• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55

مقدمة

استُلهم مصطلح “البجع الأسود” من الاعتقاد الذي كان شائعاً لدى العامة، بأنّ البجع جميعه أبيض اللون، حتى اكتُشف البجع الأسود في أستراليا. ويأتي هذا الاكتشاف ليمثل نقلة فارقة توثّق مدى هشاشة البنية المعرفية البشرية، وهشاشة النهج التجريبي في الاستعداد للمستقبل. ودائماً ما يستشهد بحدثين بارزين في معرض الحديث عن البجعات السوداء وهما: اكتشاف شبكة الإنترنت، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، إذ كان لهما الأثر الواسع في إحداث تحول للنموذج المعرفي على الوضع الراهن.

ويساعد مفهوم البجع الأسود على فهم واستيعاب الأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية شديدة التعقيد ونادرة الحدوث، حيث تكون غير واردة في قاموس توقعاتنا، ويستخدم المفهوم للتدليل على أحداث تتسم بأنها تقع خارج حدود التوقعات الطبيعية، وفي حال وقوعها يكون لها الأثر الشديد، ورغم عدم توقعها للمرة الأولى، فإن طبيعتنا تجعلنا نتقبل فكرة تكرارها بعد وقوعها، وأنها قابلة للتنبؤ ويمكن تفسيرها.

 تستعرض هذه الدراسة مهنة غير متداولة في الكتابات العربية رغم أنها تعتبر من أهم المهن في الجيوش والمؤسسات الأمنية بل وفي الجامعات ومراكز البحوث الغربية، وهي ما يمكن أن نطلق عليه صائد البجع الأسود، بمعنى الباحث القادر على استشراف ما لا يمكن توقعه عادة، وذلك من خلال تحليل ما يتفرد به عن بقية الباحثين. ثم تشرح الدراسة كيف تحولت مهمة صائد البجع الأسود، في بعض الأحيان، إلى صانع للبجع الأسود، بمعنى أن يوجِد أحداثاً يصعب، وفي بعض الأحيان يستحيل، على الآخر توقعها، وذلك لتحفيز البيئة المناسبة لتحقيق أهداف أمنية واستراتيجية وعسكرية، فيما يمكن أن يعرف بـ "حروب البجع الأسود".

بمَ يتفرد صائد البجع الأسود عن الباحثين الآخرين؟

- القدرة على الاستشراف في ظل “الغموض” و”غير المألوف” و”عدم اليقين” و”الفوضى

وفقاً إلى مستوى معارفنا الراهنة وانصرافنا في الغالب الأعم بالمعلوم والمتكرر، يمكننا القول إن عالمنا يسوده “الغامض” و”البعيد الاحتمال”. وهذا يقتضي من صائد البجع الأسود الانطلاق من ذلك الغموض وعدم الاحتمالية، وألا ينظر إليهما كحدث عليه أن يخفيه تحت البساط أو لا يعيره الاهتمام الكافي، وذلك مثلما جُبل عليه الباحث التقليدي المعاصر.

إن صائد البجع الأسود يتجنب أن يكون أولاً مجرد “جامع للإحصاءات” التي يخدع بها نفسه والآخرين، أو أن يكون “الباحث الأفلاطوني” الذي يلجأ إلى نظريات ليرى الواقع من خلالها وذلك على الرغم من كونها، كانت من الأساس أو باتت بمرور الزمن، منفصلة تماماً عن واقع الظاهرة محل البحث، وذلك ليخدع نفسه والآخرين أيضاً. كلاهما (جامع الإحصاءات والباحث الأفلاطوني) بالنسبة إلى صائد البجع الأسود لا يبذل أولاً أي جهد لتسليط الضوء على واقع الظاهرة محل البحث، ويفتقر ثانياً إلى الخيال اللازم لاستشراف مستقبل الظاهرة. كما يرى صائدو البجع الأسود أن أغلبية الباحثين لم يدركوا أنهم لم يتعلموا ما كان حرياً بهم أن يتعلموه. فالمشكلة تكمن في بنية أذهانهم التي تحتقر “التجريد” من جانب، والتي لا تستطيع استشراف “الخارج عن المألوف” ولا تأثير دينامياته على مسار الأحداث، من جانب آخر.

إن المنطق المبني عليه مصطلح “البجع الأسود” هو أن “الأمور الخافية على الباحث هي أكثر صلة بواقع الظاهرة محل البحث من الأمور المعروفة لديه”، وأن الكثير من “البجع الأسود” ينتج ويتفاقم كونه غير متوقع الحدوث. “أليس من الغريب أن نرى حدثاً يقع لسبب وحيد وهو أنه لم يكن له أن يحدث”؟.

