تعرضت الدول الأوروبية خلال السنوات الثلاث الأخيرة لأزمات لم تؤثر على قوة اقتصادها فحسب، وإنما على وحدتها السياسية أيضاً. وبدأت هذه الأزمات بتفشي جائحة "كورونا" وحالة الإغلاق التي فرضتها الدول، وفقدت معها مصادر دخل مُهمة، مثل خدمات السفر والسياحة، مروراً بأزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية وارتفاع أسعار الشحن، ثم الحرب الروسية - الأوكرانية وما تبعها من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، خاصةً الطاقة والمواد الغذائية؛ وذلك نظراً لما تشكله روسيا من أهمية لهيكل الاقتصاد الأوروبي، حيث تُعتبر المصدر الأساسي للطاقة، مثل النفط والغاز والفحم للقارة الأوروبية.
وقد أدت كل تلك العوامل إلى أزمة معيشية في دول أوروبا، الأمر الذي أفضى إلى حدوث إضرابات عمالية عطّلت كثيراً من القطاعات الخدمية، خاصةً الطيران والسكك الحديدية، بين الحين والآخر.
فوضى النقل الجوي:
لفهم الأزمة الأخيرة للإضرابات العمالية في أنشطة الطيران والنقل داخل أوروبا، ينبغي العودة إلى ما حدث في جائحة كورونا، حينما أُصيبت حركة النقل في العالم بالعجز بسبب حالة الإغلاق التي شهدتها الدول كافة، وما ترتب عليها من تراجع في الطلب على خدمات السفر والسياحة. وكانت العديد من الشركات في قطاعات الطيران والسفر مُجبرة على تسريح الآلاف من العمالة، بالإضافة إلى الشروع في إجراءات مُتعلقة بخفض الأجور؛ وذلك في محاولة منها لخفض التكاليف، وتقليل حجم الخسائر الناجمة عن الجائحة.
لكن مع عودة الحياة إلى طبيعتها بعد إلغاء قيود كورونا، وعودة الطلب على الخدمات المتنوعة، مثل قطاع السفر والسياحة والنقل، أصبحت الشركات تعاني معضلتين أساسيتين؛ الأولى تتمثل في معدلات التضخم المُرتفعة والتي دفعت بالعديد من العاملين في هذا القطاع للمطالبة برفع معدلات الأجور. وتنصرف المعضلة الثانية إلى نقص عدد العاملين والأطقم المختلفة، وعدم قدرتها على تلبية احتياجات أعداد المسافرين الكبيرة، وبالأخص مع دخول موسم الصيف عالي الطلب.
وفي ضوء الظروف السابقة، تأثر مؤخراً عمل المطارات الأوروبية، بدءاً من ألمانيا وفرنسا، مروراً ببريطانيا وإسبانيا وغيرها من الدول، مما اضطرها إلى إلغاء آلاف الرحلات الجوية. ففي بريطانيا، أعلنت الخطوط الجوية البريطانية أنه سيتم إلغاء أكثر من 10 آلاف رحلة كان من المُقرر تحديدها لموسم الصيف، ليصل إجمالي عدد الرحلات التي تم إلغاؤها في الفترة بين أبريل وأكتوبر 2022 إلى 30 ألف رحلة.
وفي ألمانيا، يبدو الوضع أكثر سوءاً، حيث قررت شركة الطيران "لوفتهانزا" إلغاء أكثر من 3 آلاف رحلة بسبب نقص العمالة، مما دعا المسؤولين للتصريح عن رغبتهم في طلب عمال أجانب لتعويض النقص في العمالة المحلية. وفي فرنسا، شهد عدد كبير من المطارات في البلاد، مثل شارل ديغول وأورلي قرب باريس، اضطرابات كبيرة مع بدء موجة من الإضرابات العمالية في تلك المطارات للمطالبة برفع مستويات الأجور، الأمر الذي تكرر حدوثه أيضاً في عدد آخر من المطارات في إسبانيا وإيطاليا.
