• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقارير

بعد أن انسحبت من مالي.. هل بدأ النفوذ الفرنسي بأفريقيا في الأفول؟


بعد أن اضطرت فرنسا أخيرا إلى سحب قواتها من مالي التي ظلت ترابط فيها 9 أعوام ضمن ما أطلق عليها "قوة برخان" توالت التساؤلات حول مستقبل الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية والذي يبدو أنه يتقلص نتيجة عوامل يتعلق بعضها بسياسات فرنسا ونظرة الأفارقة إليها، ويرتبط بعضها الآخر بقوى دولية يتزايد نفوذها في القارة على حساب النفوذ الفرنسي.

بداية الأطماع الفرنسية في أفريقيا كانت بعد سلسلة من الهزائم للإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون بونابرت داخل القارة الأوروبية وكذلك في الشرق الأوسط، حيث اتجهت الآلة الاستعمارية الفرنسية تدريجيا نحو الجنوب في القارة الأفريقية، ولم ينقض العقد الأول من القرن العشرين حتى كانت فرنسا قد بسطت نفوذها على نحو ثلث أراضي القارة السمراء.

وبعد أن كانت فرنسا تركز في السابق على مناطق شرق آسيا عبر شركة الهند الشرقية الفرنسية أصبحت أفريقيا هي موقع النفوذ الاستعماري الجديد، فاحتلت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا في شمال القارة، كما احتلت دولا أخرى في غرب ووسط القارة هي السنغال ومالي وتوغو وغينيا كوناكري وبنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار والكاميرون والنيجر وتشاد وجزر القمر وأفريقيا الوسطى ومدغشقر والغابون وأجزاء من غامبيا وغيرها.

ومنذ أواسط القرن العشرين بدأت الموجة الاستعمارية التي قادتها فرنسا -وبريطانيا خصوصا- في الجلاء عن البلدان التي احتلتها، لكن فرنسا بقيت جاثمة على بلدان أفريقية عديدة بشكل أو آخر، حتى لو أن جيوشها المحتلة قد انسحبت بالفعل.

القوات الفرنسية انسحبت من القارة السمراء أو كادت، لكن باريس فرضت نوعا من الأبوية السياسية والاقتصادية، فلم تنسحب من مستعمراتها إلا بعد أن فرضت عليها لغتها لتصبح الفرنسية اللغة الرسمية ولغة التعليم في ما يقارب نصف الدول الأفريقية، مما جعل هذه البلاد تبقى تحت نوع من الاستعمار الثقافي ساعد عليه ما قامت به فرنسا من خلق ما يسمى "مجتمع الفرانكوفونية".

كما فرضت فرنسا على هذه الدول التعامل بالفرنك الأفريقي الذي تتم طباعته وتحديد قوته الشرائية من جانب باريس، إضافة إلى الاستحواذ على أهم الأصول الاقتصادية والتحكم في الخدمات الرئيسية مثل إمدادات المياه والكهرباء والهاتف، فضلا عن النقل والموانئ والمؤسسات المصرفية وحتى التجارة والزراعة.

ويجري تداول الفرنك الأفريقي في 12 دولة كانت سابقا مستعمرات فرنسية، بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة)، وينقسم الفرنك المتداول إلى نوعين، فرنك وسط أفريقيا وفرنك غرب أفريقيا، مع العلم بأن كلا منهما لا يمكن استخدامه في المنطقة الأخرى.

ووفقا لاتفاقيات عقدتها فرنسا مع هذه الدول، يلتزم البنك المركزي لكل دولة أفريقية بالاحتفاظ بنسبة كبيرة قد تتجاوز 50% من احتياطياته النقدية من العملات الأجنبية في حساب تجاري بالبنك المركزي الفرنسي، حيث لا تملك هذه الدول الحق في وضع يدها على هذه الأموال أو استغلالها، وإذا اضطرت فليس أمامها إلا الاقتراض من الخزانة الفرنسية.

وتشير بعض التقديرات إلى أن الخزانة الفرنسية تكسب بفضل هذه السيطرة نحو 500 مليار دولار سنويا من الأرباح والعوائد القادمة من أفريقيا.

