تآكل المخزون:
عادت قضية الاحتياطي النفطي الأمريكي إلى الواجهة مجدداً خلال الشهور الأخيرة، وخصوصاً بعد توجه واشنطن إلى تحرير جزء من الاحتياطات الاستراتيجية، بعد التشاور مع أعضاء وكالة الطاقة الدولية الآخرين، بهدف خفض الأسعار محلياً؛ إذ أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في مارس 2022، عن خطة لسحب مليون برميل من النفط يومياً لمدة ستة أشهر من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للبلاد، بإجمالي 180 مليون برميل تقريباً؛ وذلك أملاً منه في التعامل مع الارتفاع الحاد في أسعار الوقود في الأسواق المحلية، في وقت تسجل فيه نسب التضخم الأمريكية أعلى مستوياتها منذ 40 عاماً.
أبعاد الأزمة
تعود جذور إنشاء الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للولايات المتحدة إلى عام 1975؛ إذ أدى الحظر النفطي الذي فرضه الأعضاء العرب في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، إلى مضاعفة أسعار النفط 4 مرات، وإلى نقص واسع النطاق في البنزين. ومن ثم يهدف الاحتياطي البترولي الاستراتيجي إلى عزل الولايات المتحدة عن التقلبات في أسواق النفط ولضمان مخزون مضمون من إمدادات الطاقة؛ حيث إن احتياطي البترول الاستراتيجي مُخوَّل باستيعاب ما يصل إلى 714 مليون برميل في كهوف الملح الجوفية في 4 مواقع: بايو تشوكتاو، وويست هاكبيري في لويزيانا، وبيج هيل، وبريان ماوند بتكساس.
وفي هذا الصدد، لجأ “بايدن” إلى الاحتياطي الاستراتيجي للنفط الأمريكي في محاولة لتخفيف آثار الحرب الروسية على أوكرانيا، وكسر السيطرة الروسية على سوق الطاقة في أوروبا في الأساس، بجانب أبعاد أخرى؛ وذلك على النحو التالي:
1-استمرار ارتفاع أسعار الغاز: وذلك على الرغم من توقع إدارة معلومات الطاقة أن أسعار البنزين لن ترتفع إلا بأن تكون أسعار النفط الخام أعلى بكثير مما كان متوقعاً، فضلاً عن توقعها أن تكون أسعار البنزين نحو 2.78 دولار للجالون في عام 2021، و2.85 دولار للجالون في عام 2022. ولم تتوقع إدارة المعلومات أن ترى 5 دولارات للبنزين حتى عام 2040.
لكن في الواقع، ارتفعت أسعار البنزين بنسبة 48% من يوم تنصيب “بايدن” في يناير 2021 إلى الأسبوع الذي سبق التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في 24 فبراير 2022، وارتفعت أسعار الديزل بنسبة 49%، كما بلغ متوسط سعر البنزين الوطني 3 دولارات للجالون في عام 2021. ويبلغ متوسط أسعار البنزين اليوم أكثر من 5 دولارات؛ أي ما يقرب من 20 عاماً “قبل الموعد المحدد”.
2- سياسة “بايدن” للطاقة النظيفة: خلال الحملة الانتخابية لبايدن، اتضحت رغبته في إنهاء استخدام الولايات المتحدة الطاقة التقليدية، مثل الفحم والنفط والغاز الطبيعي، والتوجه نحو التصنيع المحلي للطاقة النظيفة. وبالفعل أكدت الأوامر التنفيذية الأولى لبايدن الأجندة التنظيمية الشاملة لتحقيق هذه الغاية؛ الأمر الذي أدى إلى تغيير العلاقة بين العرض والطلب؛ حيث أُدخلت قيود مصطنعة على إنتاج النفط.
ومن ثم، رفضت إدارة “بايدن” خط أنابيب Keystone XL، فضلاً عن وضع اللمسات الأخيرة على لوائح تقيد كل جانب من جوانب صناعة النفط، مثل التمويل واستثمارات القطاع الخاص، والاستكشاف والإنتاج، وإنشاء خطوط الأنابيب وتشغيلها، واستخدام المستهلك. ومن ثم، فإن سعي “بايدن” المستمر لأجندة مكافحة الوقود الأحفوري، لا يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع السيئ. وفي بعض الأحيان، اعترفت الإدارة بأن الأسعار المرتفعة جزء من عملية التحول بعيداً عن الوقود الذي يوفر 35% من إجمالي احتياجات الطاقة للأمريكيين و90% من احتياجات وقود النقل للأمريكيين، كما أعلنت وزارة الداخلية في أبريل الماضي، أنها سترفع معدلات بيع عقود الإيجار الداخلية وخفض المساحة المتاحة للتأجير بنسبة 80%.