أزمة النقل البري والبحري:
تتجه أزمة سلاسل الإمداد والتوريد في القارة الأوروبية للتأزم بشكل أكبر؛ بسبب تصاعد الإضرابات العمالية في قطاعات حيوية مثل السكك الحديدية والموانئ. ويأتي ذلك وسط تهديدات أخرى لسلاسل التوريد بسبب حالة الإغلاق بالصين في ظل سياسة "صفر كورونا" التي تبنتها الحكومة الصينية للسيطرة على تفشي الوباء، بالإضافة إلى الاختناقات في الموانئ الأمريكية بسبب نقص سائقي الشاحنات.
وفي بريطانيا، تعطلت شبكة السكك الحديدية مؤخراً بسبب الإضرابات العمالية التي شارك فيها أكثر من 40 ألف عامل، وهو أكبر إضراب عمالي خلال 3 عقود؛ الأمر الذي أثّر على حركة نقل الركاب والبضائع لعدة أيام. ومن الوارد أن يتسع نطاق الإضرابات العمالية في العديد من الدول الأوروبية الأخرى، مع اتجاه النقابات إلى ممارسة مزيد من الضغوطات لرفع معدلات الأجور.
وبالفعل شهدت ألمانيا إضراب عدد من العمال في موانئ بحر الشمال في مطلع شهر يوليو الماضي، مما أدى إلى تعطل حركة الشحن البحري لفترة قصيرة، الأمر الذي يفرض مزيداً من الضغوط على الاقتصاد الألماني الذي يعاني بشدة تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية. كما كان قطاع النفط له نصيب من موجة الإضرابات في القارة الأوروبية، حيث قاد عمال النفط في النرويج إضراباً للمطالبة بزيادة أجورهم، مما أثّر على الإمدادات النرويجية من النفط والغاز لفترة وجيزة.
ظروف ضاغطة:
هناك عدد من الاعتبارات التي تسببت في تصاعد الإضرابات العمالية داخل القارة الأوروبية خلال الفترة الأخيرة، ويتمثل أبرزها في الآتي:
1. تآكل القوى الشرائية: تعاني الاقتصادات الأوروبية موجة تضخم قياسية لم تشهدها منذ عقود؛ بسبب عدة عوامل من أهمها الحرب الأوكرانية وما تركته من آثار على أسعار الطاقة والغذاء بشكل أساسي. إذ تعتمد أوروبا على روسيا في توفير 40% من احتياجاتها من الغاز، علاوة على ثُلث احتياجاتها من النفط. وارتفعت أسعار الغاز والكهرباء إلى مستويات قياسية في ظل تقلبات الأسواق الناجمة عن الحرب الحالية. وقد فاقم ارتفاع الأسعار من أزمة تعطل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، خاصةً مع حالة الإغلاق في الصين، والاختناقات التي تعانيها الموانئ في أمريكا الشمالية.
وقد دفعت الأزمات الأخيرة معدل التضخم في منطقة اليورو ليصل إلى ذروته التاريخية عند 8.9% في يوليو 2022. وفي الشهر نفسه، بلغ معدل التضخم في ألمانيا، أكبر اقتصاد في القارة، 7.5%. وكان ارتفاع معدلات التضخم في الدول الأوروبية مدفوعاً بشكل أساسي بالارتفاع في أسعار الوقود والمواد الغذائية، على نحو أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمستهلكين في هذه الدول.
2. مطالب بتحسين الأجور: كانت القطاعات الخدمية، وعلى رأسها الطيران والشحن، هي الأكثر تضرراً من تداعيات جائحة كورونا، ومع رغبة الشركات في خفض التكاليف تم اللجوء إلى خيار خفض رواتب العاملين فيها. وفي المقابل، لجأت النقابات العمالية في الدول الأوروبية لتبني خيار الإضرابات كورقة ضغط على الشركات لرفع معدلات الأجور.
ففي ألمانيا، طالب اتحاد الطيارين بزيادة 5.5% في أجور الطيارين، مما اضطر شركة "لوفتهانزا إلى بدء التفاوض مع الطيارين للوصول إلى اتفاق على معدلات الزيادة. بينما هدد عمال الموانئ البحرية في عدد من موانئ ألمانيا، مثل هامبورغ، بتنظيم إضراب للضغط على السلطات لزيادة معدلات الأجور. ولم تسلم شركات الطيران الأخرى في أوروبا من موجة الإضرابات، مثل شركة "ريان إير" الأيرلندية. كما هدد عمال الطيران المدني في البرتغال بالإضراب، مطالبين برفع أجورهم.
