أظهرت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية السويدية تمكن حزب أقصى اليمين الديمقراطي من مضاعفة قوته والحصول على 20% من أصوات الناخبين. يعني هذا أن الحكومة السويدية القادمة سيشكلها اليمين وأن الحزب سيكون شريكا فيها. يأتي ذلك بعد ثماني سنوات من حكم اليسار الاشتراكي بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي تبنى سياسات عالمية متزنة كان من بينها اعتراف السويد بدولة فلسطين. ينطوي هذا التغيير على إرهاصات مستقبلية مقلقة فلسطينيا، إذ إن علاقات جديدة نمت وتطورت في العقدين الأخيرين بين اليمين المتطرف الأوروبي وإسرائيل، وذلك على الرغم من أن كثيراً من أحزابه ولدت من رحم الفاشية والنازية الجديدة التي نبتت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وارتبطت بحبل صرتها بمعاداة السامية وظلت حتى وقت ليس بعيد مقاطعة رسمياً من قبل إسرائيل.
اليمين الجديد يجتاح العالم
وفي نيسان 2016 استقبل "مجلس مستوطنات يهودا والسامرة وغزة" الذي يطلق عليه اختصارا بالعبرية "يشع"، وفداً سياسياً أوروبياً استثنائياً من حيث حجمه وتنوعه ومستوى المشاركين فيه. فقد ضم الوفد 35 عضو برلمان من أحزاب أقصى اليمين من دول متعددة من بينها: النمسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا وإنكلترا والسويد. وجاءت زيارة الوفد استجابة لدعوة رسمية من قسم العلاقات الخارجية في حزب الليكود. في نهاية الزيارة، لخص بيان مجلس المستوطنات نقاط الاتفاق وأسس الشراكة التي قام عليها اللقاء بينه وبين أعضاء الوفد الزائر كالتالي:
"إن أغلب الزائرين ينتمون لما يسمى "اليمين الجديد" في أوروبا، أي رؤساء أحزاب تعلن رفضها لمعاداة السامية، تدعم إسرائيل وترى في السيطرة الإسلامية على أوروبا خطراً يحدق بالقارة [الأوروبية]".
وأضاف البيان أنه "على دول أوروبا أن تعرف أنه بدون دولة إسرائيل لن يكون هناك من يصد الجرف الإسلامي من إغراق أوروبا وبدون يهودا والسامرة لن تتمكن إسرائيل من الوجود".
كان من بين الشخصيات البارزة التي ضمها الوفد هاينز كريستيان شتراخه، زعيم حزب "الحرية" النمساوي الذي أصبح في 2017 نائب مستشار النمسا، قبل أن يضطر للاستقالة لاحقا إثر اتهامه بقضايا فساد داخلية. أقيم حزب "الحرية " في بداية الخمسينيات من قبل شخصيات نازية ومعادية للسامية وقومية متطرفة، وكان زعيمه الأول عضواً في الحزب النازي العام 1928 وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بعد تحرير النمسا بسبب نشاطه. منذ العام 1986 تزعم يورغ هايدر الحزب وقاده من نجاح إلى آخر، وفي العام 1999 حصد الحزب 26.9% من الأصوات وانضم إلى الائتلاف الحكومي الذي شكله حزب الشعب النمساوي في العام 2000. قوبل دخول حزب "الحرية" الذي تزعمه حينها يورغ هايدر المعروف بعنصريته، للائتلاف بغضب أوروبي، وقام الاتحاد الأوروبي في أعقاب ذلك بتجميد علاقاته مع النمسا وفرض عقوبات عليها. واتهم هايدر بأنه عنصري وكاره للغرباء ومعجب بالنازية. اضطرت الأزمة التي رافقت دخول حزب "الحرية" هايدر للاستقالة من الحزب مع الاستمرار في التأثير على مجرياته الداخلية، وبعد سبعة أشهر أوقف الاتحاد الأوروبي مقاطعة النمسا. من جهتها اتخذت إسرائيل موقفا حازما، وقاطعت الحكومة النمساوية وأعادت سفيرها من فيينا ولم تعده إلا بعد محادثات مطولة مع وزير الخارجية النمساوي في 2003. هذا الموقف العالمي الرافض لليمين المتطرف ذي الجذور النازية لم يعد اليوم ممكنا، وأصبح ماضياً بعيداً. اليوم، تجتاح أحزاب أقصى اليمين الفاشية واليمين الشعبوي أوروبا والعالم، وأصبحت جزءاً من التيار المركزي وترافق بما أسماه كاس مودة (أحد أهم باحثي اليمين المتطرف الجديد) "عملية تطبيع اليمين المتطرف والشعبوي وتحول أفكاره إلى جزء من الفكر السائد mainstream" بحيث تحولت تصورات وأفكار ومعتقدات كانت تعتبر سابقاً غير مقبولة وعنصرية إلى جزء من الخطاب العادي الذي يتم تداوله، وانعكست هذه التحولات بمركزة "أقصى اليمين" في قلب الحقل السياسي بعد أن كان هامشه، وبانزياح أحزاب محافظة ويمينية ليبرالية تقليدية باتجاه أقصى اليمين وهو ما تجسد مثلا في تحول الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة من حزب يمين محافظ إلى حزب يمين راديكالي وفي انزياح حزب المحافظين البريطانيين نحو اليمين الشعبوي وإن كان بصورة أقل فجاجة.
اليمين الجديد يستبدل معادة السامية بالإسلاموفوبيا
شكلت هجمات 11/9 حدثاً مفصلياً في إعادة نظم خطاب أقصى اليمين واليمين الشعبوي على أسس عداوة جديدة تتمحور حول الإسلاموفوبيا واستبدلت معاداة السامية التي كانت تعتبر جزءا أساسيا من فكر الأحزاب اليمينية المتطرفة في السابق. وعلى الرغم من أن معاداة الإسلام والمسلمين لم تكن وليدة اللحظة، بل لها جذور ممتدة تاريخية، الا أنها كانت جزءا من طيف عداوات متنوع لأحزاب أقصى اليمين يشمل اللاجئين والمهاجرين والأقليات واليهود ويتخذ صورا متعددة كعداوة المهاجرين الأتراك في ألمانيا والمغاربة في فرنسا، وفي هذا السياق فإن أهم إسقاطات 11/9 هو تحول الإسلاموفوبيا إلى قاسم مشترك محوري لليمين الفاشي الجديد واليمين الشعبوي واليمين الراديكالي على أطيافه المتعددة والممتدة.وعبر زعماء أقصى اليمين مثل جان ماري لوبان، زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية حينها، ويورغ هايدر، باتت الهجمات بمثابة تجسيد مرعب ووحشي لجوهر صراع الحضارات التي تحدث عنها صامويل هنتنغتون العام 1993.
انتقلت أحزاب أقصى اليمين والفاشية الجديدة بعد 11/9 إلى الاستثمار في الإسلاموفوبيا، وحولتها إلى معاداة وسواسية متطرفة وجوهر برامجها السياسية ونجحت أحزاب أقصى اليمين في تأطير الإسلام كتهديد وجودي وخطر أمني يهدد بقلب القيم الداخلية للحضارة الغربية وأسلمة أوروبا. وانضفر التمحور حول الإسلاموفبيا مع تسويق الصراع الجديد على المستوى الرسمي كجزء من "الحرب على الإرهاب" و"الدفاع عن الحريات"، ونظم أقصى اليمين خطابه عبر لغة مجدولة بثنائيات مانوية متضادة عن المواجهة بين "عالم الخير" و"عالم الشر" وعالم "الحضارة" و "عالم الظلام".
