار عبر إضرابات تجارية، وكذلك العمال وطلبة المدارس والجامعات والفنانون والأكاديميون والإعلاميون والأطباء ورجال الدين والمعلمون، وكل هذه الفئات لها أدوار متكاملة في النضال الجمعي للمقدسيين.
تتميز أساليب النضال الجماعي في القدس عن مدن الضفة الغربية الأخرى، بأسلوب ممارسة الحياة اليومية كمقاومة، كون بيئة المدينة تمتاز بوجود احتكاك بالمستوطنين في نشاطات الحياة اليومية، بحكم وجودهم في القدس وسط الفلسطينيين في البلدة القديمة وغيرها من الأحياء، وممارسة الحياة وسط هذه القيود تشكِّل بالنسبة للفلسطينيين جزءًا أساسيًّا من النضال لمواجهة مساعي السيطرة على الحيز المكاني، وللتصدي للتضييق المستمر على القطاعات التجارية والإنتاجية. وهنا يمارس المقدسيون حياتهم اليومية بالوجود الدائم في أزقة وأسواق البلدة القديمة مع إبراز الهوية الجماعية للفلسطينيين كجماعة أصلية في مواجهة الهوية الأخرى، من أجل الحفاظ على التراث من التهويد. ويحوِّل المقدسيون المناسبات الاجتماعية أيضًا كالزفة الفلسطينية إلى أداة نضالية بالهتافات الوطنية، والجنازات إلى حشود تخرج من المسجد الأقصى، فكل معالم هذه الحياة اليومية حوَّلها المقدسيون إلى نضال جماعي في الوقت الذي تكون فيه شبه اعتيادية خارج القدس، وأسهمت في تشكُّل حاضنة اجتماعية داعمة للنضال في المدينة.
كما تتنوع أهداف وتوجهات المشاركين في النضال الجمعي، من دينية إلى وطنية تحررية للخلاص من الاحتلال، أو ازدواجية واندماج الهدف والرؤى والأيديولوجيا بين العقائدي الديني والتحرري الوطني أو القومي، فهناك إجماع لأصحاب هذه التصورات على هدف واحد وهو التحرر والخلاص من الاحتلال، تشارك فيه مختلف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية.
2. النضال الفردي: هو "شكل نضالي" يركز على الفرد وإرادته الذاتية في اتخاذ قرار التحرك، واختيار الشكل والهدف والأسلوب؛ سواء شارك في تنفيذه فرد أو أكثر، فهو ليس بناء على تكليف أو قرار تنظيمي صادر عن فصيل. وقد تحول هذا الشكل النضالي إلى نسق غير عفوي وثقافة مقاومة جديدة تطورت تدريجيًّا في عموم الضفة الغربية نظرًا لعوامل سياسية أبرزها الانقسام السياسي وتداعياته على النضال الجماعي، ولتجاوز القبضة الأمنية في ملاحقة المجموعات المسلحة، والإحباط من البرنامج السياسي وانغلاق أفقه. ومعظم العمليات الفردية التي خرج منفِّذوها من القدس والضفة الغربية نُفِّذت في القدس، إضافة إلى توجه المقدسيين إلى تنفيذ عمليات دهس من حين إلى آخر.
ثم هناك النضال في المسجد الأقصى؛ إذ برزت المواجهة في المسجد منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967، حيث استُهدف من قبل الجماعات الدينية اليهودية ومنها جماعة "أمناء جبل الهيكل"، فأُحرق المصلى القبلي من قبل أحد المتطرفين عام 1969، وارتكب جيش الاحتلال عدة مجازر بحق المصلين في ساحاته منها مجزرة المسجد الأقصى عام 1990، وعام 1996، وعام 2000. وتزايدت المواجهات منذ عام 2015 على إثر نية الجماعات اليهودية المتطرفة تنفيذ مخططات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد عبر جولات اقتحام للمستوطنين "وأداء صلوات" بحماية شرطة الاحتلال لكن تُواجَه في أغلب الأحيان بتصدي المصلِّين أو المرابطين في المسجد وأبرزها مواجهات شهر رمضان 2021 و2022، ففرض الاحتلال قيودًا حدَّت من دخول المصلين من خارج سكان البلدة القديمة عبر إقامة حواجز بوليسية على مداخل البلدة والمسجد، وتحديد أعمار المصلين المسموح لهم بالدخول بالفئة التي تزيد عن 50 عامًا، وتقليص أعداد المصلين والمرابطين في الساحات.