3- محاولة لتخفيف آثار الحرب الأوكرانية: رداً على التدخل الروسي في أوكرانيا، أعلنت الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا، عن خطط للتخلص التدريجي من واردات النفط والغاز من روسيا أكبر مورد للطاقة إلى أوروبا. في المقابل، تعهدت إدارة “بايدن” بزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي لكسر السيطرة الروسية على سوق الطاقة في أوروبا، على الرغم من أن الزيادة الكبيرة في صادرات الغاز الطبيعي قد تواجه تحديات، بما في ذلك الجداول الزمنية للإنتاج وخطوط الأنابيب الحالية وقدرات محطات التصدير.
لذلك على الرغم من إظهار استطلاع جديد أجراه مركز بيو للأبحاث في مايو 2022، أن 61% من الأمريكيين يُفضِّلون توسيع الولايات المتحدة الإنتاج لتصدير كميات كبيرة من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية فيما عارضه 37%؛ فإن نتائج الاستطلاع وقتها تؤكد أيضاً كيف أن التأثيرات المحتملة على الأسعار المحلية هي أولوية للأمريكيين؛ حيث يقول 67% إن التأثير على أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة يجب أن يكون أحد الاعتبارات الرئيسية عندما يتعلق الأمر بما إذا كان يتعين على الولايات المتحدة تصدير كميات كبيرة من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية.
4- تراجع إمدادات النفط العالمية: حذرت وكالة الطاقة الدولية، في يونيو 2022، من أن “إمدادات النفط العالمية قد تكافح لمواكبة الطلب العام المقبل”. وقد يكون احتياطي البترول الاستراتيجي هو الوسادة الأخيرة في أواخر هذا العام، وفي عام 2023، لوضع غطاء على أسعار النفط والتضخم العالمي، وهو الأمر الذي شكل أحد محفزات استنزاف الاحتياطي الاستراتيجي للنفط الأمريكي.
تداعيات متعددة
لا شك أن هناك مجموعة من التداعيات الناجمة عن اعتماد الولايات المتحدة على مخزونها من النفط، خاصةً في مثل هذه الأوقات الدولية الحرجة، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي؛ وذلك على النحو التالي:
1- تهديد مخزون الاحتياطي البترولي الأمريكي: أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، في أغسطس الماضي، أن مخزون النفط الخام في الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للولايات المتحدة هبط بنحو 14.6 مليون برميل، ووصل خلال الأسبوع الأخير من أغسطس إلى 450 مليون برميل، وهو أدنى مستوى منذ يناير 1985.
كما أظهرت بيانات من الوكالة الحكومية، في شهر أغسطس 2022، أن إنتاج النفط الأمريكي تراجع 100 ألف برميل يومياً إلى 12 مليون برميل يومياً، فيما هبطت صادرات الخام إلى 4.2 مليون برميل يومياً بعد أن سجلت مستوى قياسياً مرتفعاً بلغ 5 ملايين برميل يومياً؛ الأمر الذي يمثل خطورة على المدى القريب؛ حيث يتطلب بناء احتياطيات عبر شراء المزيد من النفط، وقد يستغرق ذلك سنوات. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة احتاجت أكثر من عامين لزيادة مخزونات النفط الخام لديها بمقدار 100 مليون برميل، خلال السنوات الثلاث الماضية، وهي فترة كانت أسعار الخام فيها جاذبة لبناء الاحتياطيات.
2- التأثير على شعبية الرئيس “بايدن”: على الرغم من معاناة الرئيس الأمريكي جو بايدن من سخط جماهيري بسبب الارتفاع التاريخي لمعدلات التضخم في الولايات المتحدة، وارتفاع أسعار النفط، فإن استطلاعاً للرأي أجرته “رويترز وإيبسوس”، في أواخر أغسطس 2022، على 1005 أشخاص، أظهر أن تأييد الرئيس “بايدن”، عقب انخفاض أسعار الغاز، قد وصل عند أعلى مستوى له منذ يونيو 2022؛ إذ وصلت النسبة إلى 41، وهي المرة الأولى التي يتجاوز فيها 40% منذ بداية الصيف، كما أعرب 78% من الديمقراطيين عن دعمهم لـ”بايدن”، وهي النسبة التي بلغت 69% في أوائل يوليو، فيما بقيت موافقة الجمهوريين ثابتة عند 12%.
لكن على الرغم من ذلك، يشكك البعض في استمرارية التقدم المُحرز؛ فوفقاً لرويترز، بلغ متوسط إصدارات احتياطي البترول الاستراتيجي منذ مايو 2022، 880 ألف برميل في اليوم، وهو معدل لم يَفِ بخطة المليون برميل في اليوم، فضلاً عن عدم الإقبال من قبل شركات النفط المعتمدة على شراء النفط الخام من الاحتياطي الذي يتم بيعه في مزاد علني؛ ففي جلسة يوليو عُرض 45 مليون برميل، وتم بيع 39 مليون برميل فقط، وفي أحدث جولات المزاد العلني، في أغسطس 2022، اشترت تسع شركات فقط النفط من الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي. ومن ثم، يرى أنصار هذا التوجه أن من المتوقع أن السحب من الاحتياطي الاستراتيجي، قد لا يغير أسعار النفط نحو الانخفاض بدرجة كبيرة. ومن ثم قد لا يشعر المواطن الأمريكي بتأثير إيجابي مباشر على حياته اليومية لمثل هذا القرار، وهو ما يؤدي إلى استمرار سخطه تجاه إدارة بايدن.