لا يعني هذا الانتقال بالضرورة تخلي اليمين المتطرف عن الفكر المعادي للسامية، وهو ما يفسر النفور والقلق الذي تعبر عنه فئات يهودية مختلفة وواسعة من أحزاب أقصى اليمين وعدم ثقتها بما تبثه من تغيير، لكنه يعبر عن اقتصاد لغوي جديد قامت خلاله أحزاب فاشية الجذور بإعادة بناء مصفوفة العداوات واقتصادها وتعبيراتها وتراتبيتها ، بحيث أصبح معها من الممكن الجمع بين التناقضات مرة ومواراتها مرة، وكان من تعبيرات ذلك في سياقات معينة التعبير عن حب إسرائيل ومعاداة اليهود دون أن يشعر عنصري أبيض متطرف من نشطاء "اليمين البديل" الأميركي بالتناقض بين حبه لإسرائيل وكراهيته لليهود، وهو ما مثله بشكل مثير للدهشة رفع أحد متظاهري 6 كانون الثاني 2020 علم إسرائيل إلى جانب شعار النازية الجديد! ذلك أن هذه الأحزاب تقوم، كما يشير كاس مودة، على فكرة مركزية هي التراتبية والاعتقاد بأن عدم المساواة هو الحالة الطبيعية بين البشر. في هذا السياق يكون المجتمع الأرقى هو الأبيض المسيحي الأوروبي وتنتظم بعده باقي الجماعات من ضمنها بالطبع اليهود. أي أن هذه الأحزاب لن تكون موجودة من دون معاداة السامية رغم محاولات مواراتها في ساحتها الخلفية، ووضعها عميقا في طبقات لاوعيها خلف الإسلاموفبيا. الانتقال من معاداة السامية إلى الإسلاموفبيا يشكل في هذا السياق جزءاً من الأدوات السياسية والمناورة التي تستخدمها أحزاب أقصى اليمين التي التصقت بها تهمة العنصرية العرقية في سبيل كسب الشرعية الدولية، لكنها لم تختف بل أصبحت تنتقل بين مجازات جديدة وصور مختلفة وتظهر في تعبيرات متناقضة تحمل معاداة السامية بيد والصهيونيوفيليا بيد أخرى ويمكن أن تعود لمقدمة المشهد وفق التغيرات.
لم تكن هجمات 11/9 لتغير وجهة السياسة العالمية وحدها، فقد جاءت الهجمات على أرض خصبة ومتغيرات تكتونية عالمية أنتجت سيرورات متناقضة ارتبطت بالصعود المتسارع لعمليات العولمة التي عمقتها الثورة الرقمية بالتزامن مع توحش النيوليبرالية وإفرازاتها. أدت هذه التحولات من جهة إلى اختصار المسافات والوقت وتشابك الأفراد والمجتمعات فيما صار يعرف بالقرية الكونية، لكنها أيضا عمقت من مشاعر الخوف والقلق ومن تفكك الهويات الوطنية والانصهار الثقافي في عصر وصفه زيغمونت باومان بعصر الحداثة السائلة، الذي يشكل فيه التحديث الوسواسي القهري صفته الملازمة، والتمييع والإذابة المستمرة للبنى والقيم ثابته الوحيد. في هذا السياق "السائل" القلق تصبح التيارات المتطرفة والدوغماتية والشعبوية التي تعطي أجوبة يقينية وبسيطة لتعقيدات الواقع بمثابة "جزر صلبة" وحيدة للجماعات الخائفة على هويتها ووجودها والتي مست النيوليبرالية رأس مالها الاقتصادي وتركتها تصارع أحيانا على مستقبلها في ظل تراكم ديونها وعدم قدرتها على منافسة رأس المال الأجنبي أو المنتج الصيني الذي أغرق أسواقها. هكذا تتحول أزمة الاقتصاد العالمي في 2008 من نتاج نيوليبرالية متوحشة إلى نتاج وجود المهاجرين والعمال الأجانب الذين هم بغالبيتهم من دول إسلامية ممن يصورون من قبل اليمين المتطرف والشعبوي كمصدر خطر على الاستقرار الداخلي، لتتحول المنازعة من صراع على النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي نظم المنازعة بين اليمين واليسار سابقا إلى التنازع حول النظام الثقافي، وصراع الثقافات والقيم والموروث.