صعوبة دراسة الفوضى لا تكمن إذاً في “عدم اليقين” المصاحب لها، بل في غياب مقاربة أو نموذج تأويلي يأخذ في اعتباره ديناميكيات الفوضى وتأثيرات “عدم اليقين”.  فعدم ملاءمة المقاربة أو النموذج التأويلي، لا “الفوضى” ولا “عدم اليقين” ولا “الغموض” ولا “غير المألوف”، هو الذي يحد من قدرتنا على فهم مآلات الظاهرة محل البحث واستشرافها.

ففي النهاية، وحده صائد البجع الأسود يستطيع أن يستشرف مستقبل الظاهرة محل البحث “دون أن يعلم الغيب”، فالمستقبل لن يحمل له أي مفاجأة، والأحداث غير المعتادة ستقع بمعدلاتها الطبيعية.

- القدرة على الاستشراف في ظل تضخم البيانات ورداءة التحليلات السائدة والتضليل المعلوماتي

ربما بسبب تقدمنا ونمونا المذهل في مدارج المعرفة (المتضخمة على مستوى البيانات، والمتردية على مستوى التحليلات، والغارقة في المعلومات المضللة)، فإن مستقبلنا بات أكثر من أي وقت مضى أقل قابلية للتكهن والاستشراف.

وكأن كلاً من الطبيعة البشرية (التي جبلت على حب تكرار المعلوم وعدم الاعتداد بـ “الغامض” و”غير المألوف” وعدم التمكن من الاستشراف في ظل “عدم اليقين” و”الفوضى”) والعلوم الاجتماعية والإنسانية (الغارقة في كلس التنميط والتصنيف) قررتا أن تتآمرا معاً لحجب البجع الأسود عنا وشغلنا بأطنان من البيانات والتحليلات التي رغم استساغتها الذهنية، لا يبقى لها مضمون جدي بين يومي الإثنين والجمعة (أي على الحياة العملية والواقعية). وفي تلك الحالة نستطيع أن نقول إن معارف الباحث التقليدي هي التي تحدّ من مستوى معرفته بطبيعة الظاهرة محل البحث.

وحده صائد البجع الأسود هو من يعي ذلك السياق ويستطيع رغماً عنه استشراف ما لا يمكن توقعه عادة، وذلك من خلال تحليل ما يتفرد به من فهم لهذا الواقع، ومن مهارات وخبرات يفتقدها الباحث التقليدي.

- القدرة على الاستشراف في عالم من “اللا انتظام” و”التجزئة

 نفهم من عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان بأننا نعيش في زمن السيولة بمعنى “حالة مستمرة من إذابة وتمييع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الكيانات التي تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها بشكل ثابت، وهي البُنى الاجتماعية، والروابط الإنسانية، والنماذج السلوكية، والأخلاق والقيم وما إلى ذلك، وتكون إذابتها عن طريق التحديث المستمر لها، ما يجعلنا إزاء حالة لا نهائية في الأفق، وغياب الهدف الذي نسعى للوصول إليه”.

في حين أننا نستطيع أن نفهم من لويس فراي ريتشاردسون عالم الرياضيات والفيزيائي، وعالم الأرصاد الجوية أننا نعيش في زمن اللزوجة، “حيث إن الدوامات الكبيرة بداخلها دوامات صغيرة تتغذى على سرعتها. والدوامات الصغيرة بداخلها دوامات أصغر حجماً وهكذا تتحقق اللزوجة” .

إن هذا التوتر بين السيولة واللزوجة هو ما يجعل العالم على شكله الذي نراه به الآن. عالم من “اللا انتظام” و”التجزئة” معاً.

والباحث التقليدي في مجال الدراسات العسكرية والاستراتيجية والعلاقات الدولية أسير الإحصاءات المضللة والتنميط والتصنيف المتكلس لا يستطيع فهم واقع الظواهر محل البحث، فما بالك باستشراف مستقبلها. وحده صائد البجع الأسود هو من يستطيع ذلك، ولذا فهو عملة نادرة في سوق الأفكار والبحث العلمي والاستشراف.

- التخلص من فخ التنميط والتصنيف المتكلس

إن التصنيف حالة ضرورية عند البشر لكنه يصبح حالة مَرَضية عندما يتحول إلى نوع من التقرير القطعي الذي يمنع التفكير في ضبابية الحدود التصنيفية. وأفضل طريقة للبرهان على الطبيعة الاعتباطية لتلك التصنيفات في أحيان كثيرة وعلى نتائجها غير السوية والمعدية في ذلك الوقت، هو أن نتذكر كمْ مرة انقلبت التحالفات عبر التاريخ. فالتحالف بين الأصولية المسيحية واللوبي الإسرائيلي سيكون بكل تأكيد أحجية محيرة لمفكر مسيحي من مفكري القرن التاسع عشر، عندما كان المسيحيون مناهضين للسامية في الوقت الذي كان فيه العرب هم حماة اليهود

وفي هذا السياق، يمكن فهم لماذا صنّف بعض الباحثين التقليديين (من أسرى فكرة أن التحالف بين الأصولية المسيحية واللوبي الإسرائيلي هو تحالف أبدي ضد العرب) الاتفاقات الإبراهيمية كبجعة سوداء كان لا يمكن استشرافها.