وحسب المؤرخ والباحث السنغالي مصطفى ديينغ، فإن ضخ أموال المستعمرات في الخزينة الفرنسية يعود إلى القرن الـ19، حين كان "سكان المستعمرات يدفعون ما تسمى ضريبة الرؤوس إلى فرنسا، وهي ضريبة تفرض على كل شخص وعلى ممتلكاته (مواد أساسية وماشية)، وتدفع بشكل شخصي أو يقوم ممثلون محليون بجمعها".

وأضاف الباحث لوكالة الأناضول أن "انتزاع الأملاك" و"وروح العبودية" لا يزالان من العناصر التي تشكل أسس السياسة الفرنسية، وأن من تداعيات ذلك "إعاقة تقدم مستعمراتها السابقة" والتي تعتبرها مجرد "حديقة خلفية" لها.

وأكد أن هذا الوضع يستند إلى معاهدات ببنود علنية وأخرى سرية لا تزال توجه العلاقات الفرنسية الأفريقية وتخدم مصالح الطرف الأقوى في المعادلة على حساب مصالح البلدان والأمم الأفريقية رغم أن تلك المعاهدة وقّعت في عصور أخرى تجاوزها الزمن، حسب قوله.

وفي الحقيقة فإن الأطماع الفرنسية لم تكن سرية، فلطالما عبر القادة الذين تعاقبوا على حكم فرنسا عن أهمية القارة السمراء بالنسبة لبلدهم، حيث حرص الرئيس شارل ديغول على تولي الإشراف المباشر على ملف الشؤون الأفريقية، وهو ما أصبح تقليدا يتوارثه خلفاؤه، في حين ذهب الرئيس فرانسوا ميتران عام 1994 إلى القول إن فرنسا لن يكون لها تاريخ في القرن الـ21 من دون أفريقيا.

لكن ما لم يدركه الفرنسيون ربما أن أفريقيا تطورات كثيرا في العقود الأخيرة، في حين أن الذهنية الاستعمارية لدى باريس لم تتطور بالقدر نفسه، فاستمرت تنظر إلى القارة السمراء باعتبارها منجما للثروات ومصدرا للاستفادة، دون أن تكلف نفسها عناء تطبيق المعايير التي تتحدث عنها دوما من حرية وإخاء بشكل إيجابي على أفريقيا.

الموقف من الانقلابات التي جرت في عدة دول أفريقيا كان كاشفا، حيث كالت فرنسا بأكثر من مكيال، فأيدت من وجدت أنه في صالحها، فيما عارضت من رأت فيه غير ذلك، فظهرت مبادئها المعلنة حينا واختفت حينا آخر.

الأفول الفرنسي في أفريقيا لم يرتبط فقط بتصرفات فرنسا أو قراراتها أو حتى تراجعها في بيئتها الأوروبية، وإنما أيضا وجد بعض روافده في قوى دولية بدأت تصوب أنظارها نحو القارة السمراء وتؤمّل أن تنال هي الأخرى بعض المكاسب، وبعد أن كانت فرنسا هي اللاعب الوحيد في أفريقيا بات لها في كل موطئ قدم منافس أو أكثر.

روسيا

الاهتمام الروسي بأفريقيا ليس حديث العهد كما قد يظن البعض، وإنما يرجع إلى خمسينيات القرن الماضي عندما دعمت موسكو فورة السعي نحو التخلص من الاستعمار، ثم عادت في العقد الأخير لتبحث مجددا عن مواقع نفوذ إدراكا منها للأهمية الجيوسياسية والاقتصادية للقارة السمراء.

وشهدت السنوات الأخيرة محاولات روسية لبناء مواقع نفوذ جديدة في أنحاء متفرقة من أفريقيا، وعبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ذلك عندما قال إن تنمية العلاقات مع دول القارة أصبحت واحدة من أولويات السياسة الخارجية الروسية.

