في الوقت الذي باتت فيه الصين أهم شريك تجاريّ في أفريقيا، بينما يتراجع دور الغرب في القارة السمراء مقارنة بذلك الدور، قال رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا مؤخراً، إن بلاده تعهدت بضخ 30 مليار دولار للتنمية في أفريقيا على مدار السنوات الثلاث المقبلة، مع التركيز على الاستثمار في رأس المال البشري، وتعزيز نمو الجودة، حيث فهم الأمر على أنّه منافسة في قارة تزايد فيها نفوذ الصين وروسيا، ناهيك عن المتغيرات الجيوسياسية وأزمة الطاقة التي تعصف حتى بأكبر اقتصاديات العالم، وإنّ ميدان المعركة كان على الأراضي التونسيّة حيث استضافت مؤتمر طوكيو الدولي الثامن للتنمية في أفريقيا (تيكاد8)، الشيء الذي طرح تساؤلات كثيرة عن مدى قدرة طوكيو على منافسة الصين ودول أخرى ذات حضور واسع في القارة المهمة ذات الثروات الطائلة.
تنافسٌ محموم
في ليلة وضحاها، باتت اليابان ترغب بالنمو مع أفريقيا وفقا لتصريحات مسؤوليها، ما يجعل نهجها مختلفاً عن نهج الصين، الذي يقول منتقدون، إنها تثقل كاهل الدول الفقيرة بديون ضخمة مرتبطة بمشاريع البنية التحتية، حسب وكالة كيودو اليابانية، وإنّ حديث البعض أنّ اليابان باتت كأحد محاربي الساموراي الذين يمتازون بالثقة، تسعى إلى تعزيز حضورها داخل حلبة التنافس الاقتصادي والاستثماري في القارة السمراء وإن كان بوتيرة يراها محللون بطيئة مقارنة بالصين رغم السمعة الجيدة التي تحظى بها اليابان وشركاتها في أفريقيا، وكل ذلك من منبر تونس التي استضافت مؤتمر طوكيو الدولي الثامن للتنمية في أفريقيا المعروف اختصارا بـ "تيكاد" والتي تعد ثاني دولة أفريقية تستضيف "تيكاد" بعد كينيا عام 2016.
وإنّ تأكيد طوكيو أنّها ستقدم بصفة خاصة قروضاً بنحو 5 مليارات دولار بالتنسيق مع بنك التنمية الإفريقيّ لتعزيز التنمية الإفريقيّة المستدامة عن طريق استعادة الصحة المالية، يُظهر إدراك اليابان كما غيرها من المنخرطين في المعركة الاقتصاديّة هناك أهمية قارة أفريقيا التي تملك قدرات وإمكانيات هائلة من الموارد غير المستغلة، إضافة إلى حاجتها الماسة للتكنولوجيا الحديثة، وتضع تلك العواصم هدفا استراتيجيّاً بالتغلغل فيها، لما تمثّله من ثقل سياسيّ واقتصاديّ كبير، وباعتبارها سوقاً مفتوحة لمختلف منتجاتها ومن ضمنها العسكريّة، لهشاشة أوضاعها وسهولة الاندساس في مفاصلها.
وإنّ حديث رئيس الوزراء اليابانيّ أن النظام العالمي المفتوح والحر القائم على قواعد يجب الحفاظ عليه، من أجل السلام والرفاهية في العالم، في الوقت الذي يهدف فيه لتكثيف التعاون بين اليابان وأفريقيا، يدل على رغبة في التعاون اليابانيّ في المجالات التي تحتاجها افريقيا، وإنّ مفاهيم الاحتلال والنفوذ والغزو والاستعمار اختلفت بشكل جذريّ عما سبق، ولم تعد المعركة في أيامنا هذه معركة الدبابات والصواريخ والبوارج فقط، بل أصبحت معركة السياسة والاقتصاد والحرب الفكريّة، وإنّ القارة الأفريقية كانت ولا تزال مطمعاً للغزاة والمحتلين، لاستغلال ثرواتها والاستفادة منها، وهذا الأمر لا يقتصر على اليابان فقط، ويمكننا القول إن القارة السمراء الغنية بالثروات يحاوطها بالفعل الكثير من المخاطر المستقبليّة المتمثلة في التدخلات الخارجيّة.