لا تشكل أحزاب أقصى اليمين الفاشي الأوروبية إلا جزءاً من طيف واسع من اليمين الجديد العالمي نما فيه وازدهرت تيارات قومية يمينية عميقة ومتمادية صعدت إلى واجهة السياسة العالمية وحققت نجاحات غير مسبوقة في دول كبرى. ففي الهند، ثاني أكبر دولة في العالم، نجح حزب الشعب (حزب باراتيا جاناتا BJP) الذي يتمحور حول القومية الهندوسية بزعامة ناريندرا مودي في العام 2014 في الوصول إلى سدة الحكم. وفي الولايات المتحدة استطاع دونالد ترامب في 2016 وبدعم من الأفنجيليين والمحافظين الجدد وتيارت اليمين المتطرف بأن يصبح رئيساً لأكبر قوة نووية في العالم. وفي البرازيل التي تشكل أكبر دول أميركا اللاتينية، نجح اليمين الشعبوي بزعامة جايير بولسينارو في الوصول إلى رئاسة البرازيل في 2018. ووصل اليمين الشعبوي بزعامة فيكتور أوربان للحكم في هنغاريا في 2010 كما وصله بزعامة أندجي سيباستيان دودا في 2015 في بولندا. وتشارك أحزاب اليمين الشعبوي في الائتلافات الحكومية في بلغاريا وأستونيا وإيطاليا وسلوفاكيا، فيما تدعم من الخارج الائتلافين الحكوميين في بريطانيا والدنمارك. وفي فرنسا سجل اليمين المتطرف بزعامة ماريان لوبين نجاحات متلاحقة انعكست في تمكن لوبين في 2017 ولأول مرة في تاريخ الحزب من التأهل للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والمنافسة أمام إيمانويل ماكرون على رئاسة فرنسا، وكررت ذات النجاح في الانتخابات الرئاسية في 2022 التي ضاعفت فيها قوتها في الجمعية الوطنية في الانتخابات البرلمانية في ذات العام حوالي خمس عشرة مرة.
وساهمت مجموعة من الأحداث في العقد الثاني من الألفية الثالثة في الدفع قدما بخطاب الإسلاموفوبيا وصراع الحضارات إلى صدارة المشهد السياسي العالمي. وتصدرت الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين المشهد في دول بأكملها. من أهم هذه الأحداث: انهيار الثورات العربية وتحولها إلى صراعات دموية في سورية وليبيا واليمن، ومن ثم الهجمات التي قام بها متطرفون من أصول إسلامية في أوروبا وعلى رأسها الهجوم على مقر صحيفة "شارلي إبدو" في بداية 2015 والهجمات الدموية في فرنسا التي أوقعت 131 قتيلا، وأزمة اللاجئين السوريين في 2015 التي حولها اليمين إلى موضوع انتخابي مركزي في تجنيد الناخبين من أجل حماية البلاد والوجود من الخطر القادم. وتبنت أحزاب أقصى اليمين واليمين الشعبوي نظرية الاستبدال العظيمGreat Replacement والتي صاغها الأديب الفرنسي رينو كامو (Renaud Camus) في كتاب حمل ذات العنوان ونشره العام 2011. بحسب هذه النظرية، فإن السّكان البيض في أوروبا عامة وفرنسا خاصة يتم استبدالهم بشكل منتظم من مسلمين وشرق أوسطيين من خلال الهجرة الجماعية المنظمة وبمساعدة من داعمي العولمة اليساريين، وإن سكان البلاد الأصليين سيصبحون أقلية في المستقبل في بلادهم في ظل "الاستعمار المضاد" لأوروبا. وأوضح كامو في 2013 في بيان تحت عنوان "لا لتغيير الشعب والحضارة": "إن الاستبدال العظيم هو أخطر صدمة مر بها وطننا منذ بداية تاريخه وإن حقق هذا الإحلال الغفير أهدافه ووقع فعلا استبدال شعبنا وحضارتنا فإن التاريخ القادم لن يكون حتما تاريخنا نحن." استخدم اليمين الجديد كتاب كامو "الاستبدال العظيم" وحوله إلى مرجعية "فكرية" للبرهان على الخطر وللتجييش ومواجهة خطر المسلمين/ المهاجرين/ اللاجئين الداهم. في آذار 2015، كتبت مارين لوبان (Marine Le Pen)، زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، على "تويتر"، أن فرنسا "تعاني من وطأة الهجرة". وكتب غيرت ويدرز (Geert Wilders)، زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في هولندا، في العام 2015 محذرا من أنه "يتم استبدال شعبنا". وفي أميركا، تبنى ستيف بانون (Steve Bannon) مستشار ترامب "نبوءة" الاستبدال الكبير وروج أيضا لرواية معسكر القديسين قبيل الحملة الانتخابية العام 2016. وأصبح استخدام فزاعة "أوروبا العربية" (Eurabia doctrine) أو "أسلمة أوروبا" (Islamization of Europe) بمثابة أهم أداة لجذب الجمهور لليمين المتطرف وتحويله إلى تيار مقبول اجتماعيا. وفي مواجهة هذا الخطر رفع أقصى اليمين شعاره الأيديولوجي "ألمانيا للألمان" و"فرنسا للفرنسيين" في إشارة إلى السكان "الأصليين البيض"، ويطرح اليمين الأميركي الجديد "استعادة أميركا عظيمة مجددا" في إشارة إلى أميركا البيضاء.