يرى صائدو البجع الأسود أن عجز عموم الباحثين التقليديين عن استشراف ما يحيط بهم من بجعات سوداء مقروناً بنقص إدراكهم لواقع هذه الحال وبالتالي صعوبة التخلص من فخ التنميط والتصنيف المتكلس الذي يشكل أهم صعوبات استشراف ما نسميه لاحقاً بالبجع الأسود.

 ينظر صائدو البجع الأسود للكثير من الباحثين، من الذين نخالهم خبراء في مجالاتهم، بأنهم ليسوا من الخبرة في شيء. فاستناداً إلى سجل كتابتهم فهم لا يفقهون عن الأمور الواقعة في إطار خبراتهم أكثر من الناس العاديين، لكنهم أفضل منهم في المبارزات الكلامية، بل قد يكونون أسوأ منهم نظراً إلى تعميتهم بدخان النماذج والأطر والأنماط المعرفية التي يرون من خلالها الواقع المنفصل تماماً عن تلك الأطر والأنماط.

إن الكثير من نتائج الباحثين التقليديين ليست عديمة الجدوى في الحياة الواقعية بالنسبة إلى صائدي البجع الأسود فقط، بل هي تقلل من أهمية حدوث المحتمل، أو تقود إلى تجاهله، ولأن العديد منها هو الذي يتسبب بظهور البجع الأسود أيضاً .

- التعالي عن الرطانة والتوفيق المبتذل بين الأفكار وتفادي الخطايا الفكرية والمنهجية

إن صائد البجع الأسود هو الوحيد القادر على عدم الاعتداد بتافه القول وسواه من الأمور الخارجة عن موضوع البحث كالرطانة المصطلحية والتوفيق المبتذل بين الأفكار، وذلك عن طريق عرض الفكرة في صورتها الخام على متخذ القرار ليحكم عليها بنفسه.

يرى صائدو البجعات السود أن الاستقراء (الحكم على الكلي بما يوجد في بعض أجزائه) هي المشكلة التي ابتلي بها تاريخ الفكر منذ الفيلسوف اليوناني Sextus Empiricus لأنه يؤدي إلى الشعور بالاكتفاء المعرفي الذي بدوره يؤدي إلى البلادة المعرفية. ومن أهم الخطايا الفكرية والمنهجية المتصلة بالاستقراء وغيره من سبل الوصول إلى المعرفة التي يعرف صائدو البجع الأسود كيفية عدم الوقوع في حبائلها:

1. التركيز على أجزاء مقتطعة سلفاً من المشهد ثم التعميم من خلالها على ما لا يرى: إنها خطيئة فرط التسليم بالبراهين المؤكدة.

2. التصرف كما لو أن البجعات السوداء غير موجودة: فالطبيعة البشرية غير مبرمجة عادة لتقبل فكرة البجع الأسود بسهولة.

3. الاعتقاد بأن ما نراه يعني بالضرورة أنه كل ما هو موجود. فالسياق عادة ما يخفي البجع الأسود ويعطي انطباعاً خاطئاً عن احتمالات حدوثها: وهذا ما يسمى “تشويه الدليل الصامت”، أي عندما لا ننظر إلى كامل القصة بل تقتصر رؤيتنا على أجزاء منها.

4. التخندق على درجات محدودة من الغموض والتركيز على لائحة شديدة التحديد من البجع الأسود وذلك على حساب نظيرها غير المفكر فيها عادة.

إن تلك الخطايا الفكرية كلها تنتج لنا في نهاية المطاف باحثين ممن يمكن أن نطلق عليهم صفة "مجانين لوك"، وهم الباحثون الذي يقيمون بنياناً من التفكير المنمق، ولكن انطلاقاً من مسلّمات خاطئة، تتسبب بنتائج بحثية خادعة تجعلنا عرضة للبجعات السوداء.

- تضييق الأسباب التي تؤدي إلى عدم القدرة على معرفة ما الذي يدور على أرض الواقع بتفادي الِفخاخ التالية:

1. الغرور المعرفي وما يماثله من نقاط عمياء تعمينا عن رؤية البجع الأسود.

2. التصنيف والنمذجة المنفصلة عن واقع الظاهرة محل البحث.