واجه الفلسطينيون الاحتلال في ساحات المسجد الأقصى وعلى أبوابه بعمليات فردية غالبية منفذيها كانوا من الضفة الغربية، وأصبحت ظاهرة عام 2015 في "هَبَّة السكاكين" التي بدأها الشاب مهند الحلبي من البيرة بتنفيذ عملية بالقرب من باب الأسباط ردًّا على قمع الشرطة الإسرائيلية للمرابطات أمام عدسات الإعلام، وأصبح هذا النموذج لشباب الضفة الغربية والقدس الذين نفَّذوا عشرات هجمات الطعن والدهس وإطلاق النار في القدس، ومن المنفِّذين من المناطق المحتلة عام 1948 من نفذوا عمليات إطلاق نار استهدفت شرطة الاحتلال على مداخل المسجد.
أسهمت خصوصية المسجد الأقصى كمكان عبادة يعاني من التضييق والحصار بابتكار المقدسيين لأدوات ووسائل نضالية دمجوا فيها التصدي للاقتحامات مع العبادة كجزء من العقيدة، عبر تعزيز الرباط كنموذج ديني اجتماعي يحتوي على برامج وحلقات علمية ودروس دينية للمرابطين والمرابطات لتعزيز الوجود في المسجد خارج أوقات الصلاة التي تشهد معظم جولات اقتحامات المستوطنين وجماعات الهيكل، وتطويره وتحويله إلى نشاط دائم لمجموعات من الرجال أغلبهم من كبار السن ونساء مقدسيات وطلبة وطالبات علم من الشباب، وأصبح نموذجًا مستدامًا لحماية المسجد بعد تفرغ بعض الناشطين، وزيادة الالتفاف حول هذا النموذج ودعمه ماليًّا ومعنويًّا بفضل الوازع الديني؛ الأمر الذي أجَّج مشاعر المسلمين وزاد من تعاطفهم مع قضية المسجد الأقصى وسلَّط الضوء على انتهاكات إسرائيل بحق المسجد، وتحول بعض المرابطين والمرابطات إلى نخب قيادية بفعل دورهم في التعبئة الدينية ونقل الصورة للعالم، وتصدرهم واجهة الرباط بفعل تعرضهم للإبعاد عن المسجد الأقصى والحبس المنزلي والغرامات المالية.
وبرزت منذ عام 2020 صلاة "الفجر العظيم"، وهي دعوة موجهة لعموم القادرين على الوصول إلى المسجد الأقصى وخاصة فئة الشباب لأداء صلاة الفجر جماعة في المسجد الأقصى، وتركزت على شكل فعالية دينية تقام كل يوم جمعة، في إطار مبادرة مشتركة مع الحرم الإبراهيمي في الخليل لمواجهة "التهويد" المشترك للمقدسات. ومن أشكال النضال الجماعي ما هو مبني على أسس عائلية بهدف تعزيز الروابط العائلية عبر إعلان المبايعة بحماية المسجد الأقصى مثل فعالية "صورة العائلة المقدسية داخل المسجد الأقصى"، وتقسيم العمل لإعادة إعمار الأجزاء المتضررة في المسجد متجاوزين منع الاحتلال إدخال المواد الخام، فقد تم على سبيل المثال إدخال كمية من البلاط عام 2022 بواسطة مصلين خلال دخولهم للمسجد دون علم شرطة الاحتلال، على غرار فتح مصلى باب الرحمة وإعادة تأهيله عام 2019، مستلهمين من تجربة إصلاح المصلى المرواني عام 1996 وإعادة افتتاحه كأمر واقع لمواجهة مخططات السيطرة عليه، إضافة إلى تنظيم الأعمال التطوعية لتنظيف ساحات المسجد، والجولات العلمية لطلبة المدارس والمخيمات الصيفية ولزوار المسجد الأقصى لتعريفهم على المكان.