إسرائيل النموذج الأفضل لليمين الجديد العالمي
توازى التمحور حول الإسلاموفوبيا مع سعي جزء من أحزاب أقصى اليمين، خاصة التي تتطلع إلى الحكم في بلادها، إلى السعي لنفض معاداة السامية عنها، بعد أن شكلت في السابق لاصقها الأيديولوجي. وجاء هذا التغيير ليضمن لليمين المتطرف شرعية دولية من جهة وتوسيع شرعيته الداخلية من جهة أخرى. وشكلت إسرائيل في هذا السياق ممر عبور أساسي في طقس التبييض والشرعية. وفي سبيل ذلك سعت أحزاب متعددة عرفت سابقا بمواقفها المعادية لليهود بإجراءات التخلص من ظاهرة معاداة السامية وترشيدها، وضمن ذلك قام زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية لوبان بثورة تصحيحية داخلية في الحزب انطوت على الإطاحة بوالدها والتخلص من الشخصيات التي عرفت بمعاداتها للسامية مقابل تحميل المهاجرين والمسلمين وزر معاداة السامية أو كما أشارت "إن معاداة السامية في فرنسا هي غالبا نتيجة التطرف الإسلامي لكن ليس هناك معاداة للسامية في الجبهة الوطنية".
توازى هذا التحول أيضاً مع تطوير خطاب إعجاب جديد بإسرائيل والصهيونية والتماهي المطلق مع كل ما تمثله. في خطابه أمام جمعية الحرية الأميركية American Freedom Association العام 2013 قال خيرت فلدرز، زعيم الحزب من أجل الحرية الهولندي:
إن ما نحتاجه اليوم هو صهيونية لشعوب أوروبا. على الأوروبيين أن يحذوا حذو الشعب اليهودي وأن يعيدوا تأسيس دولتهم القومية... إسرائيل تستحق دعمنا. ليس فقط لأنها تمثل خط المواجهة ضد التهديد الشمولي للإسلام، ولكن أيضاً لأنها توضح مدى أهمية أن يكون للشعب وطنه.
في ظل هذا التحول أصبح سياسيو أقصى اليمين الفاشي يسوقون الصراع على أساس جديد يتموضع فيه الغرب اليهودي- مسيحي الذي يمثل قوى النور والحضارة في مواجهة الإسلام المتطرف وتعبيراته المختلفة التي تشمل المنظمات الفلسطينية وعلى رأسها حماس إضافة لحزب الله وإيران. واختصر خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحرية الهولندي، الأمر بقوله: "إن كل وطني، بصرف النظر عن كونه ديمقراطياً في تعريفه يجب أن يكون أيضاً صديقاً حقيقياً لإسرائيل، لا يمكن للوطني أن يكون معادياً للسامية."