3. أدوات الاستنتاج المعيوبة والخالية من أي ارتباط بفكرة البجع الأسود.

- الإعداد والتعلم والتطوير المستدام

يتم إعداد صائدي البجع الأسود أكاديمياً في الكثير من الدول الغربية بشكل مستدام غير منقطع، فصائد البجع الأسود هو متعلم دائم وهو في الوقت ذاته معلم لآخرين، في دائرة من التعلم المستدام والتشاركي.

وهناك كتب تتناول بشكل مباشر أو غير مباشر أسس تكوين صائدي البجع الأسود وإعدادهم. ولا يكون صائد البجع الأسود عادة من مشاهير الناس، ولكن قد يكون بعضهم كذلك، كالأكاديمي "فيليب تيتلوك" المتخصص في التنبؤ الدقيق، الذي عادة ما يفوز في منافسات التنبؤ الدقيق بهامش كبير على أقرب منافسيه من الفرق الأكاديمية والمحللين الحكوميين، حتى من لديه منهم إمكانية الوصول إلى بيانات غاية في السرية.

 وعادة ما يحقق فريق “تيتلوك” دقة تنبؤ تصل إلى 80%، لذا فقد أصبح الشريك الرئيسي لمشروع الحكومة الأمريكية للبحث الاستخباراتي المعتمد على الذكاء الصناعي المتقدم (IARPA). كما ألف تيتلوك كتباً عديدة من بينها “الاستشراف الخارق: فن وعلم قراءة المستقبل” الذي يشرح فيه مشروعه “التنبؤات الدقيقة”، الذي يعرض فيه بطريقة واضحة وفعالة كيفية إعداد صائدي البجعات السود وذلك بتنمية قدراتهم على توقع ما يمكن أن يقع، ومن ثم استشراف البجع الأسود والمستقبل بسرعة ودقة. كما يؤكد “تيتلوك” أن الاستشراف الجيد للبجع الأسود لا يتطلب استخدام برمجيات متقدمة أو طرق سحرية، بل هو عملية ممنهجة تقوم على جمع الأدلة والمعلومات من مصادر عدة، وتخيل الاحتمالات، والعمل في فريق، والاعتراف بالأخطاء – إن حدثت – ثم تعديل خطة العمل بناء على ما يجد

خاتمة

هناك من الباحثين من يسمي الظواهر محل البحث وفقاً لرؤيته لها، وهناك من يسميها كما هي وهناك من لا تكون الظاهرة موجودة حتى يسميها هو، وفصيل كبير من هذا الصنف الأخير يُعتبر من صانعي البجع الأسود، بمعنى أنه ممن يستطيع أن يخلق أحداثاً يصعب، وفي بعض الأحيان يستحيل، على الآخر توقعها، وذلك لتحفيز البيئة المناسبة لتحقيق أهداف أمنية واستراتيجية وعسكرية محددة.

ولا أدل على وجود ما يمكن تسميته بصانعي البجع الأسود من تواتر الأحداث التي يطلق عليها البجعات السوداء: معركة واترلو، والحرب العالمية الثانية، واكتشاف شبكة الإنترنت، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، والأزمة المالية العالمية عام 2008، وفيروس كورونا المستجد. وتلك الأحداث الأخرى كلها التي تتشارك السمات التالية: – كانت أحداث خارج نطاق التوقّعات المألوفة – لها تأثيرات بالغة الشدة والعمق، وعادة ما يؤرخ لما قبلها بشكل منفصل عما بعدها – وبعد حدوثها تظهر كأنها كانت قابلة للإدراك والتوقع. وآخر ما وصف ببجعة سوداء كان الصراع الروسي – الأوكراني.  ما سبق يمكن له أن يؤكد أن ما يعتبر بجعاً أسود لبعضهم هو ليس كذلك لبعضهم الآخر، سواء الذي تمكّن من استشراف ذلك البجع أو الذي صنعه على عينه.

وصانع البجع الأسود يعتقد في نهاية الأمر بأن المستقبل لا يُستشرف ولكنه يُصنع، ومن أجل ذلك فهو يعمل على صناعة البجع الأسود لمنافسيه؛ وذلك لتحفيز البيئة المناسبة لتحقيق أهداف أمنية واستراتيجية وعسكرية تتماشى مع مصالح الجهة التي يعمل بها. وبما أن المؤسسات والدول والجهات المتعارضة المصالح تسعى إلى ترجيح كفة مصالحها وفرض إرادتها فإنها عادة ما تلجأ لما نستطيع تسميته بـ “حروب البجع الأسود”، التي هي “نوع من ممارسة السياسة بوسائل أخرى” كما كان يقول المنظّر العسكري الألماني "كارل فون كلاوزفيتز".