أيضاً، إنّ اليابان ستستثمر قرابة 4 مليارات دولار لدعم إفريقيا في النمو الأخضر، بالتخلص من الكربون، ومساعدتها على تعزيز القدرة على إنتاج الغذاء، والتدريب في الزراعة لعلاج أزمة الغذاء التي فاقمتها الحرب الروسية في أوكرانيا. وحول كورونا، فإن اليابان ستكثف الجهود لدعم أفريقيا في مكافحة الأمراض المعدية مثل الإيدز، والملاريا، والسل وتعزيز نظم الرعاية الصحية.
ورغم أنّ اليابان تحالفت مع مجموعة الدول الصناعية السبع في فرض عقوبات على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، ولكن إفريقيا منقسمة بسبب الحرب حيث تتخذ بعض الدول موقفاً محايداً وعارضت معاقبة روسيا، التصورات الأفريقية للحرب في أوكرانيا - مختلفة عن التصورات الأوروبية، ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس، تمت إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، حيث صوتت 141 دولة لمصلحة القرار، وامتنعت 35 دولة عن التصويت، وصوتت 5 دول فقط ضده، ومن بين 35 دولة امتنعت عن التصويت، كانت 17 دولة أفريقية، بينما صوتت 28 دولة أفريقية لمصلحة القرار، ويمكن أن تكون حقيقة أن عددًا كبيرًا بشكل غير متناسب من الدول الأفريقية التي قررت الامتناع عن التصويت ناتجة عن عدة عوامل جيوسياسية معقدة ولكنها مرتبطة أيضًا بالرأي العام في إفريقيا.
ويعد الحضور الياباني في مجال الاستثمار في القارة الأفريقيّة قديماً نسبيّاً، فعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما، كرس ثالث أكبر اقتصاد في العالم الكثير من الجهود في توفير مساعدات اقتصادية للعديد من البلدان الأفريقية وهو الأمر الذي دفع محللين للقول بأنّ "اليابان لن تبدأ من الصفر" في أفريقيا في إشارة إلى قدم ذلك، وإنّ اليابان بالفعل ليست غريبة عن الاستثمار في أفريقيا حيث بدأ مؤتمر تيكاد قبل 29 عاما لكن التحول حصل في عام 2013 بعقد القمة كل ثلاث سنوات بالتناوب بين طوكيو وإحدى دول أفريقيا.
أفريقيا تهم الجميع
وفقاً للأوروبين أنفسهم فإنّ القرب الجغرافي والتاريخ الاستعماري والتنوع الواسع للعلاقات الإنسانية من أفريقيا يجعلها شريكًا مهمًا لأوروبا، ويريد الاتحاد الأوروبي الاستفادة اقتصاديًا من ثروات القارة المجاورة وإمكاناتها الكبيرة لإنتاج الطاقة الخضراء، إضافة إلى ذلك، فإن لأوروبا مصلحة حقيقية في الاستقرار السياسي لأفريقيا لأنها تسعى إلى درء الآثار غير المباشرة الناتجة عن الهجرة القسرية والصراعات المسلحة وعواقب تغير المناخ.
ورغم أنّ المجتمعات الأفريقية بدورها، لها مصلحة في التعاون بشكل أوثق مع الاتحاد الأوروبي لأنها تتوقع المزيد من الوظائف والازدهار من شراكة مطورة، في حين أن كل هذا قد يوفر وضعًا مربحًا للجانبين من حيث المبدأ، إلا أن هناك بعض التحديات، وعلى سبيل المثال يشعر بعض الأفارقة أن هناك معايير مزدوجة يطبقها الأوروبيون، فعندما يرحبون باللاجئين من أوكرانيا من نفس لون البشرة حتى قبل الحرب يكون ترحيبهم مختلفاً، وقد كان هناك عدم ثقة عندما يتعلق الأمر بتوزيع اللقاحات لأن البلدان الأفريقية تلقت أقل كمية من اللقاحات، ولقيت دعواتهم للحصول على تنازل عن براءات الاختراع معارضة شديدة من قبل الأوروبيين.