التقطت إسرائيل الإسلاموفوبيا للربط بين معاداة السامية ومعاداة إسرائيل والربط بين الخطر الإسلامي والصراع الذي تخوضه أمام الفلسطينيين والربط بين كل أشكال مقاومة الاحتلال تقريبا ومعاداة السامية. وصرح نتنياهو في خطابه في جلسة الأمم المتحدة في 29 أيلول 2014، ""إن حركة حماس وجماعة داعش فرعان لنفس الشجرة المسمومة... فالحرب ضد الإسلام المسلح غير قابلة للتجزئة". وأضاف "إن الشعب الإسرائيلي يصلي من أجل السلام، إلا أن ذلك الأمل في خطر بسبب تقدم الإسلام المسلح الذي يهدف أتباعه إلى السيطرة على العالم" وأعاد نتنياهو تكرار الموقف ذاته خلال زيارته لفرنسا لإحياء الذكرى الـ 75 لطرد يهود فرنسا التي جرت في العاصمة باريس في 16 تموز 2017. وقال نتنياهو مُوجّهاً حديثه لماكرون في مؤتمر صحافي مشترك "إن الإسلام المتطرف الذي تمثله إيران وداعش يسعى لتدميرنا وتدمير أوروبا، وإسرائيل هي هدفهم الأول فهم لا يكرهون الغرب بسبب إسرائيل بل يكرهون إسرائيل بسبب الغرب، فهم يحاولون تدميرنا وإياكم، وبما أن فرنسا قوة عظمى فلن يمروا عنها مرور الكرام". وأضاف "إن الإسلام السياسي يسعى لتدمير إسرائيل والدول الأوروبية على حد سواء" وفي مناسبة أخرى صرح "لم يكن صدفة أن هذا التطرف يطمح لإبادة دولة إسرائيل منذ نشأتها، لأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". وأضاف بأن "الشعب الإسرائيلي يقف مع شعوب كثيرة ضد وحشية الإرهاب الإسلامي".
ذهب نتنياهو إلى حد الادعاء في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس في 2015 بأن المفتي الحاج أمين الحسيني هو من أوعز لهتلر بالقيام بإبادة اليهود عبر الحرق، وبحسبه "إن هتلر إنما كان يريد طرد اليهود من أوروبا فقط، ولكن مفتي القدس آنذاك الحاج أمين الحسيني قال له إن اليهود ينبغي أن يزولوا من الوجود وإلا فإنهم سينتقلون إلى فلسطين". ومضى للقول إن هتلر سأل المفتي السابق "ماذا عساي أن أفعل؟" فأجاب، حسب رواية نتنياهو، "أحرقوهم". وأثار تصريح نتنياهو عاصفة من النقد تجاهه من باحثين في الهولوكوست وعلى رأسهم رئيسة مركز ياد فشيم. هذا التشويش للحقائق ليس صدفة بل هو جزء من أدوات اليمين الجديد التي تعتمد على تشويش الأخبار والحقائق، والعمل على عرض انتقائي لأنصاف الحقائق كجزء من استراتيجية التأثير، ومن استراتيجية تصنيف العالم إلى أخيار مقابل اشرار، أو همج مقابل متحضرين. وإن الربط بين الإسلام المتطرف، والنازية، والفلسطينيين عبر الحاج أمين الحسيني وحتى أعضاء الكنيست العرب، هو بناء خطابي متسلسل لشيفرات وعلامات وتمثيلات تضعهم مقابل إسرائيل والغرب اليهودي- مسيحي المتحضر.
وجدت إسرائيل في الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين حليفا جديد، وأتاح نجاح اليمين الشعبوي في الهند والبرازيل نقل العلاقات بينهما إلى مرحلة جديدة غير مسبوقة. ففي العام 2010، كانت البرازيل أول دولة في أميركا الجنوبية تعترف بدولة فلسطينية على حدود العام 1967. لكن بعد انتخاب بولسينارو، أصبحت الحكومة البرازيلية من أشد داعمي الرواية الصهيونية للصراع وفي 2019 قامت البرازيل بافتتاح مكتب تجاري في القدس كمقدمة لنقل سفارتها. خلال مراسم الافتتاح، أكد إدواردو بولسينارو، وهو نائب بارز في البرلمان البرازيلي ونجل الرئيس البرازيلي جاير بولسينارو، تعهد بلاده بنقل سفارتها إلى القدس قريبا، وقال: "لديكم حجج سياسية وتاريخية. لديكم مجموعة من الحجج لإدراك أن القدس هي عاصمتكم. لذلك نحن لن نفعل شيئا استثنائيا. ما نقوم به هو أمر عادي – الاعتراف بعاصمتكم.