رابعًا: الرؤى الفلسطينية السائدة وانعكاسها على الدور الوطني للقدس
تختلف الرؤى الفلسطينية المتعلقة بالنضال المقدسي من ناحية تحديد "النضال" المطلوب بما يتناسب مع أساسات المشروع السياسي لكل منها. فالسلطة الفلسطينية يقوم برنامجها السياسي على التفاوض والمقاومة الشعبية السلمية فيما تؤيد قيادة حركة فتح هذه المواقف وتنسجم بشكل شبه كامل مع توجهات السلطة الفلسطينية. أما فصائل العمل الوطني الإسلامية واليسارية الأخرى وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية فلا ترى في المفاوضات سبيلًا لتحصيل الحقوق الفلسطينية، وتسعى إلى التحرر عبر "المقاومة المسلحة" لتفكيك "المشروع الصهيوني" وتحرير "فلسطين التاريخية"، وقد أسهم هذا الاختلاف في خلق منهجيات عمل وتوجهات مختلفة نحو مدينة القدس.
1. موقف السلطة الفلسطينية من النضال في القدس
بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، سمحت إسرائيل باستمرار العمل المؤسسي جزئيًّا في المدينة من خلال بيت الشرق (1980-2001) الذي كان فيصل الحسيني قد أسسه بداية الثمانينات مؤسسةَ أبحاثٍ وتوثيق تهدف إلى الحفاظ على الهوية العربية في المدينة، وأصبح الحسيني بموجب هذا الدور قائدًا يحظى بالتفاف ومكانة من غالبية الفلسطينيين في القدس، وتعرض بيت الشرق عدة مرات خلال الثمانينات إلى قرارات بالإغلاق خصوصًا في الانتفاضة الأولى؛ حيث أغلق لمدة 4 سنوات بين عامي 1988- 1992، وجرى تحويله إلى مقر لاستقبال الدبلوماسيين لدى فيصل الحسيني الذي عُيِّن مسؤولًا لملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية، وازداد دور البيت عبر الفعاليات والنشاطات بعد أوسلو إلى أن صدر قرار إسرائيلي بإغلاقه بشكل نهائي، عام 2001، خلال أحداث الانتفاضة وبعد وفاة الحسيني بأشهر قليلة.
وبقيت القدس خارج العمل المؤسسي المباشر رغم خطاب السلطة الفلسطينية باعتبارها عاصمة للدولة واعتبار القدس محافظة، وتأسيس مقر لها في بلدة الرام شمال المدينة، إلا أن هذه المحاولات كانت ضعيفة في ظل قبضة الاحتلال على المدينة وأحيائها وتقييد نشاط المحافظة عبر فرض قيود منها اعتقال محافظ
القدس، عدنان غيث، أكثر من ثلاثين مرة وإبعاده عن الضفة الغربية، وعدم رغبة السلطة باتباع أساليب ضاغطة في سبيل بسط سيادتها على المدينة خارج إطار التفاهمات مع إسرائيل، واكتفت بالتوجه لحكومة الاحتلال بطلب إذن لتصويت المقدسيين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلديات وغيرها، وبقي المواطن المقدسي بعيدًا عن الخدمات الأساسية التي يمكن أن تقدمها الحكومة الفلسطينية، وهذا كسر جزءًا أساسيًّا من روابط تشكل العلاقة. وفي المقابل، اعتمد المقدسيون على بلدية القدس ومؤسسات الاحتلال للحصول على هذه الخدمات بحكم الأمر الواقع.