3- إنهاك الاقتصاد الأمريكي: قد يؤدي بيع نفط احتياطي النفط الاستراتيجي الآن إلى زعزعة استقرار سوق النفط الهش. وكذلك، فإن بيع احتياطي النفط الاستراتيجي في هذا الوقت الذي تكون فيه الإمدادات كافية لتلبية الاحتياجات المحلية، يمكن أن يقوض السوق بسهولة ويدفع الصناعة المحلية إلى الاضطراب الاقتصادي؛ لذلك فإنه مع استنزاف الاحتياطي الاستراتيجي للنفط الأمريكي، سيتضرر إنتاج النفط المحلي إذا تمت زعزعة استقرار السوق. ومن ثم، يصبح الاقتصاد الأمريكي وصحة الاقتصاد العالمي في خطر بدون إمدادات نفطية مستقرة.
كذلك طلبت إدارة “بايدن” من الكونجرس، في أوائل سبتمبر الجاري، 47.1 مليار دولار في إنفاق طارئ جديد لتضمينه في تشريع الإنفاق المؤقت الذي يحتاج الكونجرس إلى إقراره بحلول نهاية الشهر، والذي من شأنه أن يذهب نحو الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، وشراء اليورانيوم المحلي للمفاعلات النووية، والاستجابة للكوارث الطبيعية؛ إذ يريد البيت الأبيض 500 مليون دولار لتحديث الاحتياطي البترولي الاستراتيجي لوزارة الطاقة، وهو أمر تجادل الإدارة بأنه سيساعد على خفض تكاليف الطاقة ومواصلة الوصول المستدام.
4- الانعكاسات السلبية على المناخ: هناك علاقة عكسية بين التنقيب عن النفط واستهلاك كميات أكبر من المخزون الاستراتيجي للنفط وبين الحفاظ على البيئة من الانبعاثات الكربونية، خاصةً أن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم، بمتوسط يومي يبلغ 17 مليون برميل، وتُعَدُّ – بحسب العديد من التقارير – ثاني أعلى بلد مُصدِر للانبعاثات الكربونية بعد الصين، بأكثر من 5.7 مليار طن سنوياً.
5- تزايد الضغط الدولي على الولايات المتحدة: باتت الولايات المتحدة فاعلاً مهماً في سوق النفط العالمية؛ ما وضع عبئاً كبيراً عليها لمنع الأسعار في سوق الطاقة من الارتفاع إلى مستويات أعلى من خلال بيع جزء كبير من احتياطي البترول الاستراتيجي، لكن لا يمكن لواشنطن استخدام الاحتياطي إلى الأبد؛ حيث إنه مخزون محدود يكافح نقصاً محتملاً في التدفق، لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الولايات المتحدة تستنفد مخبأها بشكل أسرع بكثير مما تبدو عليه.
وفي هذا الإطار، صرح عاموس هولشتاين؛ المنسق الرئاسي الخاص للرئيس “بايدن” لشؤون الطاقة الدولية، في شهر يوليو 2022، بأن الإصدار البترولي الاستراتيجي “كان إجراءً مؤقتاً، ولا يمكننا أن نكون مورِّدين للنفط.. إنه احتياطي وعلينا الاحتفاظ به”، وتعهد بأن إنهاء الإصدارات لن يؤدي إلى حدوث صدمات في الإمداد، مشيراً إلى أن القطاع الخاص أكد له أنه سيكون قادراً على زيادة الإنتاج فور عدم توافر إمكانية الوصول إلى الاحتياطي.
وإجمالاً لما سبق، لا شك أن النفط سيظل مادة استراتيجية لها تأثيرها في السياسات والمصالح الدولية مع صعوبة إيجاد بدائل للطاقة بالكميات المطلوبة وبالأسعار الملائمة. وعلى الرغم من ظهور تقنيات الطاقة المتجددة، لم يتغير الطلب العالمي على النفط والغاز كثيراً ولا يبدو أنه سيتغير في المستقبل القريب. ومن ثم، فإن سياسة الطاقة الراديكالية لـ”بايدن” تتحدى الواقع وتكلف الأمريكيين غالياً. ولن تؤدي زيادة معدلات الإيجار واستنزاف الاحتياطي الاستراتيجي للنفط إلى تغيير ذلك، لكنها ستستنزف الولايات المتحدة، سواء من أجل الاستقلال الوهمي في مجال الطاقة، أو انخفاض أسعارها.
ومع قرب انتهاء مدة خطة “بايدن” للسحب من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للبلاد، من المتوقع أن يعلن “بايدن” تمديد هذه الخطة لآخر العام على الأقل؛ لأنها لم تَجْنِ ثمارها بعد، وأملاً منه في إنقاذ مستقبل الديمقراطيين الذي هو على المحك، خاصةً مع قرب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، والاستمرار في دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.