أما الهند التي امتنعت حتى 1992 عن افتتاح سفارة لها في إسرائيل، فقد شهدت علاقتها مع إسرائيل بعد انتخاب مودي نقلة نوعية أصبحت فيها إسرائيل ثاني أكبر دولة تصدر السلاح للهند بعد روسيا. واتخذت العلاقات مع هنغاريا شكلا مميزا في ظل حكومة فيكتور أوربان، فقد افتتحت المجر مكتبا لها في القدس ليكون بمثابة مقدمة لافتتاح سفارتها وأعلنت هنغاريا أنها ستقف إلى جانب إسرائيل ضد فتح تحقيق في المحكمة الجنائية الدولية. وصرح وزير خارجيتها بيتر سييرتو خلال زيارته لإسرائيل في 21.7.21 بأن دولته لن تعترف بسلطة المحكمة. وتعكس علاقة إسرائيل وهنغاريا المزاج الشعبوي اليميني المتطرف الذي يقوم على معاداة السامية من جهة واحتضان إسرائيل من جهة أخرى، واستخدم أوربان لغة تعتبر في أوروبا متجذرة بمعاداة السامية في الحملة ضد رجل الاعمال اليهودي جورج سورس قائلاً إن أعداء هنغاريا "لا يؤمنون بالعمل، لكنهم يتكهنون بالمال؛ ليس لديهم وطن، لكنهم يشعرون أن العالم كله لهم". ولخص أوربان في خطاب له في هنغاريا أن "هنغاريا لا تريد أن تكون شعباً من خليط من الأعراق". بعد أشهر من ذلك وعبر لقاء جانبي على هامش مؤتمر لأحزاب أقصى اليمين الأميركي ( Conservative Political Action Conference) الذي ينظمه سنويا اتحاد المحافظين الأميركيين، نشر يشاي فليشر، سكرتير الاستيطان في الخليل، صورة سيلفي مع أوربان ووصف أوربان بأنه "بطل حديث للقومية ... وحليف لإسرائيل." وقال فليشر: "أنا لا أنظر إلى هنغاريا كيهودي مجري أو يهودي شتات، أنا أنظر إليها كيهودي إسرائيلي - دولة زميلة في السيادة. ومن هذا المنظور القومي [كذا] يجب على الدول القومية أن تتحد ضد أجندة العولمة التي تسعى إلى فرض حدود مفتوحة ومحو الهويات الوطنية".
في ظل صعود اليمين الجديد العالمي، إسرائيل تعزز مكانتها الدولية
في الدول التي لم تصل بها للحكم أحزاب أقصى اليمين والشعبوية دفعت هذه الأحزاب حكوماتها نحو تبني مواقف لصالح إسرائيل مناهضة للفلسطينيين. وفي هذا السياق طرح حزب البديل لألمانيا سن قانون اعتبار حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات معادية للسامية واتخاذ قرار بمنعها عن العمل، كما انعكس هذا الربط في التعريف العملي لمعاداة السامية الذي تبناه التحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود في 2016 والذي تكمن أهميته في أنه يضع مناهضة الصهيونية كمعاداة للسامية، وقد تبنته حتى الآن 37 دولة سواء بشكل كامل رسمي أو عبر الممارسة.
وفي إسرائيل تحول وصف الإرهاب لوصف يطلق تقريبا على كل ما يفعله الفلسطيني. مثلا: "البناء في مناطق "ج" هو إرهاب البناء، والمقاطعة إرهاب اقتصادي، والولادة إرهاب ديموغرافي، والسياقة المنفلتة في الشوارع هي إرهاب مواصلات". ويموضع خطاب "نزع الشرعية" كل أشكال النضال الفلسطيني في مركز الخطاب الإسرائيلي الذي يتبناه الوسط كما اليمين وانعكس في استمرار حكومة التغيير بالسير على هدي سياسات نتنياهو والذي تمخض عن تصنيف منظمات حقوق إنسان على أنها منظمات إرهابية.