سعى الاحتلال بعد أوسلو إلى تغيير معالم القدس وتثبيت الوجود الإسرائيلي فيها بشكل متسارع عبر زيادة أعداد المستوطنين وتشجيعهم على الإقامة في القدس الشرقية؛ حيث ازداد عددهم من نحو 137000 مستوطن، عام 1993، إلى ما يقارب 174000 مستوطن، عام 2000، ومن ثم إلى نحو 247000 مستوطن، عام 2020، وشرع ببناء وحدات استيطانية جديدة، وواجه طموحات السلطة الفلسطينية التفاوضية بأعمال توسعية على الأرض بهدف تذويب الأهداف التفاوضية عبر خلق وقائع جديدة ثابتة ومغايرة لآمال السلطة. وقد دخلت السلطة الفلسطينية في جولتين من المواجهة المسلحة مع إسرائيل، الأولى: في هَبَّة النفق، عام 1996، التي اندلعت كردِّ فعل شعبي على حفر نفق إسرائيلي تحت المسجد الأقصى، ومن ثم دخلت أجهزة أمن السلطة في مواجهة مسلحة مع الجيش الإسرائيلي، والثانية، عام 2000، بعد انتهاء الفترة الانتقالية لاتفاق أوسلو التي كانت قُرِّرت بخمس سنوات، وفشلت الأطراف فيها بالتوصل إلى تفاهمات حول قضايا الوضع النهائي وعلى رأسها القدس. وكان ذلك بمنزلة إعلان لفشل المفاوضات وأثبت عدم استعداد إسرائيل للتنازل عن مناطق قد احتلتها، وحملت هاتان الجولتان من المواجهة السمة الجماهيرية الشعبية الممزوجة بالعمل المسلح في مواجهة إسرائيل، وانتهت الثانية بشبه تفكيك لمؤسسات السلطة بعد اجتياح كامل للمناطق المصنفة (أ) في الضفة الغربية. ودخلت السلطة الفلسطينية لاحقًا في معادلة جديدة في العلاقة مع إسرائيل بعد عام 2005، تقوم على تعزيز التنسيق الأمني وحظر العمل المسلح ضد إسرائيل. وتركزت ردة فعلها على تصاعد وتيرة سياسات إسرائيل في القدس بمخاطبة "المجتمع الدولي" والأمم المتحدة، والدعوة إلى احترام الشرعية الدولية والقرارات الأممية والقانون الدولي.
2. فصائل المقاومة المسلحة والنضال المقدسي
سعت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، منذ انطلاقتهما عام 1987، إلى تعميم برامجهما التي تقوم على المقاومة بكل أشكالها ومنها العسكرية في عموم فلسطين ومنها القدس، مبدية اعتراضها على خط التسوية للسلطة الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو ومخرجاته، وكانت القدس ساحة لتنفيذ هجمات مسلحة وعمليات للحركتين منذ تسعينات القرن وسعت كل منهما إلى تركيز المواجهة في المدينة وتحويلها إلى بيئة غير آمنة لجيش "الاحتلال" ومستوطنيه. كما نشطت كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، خلال الانتفاضة الثانية ونفذت سلسلة هجمات مسلحة وعمليات في مدينة القدس وفي الداخل الإسرائيلي.
أصبحت غزة مركز ثقل أساسيًّا لحماس ومعها فصائل مقاومة أخرى، صبَّت جهودها من هناك ناحية القدس، حيث عملت على استحداث صواريخ تصل إلى عمق القدس، وقصفت لأول مرة أهدافًا في المدينة في جولة المواجهة عام 2012، وأصبحت المدينة في مرمى الصواريخ وتحت الاستهداف خلال جولات المواجهة عام 2014 و2021. وفي الأخيرة منها، عززت منظومة الصواريخ من قدرة غزة على التأثير على المقدسيين وتحفيزهم على "المقاومة"، لاسيما أنها ربطت تصعيدها العسكري بتطلعات المقدسيين وأهدافهم من الهبَّة، لتصبح القدس في قلب المواجهات الأخيرة.