وحسب دراسة نشرت في مركز الجزيرة للدراسات العام الماضي، فإن روسيا تحاول التغلغل إلى داخل أفريقيا عبر الوجود في الموانئ المطلة على البحر الأحمر وبناء قواعد عسكرية في مناطق إستراتيجية بالشواطئ الأفريقية للولوج إلى القارة، لمنافسة التحالفات الغربية المنتشرة في المنطقة والحصول على حصص لها من موارد القارة، فتقوم بتقديم الخدمات اللوجستية والدعم السياسي والدبلوماسي والمساعدات الدفاعية والأمنية (خصوصا عبر مرتزقة شركة فاغنر) والاقتصادية وخبرات التحكم في الأمراض والأوبئة، وبعض التدريبات في مجال التعليم والتكنولوجيا.

الصين

وإذا كان الغرب -وفي مقدمته فرنسا- قد فرض نفوذه على أفريقيا بقوة السلاح فإن الصين -التي تمضي بهدوء لتكون قطبا عالميا- عمدت في السنوات الأخيرة وبالهدوء نفسه إلى بسط سيطرتها في عدة مناطق بالقارة السمراء، ولكن عبر القوة الناعمة.

وخلال السنوات الأخيرة أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا، وباتت المئات من شركاتها تعمل في القارة، كما أصبحت الصين ممولا رئيسيا للكثيرة من دول أفريقيا معتمدة بشكل كبير على منتدى التعاون الصيني الأفريقي الذي تم تأسيسه قبل نحو عقدين.

ولا يقتصر الأمر على الاقتصاد، وإنما يمتد إلى جوانب عسكرية وثقافية، حيث توجد قاعدة صينية في جيبوتي وباتت تنتشر بالعديد من دول القارة مراكز تعليم اللغة الصينية.

تركيا

أما تركيا فكانت الضيف الأحدث على القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وبدا واضحا أن نفوذها هناك يتزايد باطراد، والمثير أن الجزء الأكبر منه يأتي على حساب الكعكة الفرنسية التي يبدو أن حجمها يتقلص في القارة السمراء.

وتعتمد أنقرة في تأثيرها بالقارة السمراء على المشاريع الاقتصادية والتجارية وكذلك الروابط الدينية، وبدرجة أقل الأمنية والعسكرية، وتشير تقارير إلى أن شركات تركيا أبرمت اتفاقيات إمداد مع جيوش عدة دول أفريقية كانت تحت وصاية فرنسا وشركاتها.

التاريخ والحاضر

التاريخ الحديث في القارة السمراء يشير إلى أن فرنسا ظلت متشبثة بالمكتسبات التي حصلت عليها عنوة بفضل احتلالها هذه الدول وبما تلا ذلك من اتفاقيات الاستقلال، ثم بالحفاظ على علاقات وطيدة مع أنظمة دكتاتورية جثمت على أنفاس شعوب هذه الدول.

ويخبرنا التاريخ أيضا أن الدول التي حاولت الخروج من دائرة السيطرة الفرنسية واجهت انقلابات عسكرية أو اغتيالات مدبرة، فضلا عن الاستهداف المباشر لاقتصادها.

لكن الأمر بدأ يشهد تغييرا واضحا في السنوات الماضية، خصوصا مع تغير السلطة في مالي وفي دول مجاورة بشكل صب في غير مصلحة فرنسا وفتح الباب أمام امتداد نفوذ قوى أخرى، أبرزها روسيا.

وجاء انسحاب فرنسا من مالي مؤخرا بعد عملية عسكرية استمرت 9 سنوات كاملة بدعوى محاربة من تصفهم باريس بالإسلاميين المتشددين، ليمثل ذلك خطوة كبيرة ومؤشرا حاسما في ما يخص تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، والأهم أنه قد يكون عاملا مشجعا لدول أخرى.

الأمر لا يتعلق فقط بانسحاب القوة العظمى السابقة وإنما بما يرمز إليه فشل مهمتها في مالي، فالعملية التي جاءت قبل أعوام بهدف القضاء على "الجماعات الإسلامية المسلحة" أنهتها فرنسا دون أن تحقق الهدف، بل إن أكثر من نصف مساحة البلاد بات تحت سيطرة هذه الجماعات، بل وحتى السلطة الرسمية باتت معادية لفرنسا، ليصبح النجاح الفرنسي الوحيد ربما هو تمكنها من الانسحاب بهدوء.