جاء صعود "اليمين الجديد" العالمي متوازيا مع الانزياح المستمر في إسرائيل باتجاه اليمين وأقصى اليمين الاستيطاني وتطبيع التطرف وتحول الشعبوية إلى ميزة أساسية في الحقل السياسي. انعكس هذا الانزياح في تحول الليكود نحو اليمين الشعبوي وصعود قوة الصهيونية الدينية الاستيطانية وتفريخها لتيار الحردلية الذي يدمج بين التزمت الحريدي الديني والقومي الاستيطاني، وعودة الكهانية من خلال حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير إلى صلب الحقل السياسي بعد أن كان تم إقصاؤها إلى خارج حدود القانون إثر مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وتحول بن غفير إلى ضيف دائم في استوديوهات القنوات الإخبارية المركزية. وتوازى هذا الصعود مع ظهور عشرات الجمعيات اليمينية والاستيطانية الجديدة التي تعمل على وضع السياسات ومتابعة تطبيقها وصياغة مشاريع القوانين التي ترسخ الفوقية اليهودية وتقوم بمراقبة النخب الأكاديمية والثقافية ونشر التقارير عنها وملاحقتها في الحيز العام، وتصيد جمعيات حقوق الإنسان ونشطائها ومحاصرتها والتحريض عليها ونزع شرعيتها عبر اتهامها بالخيانة ومساعدة العدو، وانتشار الأنوية التوراتية في قلب المدن الساحلية بهدف تهويدها، وتوازى هذا الانزياح بأفول مثابر في قوة الصهيونية الليبرالية وتفكك هيمنتها التي وضعت أسسها تيارات الصهيونية الاشتراكية الأشكنازية بقيادة مباي وصاغتها تحت مفهوم الدولانية والأمن.
ويشكل استدماج بن غفير سليل الكهانية مثالا نموذجيا لعملية تطبيع الفاشية والتطرف والتحولات في إسرائيل، إذ إن بن غفير الذي يعلق صورة منفذ مذبحة الحرم الإبراهيمي باروخ غولدشتاين في بيته اشتهر بالفترة التي سبقت اغتيال إسحاق رابين بصورته هو يلوح بإشارة سيارة الفولفو الخاصة برابين وصراخه عبر الشاشات: كما وصلنا لسيارته سنصل إليه، وكان يمثل بشخصه وخطابه وانفلاته "الأعشاب الضارة" للدولة والمجتمع المنظم.
وتتوقع الاستطلاعات أن يحصل تحالف حزب تكوما برئاسة بتسلئيل سموتريتش مع "عوتسما يهوديت" برئاسة بن غفير على 10 مقاعد. وهو ما يدفع إلى زيادة فرص نتنياهو في إقامة ائتلاف يميني بزعامته. وقد صرح بن غفير سابقا عشية الانتخابات الأخيرة بأنه في حال إقامة ائتلاف يمين "سأطلب من نتنياهو ان أكون وزير الأمن والنقب والجليل"، في إشارة بالطبع إلى رغبته برسم السياسات المتعلقة بالأساس بفلسطينيي الداخل.
هناك من يعتقد أن موجة الشعبوية العالمية وصعود التطرف في طريقها للانحسار خاصة بعد انتهاء عهد ترامب، ومن المبكر الحكم على الأمر في ظل استمرار أقصى اليمين في تسجيل نجاحات في السويد وفرنسا وإيطاليا، وفي ظل ترسخ قوة الزعماء الشعبويين وإعادة انتخابهم في الهند والبرازيل وبولندا وهنغاريا وغيرها من الدول. يختلف المشهد في إسرائيل لعدة أسباب أهمها طبيعة المشروع الاستيطاني وتديينه في ظل الصراع على حسم مستقبل المشروع الذي ما زال مفتوحاً على مصراعيه.