وفي بريطانيا، وبالتحديد في ميناء فيليكسستو، هدد ما يقرب من 2000 عامل في الميناء بتنظيم إضراب في أواخر شهر أغسطس 2022، للضغط من أجل رفع الأجور، لينضم بذلك عمال الموانئ إلى السكك الحديدية والمطارات.
3. الرغبة في تحسين ظروف العمل: بعد تفشي وباء كورونا، لجأ كثير من شركات النقل والسفر والشحن إلى الاستغناء عن عدد كبير من العمالة، لخفض التكاليف، وتقليل الخسائر الناتجة عن عمليات الإغلاق. ففي فرنسا، قامت إدارة مطار شارل ديغول بتسريح أكثر من 20 ألف موظف، بينما استغنى مطار فرانكفورت في ألمانيا عن 4 آلاف موظف. ولكن مع عودة الحياة لطبيعتها ورفع قيود الإغلاق، ارتفع الطلب على خدمات السفر والنقل، مما ألقى بمزيد الضغوط على العاملين بسبب الزيادة في ساعات العمل.
آثار سلبية:
يبدو أن تعافي قطاع السياحة والسفر الأوروبي بات مُهدداً خلال العام الحالي؛ بسبب حالة الإضراب التي ضربت قطاع الطيران وأصابت المطارات الأوروبية بحالة من الفوضى، مما سيقوض انتعاش الاقتصادات الأوروبية مُجدداً. جدير بالذكر أن حجم مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأوروبية بلغ في عام 2019 حوالي 2.14 تريليون دولار، قبل أن يتراجع في عام 2020 إلى 1.13 تريليون دولار بسبب تداعيات جائحة كورونا وحالة الإغلاق، ثم بدأ في عام 2021 يستعيد عافيته من جديد مسجلاً حجم مساهمة بلغ 1.45 تريليون دولار، وذلك بعد رفع حالة الحظر وعودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً.
ومن شأن تلك الإضرابات أن تُؤثر، من ضمن عوامل أخرى، على نمو الاقتصادات الأوروبية، والتي هي بالأساس تمر بفترة ضعف بسبب الأزمات المتتالية، بدءاً من جائحة كورونا وانتهاءً بالحرب الأوكرانية. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتراجع معدل النمو في منطقة اليورو إلى 2.6% خلال عام 2022، وإلى 1.2% في عام 2023، وذلك مقارنةً بمعدل نمو بلغ حوالي 5.4% في عام 2021.
وسيكون الخطر أكبر على اقتصادات القارة في حالة اتساع نطاق الإضرابات ليمتد إلى قطاعات أوسع في أوروبا، مما سيضر النشاط الاقتصادي بشكل أكبر. وتعد الإضرابات على أية حال بمنزلة "إنذار مُبكر" لنشوب موجة من الاضطرابات الاجتماعية، والتي أصبحت غير مُستبعدة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعانيها المواطنون في الدول الأوروبية، بسبب ارتفاع الأسعار ونقص الوقود والمواد الغذائية.
وفي هذا السياق أيضاً، باتت الأنظمة السياسية والحكومات في القارة الأوروبية في خطر؛ بسبب حالة الغضب والسخط الشعبي التي بدأت تُصيب المستهلكين. ولعل بوادر ذلك بدأت تظهر مع تقديم بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، وماريو دراغي، رئيس الوزراء الإيطالي، استقالتيهما بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، وعدم القدرة على الخروج من المأزق الذي فرضته تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية.
ختاماً، سيكون من الضروري على الحكومات الأوروبية أن تحتوي الإضرابات العمالية الأخيرة، من خلال استخدام الأدوات الاقتصادية والمالية المختلفة؛ حتى لا تكون هذه الإضرابات مجرد بداية لموجه من سلسة إضرابات قد تمتد إلى قطاعات أخرى، مثل التعليم والصحة والبريد، الأمر الذي يُضعف من آفاق النمو الاقتصادي لأوروبا، وسط التداعيات السلبية للحرب الأوكرانية على دول القارة كافة.