خامسًا: انعكاسات النضال المقدسي على عموم النضال الفلسطيني
أظهرت الهبات الشعبية الأخيرة أن المقدسيين لم يميزوا بين الوسائل السلمية والمسلحة بهدف إثبات وجودهم والرد على إجراءات الاحتلال واعتداءات مستوطنيه والحد من محاولات الاقتلاع الممنهجة من قبل الاحتلال، كما في الشيخ جراح وحي سلوان. ويبدو أن النضال من أجل الحفاظ على المدينة ومسجدها وأهلها وهويتها هو القاسم المشترك الذي يلتقي عليه الفلسطينيون في إسرائيل وغزة والشتات والضفة، وهو ما يجعل نضال المقدسيين أقرب إلى مشروع تحرير كل فلسطين وليس إلى مشاريع التسوية المطروحة. وعلى صعيد آخر، تزداد الفجوات بين المقدسيين والسلطة الفلسطينية لأنهم لم يكونوا أولوية في مشروعها السياسي الذي يشير إلى التنازل عن الشق الغربي من مدينتهم، والتي يربطهم بها ذات التاريخ الذي يرتبط به اللاجئون المقدسيون الذين اقتُلعوا من بيوتهم عام 1948 في أحياء مثل لفتا وعين كارم ودير ياسين والقطمون وغيرها وتوزعوا في الضفة الغربية والشتات، وساندوا نضال المقدسيين على أمل العودة إلى مساكنهم، وكذلك محدودية الأدوات التي تشرعها السلطة في النضال السلمي والتي لا يلتزم بها المقدسيون في نضالهم، وانغلاق الأفق السياسي لبرنامج السلطة الفلسطينية في ظل الواقع الجديد الذي فرضته إسرائيل على الأرض في محيط القدس والضفة الغربية. أسهمت هذه العوامل في تقريب المقدسيين إلى مشروع فصائل المقاومة المناهضة لأوسلو، لوجود قاسم مشترك وهو يتمثل في حق العودة والتحرر.
سادسًا: موقف إسرائيل من النضال في القدس
تسود في المجتمع الإسرائيلي والحكومة معادلة قائمة على ضرورة "فرض الاستقرار" في مدينة القدس وأحيائها بما يحقق أهداف إسرائيل في المدينة، وذلك إما عبر قمع الفلسطينيين بالقوة وشن حملات اعتقالات وفرض غرامات لترويعهم وإخضاعهم للسير قدمًا في مشروع التهويد مع تمرير مساعي الجماعات اليهودية بتهويد المسجد الأقصى عبر اقتحامه ومخططات بناء الهيكل، أو بالحفاظ على الهدوء من خلال تخفيف وتيرة الاستفزاز الديني والاستفزاز العام للمقدسيين لأن تأجيج الأحداث في نظر بعض الأصوات داخل المجتمع الإسرائيلي يهدد استقرارهم.
ومثال ذلك الجدل الإسرائيلي بشأن مسيرة الأعلام في القدس التي تعتبر الحدث الأهم بالنسبة لعدد من الأحزاب على رأسها اليمين لترسيخ سيادة المستوطنين على المدينة عبر تنظيمها في كل عام احتفالًا بذكرى قيام إسرائيل، ولرفض التخلي عن أي جزء منها. في حين تقف بعض أصوات اليسار ضدها لأنها تؤجج الصراع مع الفلسطينيين. وكثر الحديث عن هذه الفعالية خلال العامين الأخيرين (2021-2022)، حيث منعت الحكومة الإسرائيلية المسيرة بفعل تهديدات غزة إبان "معركة سيف القدس"، وفي عام 2022، اعتبرها رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، بمنزلة تحدٍّ بعد محاولة حماس استثمار معركة "سيف القدس" بالتهديد بجولات أخرى في حال لم يتم تحويل مسار مسيرة الاعلام بعيدًا عن باب العمود والأحياء الإسلامية في المدينة، واعتبرها المتطرفون اليهود غيَّرت من معادلة السيادة في القدس، وخصوصًا بعد قرار إلغاء المسيرة عام 2021 خشية من صواريخ المقاومة، وأسهم ذلك في دفع بينيت نحو الموافقة على تنظيم المسيرة والعمل على عدم تغيير مسارها، لنيل رضا اليمين الإسرائيلي والمحافظة على رصيده الانتخابي. كما تسعى إسرائيل إلى إلغاء ربط القدس بالتجمعات الأخرى وخصوصًا غزة عبر إحباط نجاح حماس في تحقيق هذا الربط في المواجهة الأخيرة التي أطلقت عليها "سيف القدس" من خلال الضغط عليها إقليميًّا لعدم تنفيذ تهديداتها ضد استمرار الاقتحامات وفعاليات المستوطنين وانتهاكات الجيش.