وبالمقلب الآخر، إنّ اندلاع الحرب الروسية في اوكرانيا – أثر بشكل كبير علة الأمن الغذائي، ففي الوقت الذي لم يتم فيه إسكات البنادق في أوكرانيا، ولا يزال مصير البلاد غير واضح، فإن الحكومات في جميع أنحاء العالم "تستعد للتأثر"ـ حيث تعتبر كل من أوكرانيا وروسيا منتجين رئيسيين للحبوب، وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل كبير - ما زاد من الضرر الاجتماعي والاقتصاد بشكل أكبر، نظرًا لأن نفقات الغذاء تشكل نسبة مئوية أكبر من ميزانيات الأسر في البلدان منخفضة الدخل مقارنة بالبلدان ذات الدخل المرتفع، فإن البلدان الأفريقية ستتضرر على وجه الخصوص، ليس أقلها أن عدة دول مثل الصومال وبوتسوانا وكينيا التي كانت تتعامل مع موجات جفاف مروعة دمرت إنتاجها الزراعي.
ووفقاً لإحصائيات أجنبيّة، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفعل المزيد ضمن القارة الافريقية عبر التجارة، فبالنسبة لأفريقيا، يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكثر أهمية هناك، حيث يمثل 25٪ من حجم التجارة الإجمالي، متقدمًا على الصين بنسبة 17٪ والولايات المتحدة بنسبة 5٪، ويقوم الأوروبيون في المقام الأول بتصدير السلع الصناعية وشراء المواد الخام في إفريقيا، وهناك إمكانية لزيادة حجم التجارة في كل قطاع، من السيارات إلى الهيدروجين، وهو أمر مهم في ضوء سعي الاتحاد الأوروبي للحصول على مصادر طاقة جديدة.
ومن ناحية التنافس مع روسيا فعلى الرغم من أهميتها كمورد للقمح، إلا أنّها ليست متشابكة اقتصاديًا في إفريقيا مثل الصين أو الاتحاد الأوروبي، وتسعى موسكو إلى زيادة نفوذها من خلال قوتها العسكرية غير المتكافئة، ولا سيما من خلال مبيعات الأسلحة والاتفاقيات العسكرية، كما تستخدم روسيا ذلك لكسب النفوذ وانتزاع التنازلات من الحكومات الأفريقية، وتعمل المجموعة بشكل رئيسيّ في جمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق والسودان.
لكن مشاركة الصين المتزايدة في إفريقيا حظيت بالكثير من الاهتمام، ويمكن للاتحاد الأوروبي إلى حد ما تأكيد مصالحه تجاه الصين، فيما لا تزال مبادرة طريق الحرير في بكين تشكل تحديًا كبيرًا. وقد استثمرت الصين في السنوات الثماني الماضية حوالي 180 مليار يورو في 46 دولة أفريقية، ومن مصلحة أوروبا ألا يرغب حكام أفريقيا وحكوماتها في الاعتماد على الصين أو روسيا أيضًا، لكنهم يفضلون الاعتماد على عدة شركاء بدلاً من واحد فقط، كما يستفيد الاتحاد الأوروبي من حقيقة أن العديد من صانعي القرار الأفارقة لديهم جواز سفر أوروبي كجواز سفر ثان، ويملكون عقارات في أوروبا، ويرغبون في إرسال أطفالهم للدراسة هناك، كما نمت علاقات تجارية وتحويلات مهمة من خلال الشتات الأفريقي في أوروبا.