وتواصل إسرائيل تنفيذ المخططات الرامية إلى تهجير المقدسيين تدريجيًّا مثل إخلاء وحدات سكنية في حي الشيخ جراح كجزء من مخطط إسرائيلي يهدف للزحف نحو القدس الشرقية، لفصل البلدة القديمة وعزلها عن محيطها، وتفتيت النسيج الاجتماعي للمقدسيين عبر زرع جيوب استيطانية وسط البلدة القديمة.
تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إجهاض الحراكات المقدسية بتحويلها إلى مجموعة من القضايا المنفصلة وإخضاعها للمتابعة في المحكمة العليا الإسرائيلية، مثل قضية الشيخ جراح وحي سلوان، أو عبر تحويلها إلى قضايا تخص عائلات معينة دون غيرها في هذه الأحياء وعقد تسويات وصفقات منفردة مع كل منها.
ورغم هذه الإجراءات، لا تزال حراكات المقدسيين ومقاومتهم تشكِّل ضغطًا دائمًا على منظومة الاحتلال الأمنية التي تتحسب لأي أحداث يمكن أن تشتعل في القدس، وتضطر للبقاء في حالة استعداد دائم، ويعيش المستوطنون بفعل ذلك حالة من عدم الاستقرار، وهذا يكسر معادلة سعي إسرائيل لفرض السيادة الكاملة على المدينة.
سابعًا: مستقبل النضال الفلسطيني في القدس
هناك عدة سيناريوهات متوقعة لمستقبل النضال في مدينة القدس بالنظر إلى التفاعلات السياسية السائدة وخصوصية القدس والتجمعات الفلسطينية، وفي ظل الرؤى النضالية السائدة وتداعياتها أو جدواها.
أولًا: بقاء الوضع الراهن بسيطرة إسرائيل على القدس، وتستمر معه ظاهرة الحراكات الشعبية والاجتماعية المقدسية لمواجهة انتهاكات إسرائيل بحق المقدسيين، وربما توظيف أدوات جديدة بالاستفادة من نجاح الحراكات والهبَّات السابقة. وفي هذه الحالة، تبقى الفعاليات على الأغلب مؤقتة حيث يزداد زخمها في إطار ردَّة فعل المقدسيين على الانتهاكات، وتنتهي أو تخف حدتها بتحقيق الهدف، ولكن ستستمر المواجهة في الحياة اليومية مع الاحتلال وسعي الفلسطينيين لترسيخ وجودهم والتصدي لسياسات التصفية الإسرائيلية، مع إمكانية إعادة ملف القدس إلى طاولة المفاوضات عبر السلطة الفلسطينية بفعل زيادة حدة المواجهة، كما يبقى دخول غزة على خط المواجهة في القدس مرهونًا بعدة عوامل، أبرزها حجم الحدث المقدسي وطبيعة الممارسات الإسرائيلية التي أدت اليه، وظروف احتكام حماس إلى علاقاتها الخارجية وكذلك المطالب المعيشية لسكان غزة.
وفي هذه الحالة أيضًا من المحتمل أن تتوسع رقعة الحراكات لتتحول إلى انتفاضة شعبية مركزها القدس، فتشمل مناطق الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، ولكن يبقى هذا السيناريو مرهونًا بالظروف والتحولات السياسية.
ومن تداعيات بقاء الوضع على ما هو عليه، الوصول إلى حالة جمود على صعيد النضال في القدس، إما بفعل تصاعد القمع بحق المقدسيين وإحكام القبضة الأمنية، في ظل انشغال التجمعات الفلسطينية الأخرى في قضايا جانبية وهموم معيشية واستمرار انقسام الفصائل الفلسطينية وعدم لحظ أولوية القدس في برامج بعض قواها، أو بفعل وضع الحكومة الإسرائيلية حدًّا لتوجهات اليمين الإسرائيلي المتطرف والحد من استفزاز مشاعر المقدسيين دينيًّا بضغط من أطراف داخلية سياسية وأمنية للحد من حالة الاشتباك في القدس.
السيناريو الثاني: الوصول إلى حل سياسي توافقي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إما بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران وعاصمتها القدس الشرقية. ربما يخفف هذا الحل من المواجهة بفعل انسحاب إسرائيل من القدس الشرقية، لتصبح خالية من الجيش، لكن هذا الحل ربما لا يلقى موافقة من الفلسطينيين في المدينة وضواحيها في ظل سيطرة الاحتلال على القدس الغربية وارتباط الأحياء مع بعضها البعض جغرافيًّا، ولا يلقى موافقة فصائلية ليكون حلًّا نهائيًّا للقضية الفلسطينية. ولكن في الوضع الراهن يبقى هذا الخيار بعيدًا، لأن توجهات اليمين المتطرف تطغى على مواقف الحكومة وإسرائيل تسعى لفرضها على الأرض وتؤكد أن القدس عاصمة موحدة لها؛ ما يجعل مطلب السلطة بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية مطلبًا يصعب تحقيقه.
أما خيار إقامة دولة فلسطينية على أجزاء معزولة من الضفة الغربية في إطار "صفقة القرن" على أن تكون بلدة أبو ديس المقدسية عاصمة لدولة فلسطين بدل القدس الشرقية فهو أيضًا صعب التحقيق، وقد رفضته السلطة الفلسطينية، كون القبول بهذا الحل يعني التخلي عن القدس وقبول تقسيمها وموافقة على مخطط قضم الأراضي واستيطانها، غير أن هذا الحل هو بمنزلة تسليم بالأمر الواقع في الضفة المقسمة إلى تجمعات تفصلها مستوطنات إسرائيلية، وبلدة أبو ديس الواقعة خارج جدار الضم والتوسع الاستيطاني جرى قضم جزء من أراضيها لصالح مستوطنة "معالي أدوميم" وهي بلدة صغيرة المساحة بالنسبة للقدس وأحيائها، ولا تصلح لأن تكون عاصمة. وهذه الحلول السياسية تبقى خارج حسابات الفلسطينيين في القدس والشتات والضفة وغزة، ولا تحد من استمرار النضال.
ثالثًا: حل الدولة الواحدة القائم على تفكيك المشروع الصهيوني وإقامة دولة واحدة للجميع، وهذا الحل لا يوقف الصراع في القدس وخصوصًا الصراع الديني، ولا يحد من أطماع المتدينين اليهود في المسجد الأقصى، ويسهم في استمرار المواجهة داخل القدس على هذا الأساس. بينما لا يلقى موافقة من الأطراف السياسية الفلسطينية وهي السلطة والفصائل، ولا يلبي طموح اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، ويلقى معارضة واسعة داخل إسرائيل في ظل هيمنة اليمين ومساعي فرض يهودية الدولة وقوانين تستهدف الوجود العربي داخل إسرائيل، ولذلك يبقى هذا السيناريو ضعيفًا في ظل المعطيات الحالية.
خاتمة
إن التقسيمات الجغرافية التي أحدثتها إسرائيل في فضاء القدس وتداعياتها الاجتماعية أسهمت بتحولات في مسار النضال في القدس الشرقية وأحيائها عبر فصله عن النضال العام، وتغيير غالبية وسائله لتوظيفه في مواجهة مخططات الاحتلال الداخلية، لكن هذا أسهم بنشوء شخصية مقدسية نضالية تمارس النضال الفردي والجماعي بشكل تراكمي، والمعادلة الأقرب في ظل المعطيات الحالية ومواقف الأطراف هي استمرار المواجهة في القدس وحول القدس في ظل استمرار محاولات التهويد والاقتلاع وتحويلها إلى صراع على الوجود، ولا تزال القدس تتصدر سلم أولويات النضال الفلسطيني في ظل الإجماع العام عليها دينيًّا وسياسيًّا وقوميًّا، وهي المحرك المؤثر في الساحة الفلسطينية والعنصر الأهم الذي يجمع الفلسطينيين تحت مظلة النضال العام في جميع التجمعات الفلسطينية باختلاف برامجها ونظرتها للقضية الفلسطينية.