طالب وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، في 11 أكتوبر الجاري، الدول الأفريقية بدعم بلاده واتخاذ موقف معارض للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقال إنه شاكر للغاية على حسن الضيافة وحفاوة الاستقبال التي قُدمت له في أفريقيا. وقد جاءت هذه التصريحات بعد أيام قليلة من جولته الأفريقية التي بدأها في 4 أكتوبر، والتي زار خلالها السنغال وساحل العاج وغانا وكينيا، في جولة كان مخططاً لها أن تستمر لـ10 أيام، لكنه قطع الزيارة للعودة إلى بلاده للتعامل مع الضربات الصاروخية التي شنتها روسيا على المدن الأوكرانية في 10 و11 أكتوبر. وتعهد كوليبا خلال زيارته للسنغال، بأن تقوم بلاده بكل ما يلزم من أجل تصدير المزيد من الحبوب لأفريقيا. وتثير هذه التصريحات والتحركات الأوكرانية المتنامية على الساحة الأفريقية العديد من التساؤلات حول قدرة كييف على كسب معركة النفوذ في أفريقيا.
مظاهر معبرة
ثمة جملة من المؤشرات التي تعبر عن تزايد اهتمام الجانب الأوكراني بتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، ومن أهمها ما يلي:
1- جولة وزير الخارجية الأوكراني الأخيرة في أفريقيا: تعد جولة وزير الخارجية الأوكراني الأخيرة في أفريقيا هي الأولى من نوعها؛ حيث استهل كوليبا جولته، في 4 أكتوبر، بزيارة السنغال ثم ساحل العاج وغانا. وقد جاءت هذه الزيارة التاريخية بعد جولة لنظيره الروسي سيرجي لافروف إلى عدد من دول القارة ذاتها، في يوليو الماضي، لضمان تكثيف الدعم لبلاده وإلقاء اللوم على أوكرانيا بشأن نقص الإمدادات الغذائية. ويبدو أن زيارة وزير الخارجية الأوكراني الأخيرة جاءت رداً على جولة نظيره الروسي، واستهدفت موازنة النفوذ الروسي في أفريقيا؛ حيث أشارت وزارة الخارجية الأوكرانية في بيانها إلى أن كوليبا أجرى خلال هذه الجولة مباحثات تركزت بشكل أساسي حول تعزيز الدعم السياسي لأوكرانيا.
2- اتجاه كييف لافتتاح سفارات جديدة في القارة: اتجهت أوكرانيا مؤخراً إلى توسيع حضورها الدبلوماسي في القارة الأفريقية؛حيث أشارت الخارجية الأوكرانية في بيان لها إلى أن وزير الخارجية الأوكراني قال، في محادثات مع وزير الخارجية الغاني شيرلي أيوركور بوتشوي في أكرا، إن “أوكرانيا تسعى لبدء شراكة نوعية جديدة مع غانا”، وأضاف: “أوكرانيا توسع وجودها في أفريقيا. لقد توصلنا إلى اتفاق مع غانا. نخطط لفتح سفارة أوكرانيا في غانا في المستقبل القريب، وتابع قائلاً إن “بدء وجودنا الدبلوماسي في أكرا سيعطي دفعة لتطوير الاتصالات السياسية، والتجارة، والاستثمار والتبادلات الثقافية والتعاون في مجال التعليم”. كما ناقش الوزيران خطوات لتكثيف التعاون بين أوكرانيا وغانا في مجالات الأمن والأمن السيبراني والتحول الرقمي والزراعة، واتفقا على بدء الاستعدادات لإنشاء لجنة مشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي، بحسب ما أفادت الخارجية الأوكرانية.
3- تصعيد كييف ضد روسيا في الاتحاد الأفريقي: حرصت أوكرانيا على التصعيد ضد روسيا في الاتحاد الأفريقي، وقد بدأ هذا التصعيد منذ يونيو الماضي، عندما ألقى الرئيس فولوديمير زيلينسكي خطاباً أمام الاتحاد الأفريقي؛ حيث تتمتع أوكرانيا بصفة مراقب، ودعا زيلينسكي الدول الأفريقية إلى التوقف عن دعم ما وصفه بأنه شكل جديد من أشكال الاستعمار الجديد. واتهم زيلينسكي روسيا “باحتجاز أفريقيا رهينة بحصارها البحري لموانئ أوكرانيا على البحر الأسود”. أما وزير الخارجية كوليبا فقد قال للصحفيين خلال زيارته للسنغال إن “الرواية الروسية حاضرة للغاية هنا. حان الوقت الآن للحقائق الأوكرانية”. وأشار كوليبا، في مؤتمر صحفي في 13 أكتوبر الجاري، إلى أن روسيا هاجمت أوكرانيا لأول مرة في عام 2014 عندما كانت سياسة أوكرانيا هي الحياد وليس عضوية الناتو. وإذا كانت النية الانضمام إلى الناتو بمنزلة استفزاز للحرب، فلماذا لم تهاجم روسيا فنلندا؟”.
4- تقديم وعود لأفريقيا حول حماية أمنها الغذائي: قال وزير الخارجية الأوكراني بعد اجتماع مع الرئيس السنغالي ماكي سال ووزيرة الخارجية أيساتا تال شال في 4 أكتوبر الجاري: “أوكرانيا سترسل سفناً مليئة بالحبوب إلى أفريقيا. سنقوم بما في وسعنا حتى النفس الأخير لمتابعة تصدير الحبوب إلى أفريقيا والعالم من أجل ضمان الأمن الغذائي”. ويُشار في هذا الصدد إلى أن العديد من البلدان الأفريقية تعتمد بشكل قوي على استيراد الحبوب من أوكرانيا وروسيا.
أهداف منشودة
تستهدف أوكرانيا من وراء سعيها لتعزيز حضورها في القارة الأفريقية، تحقيق مجموعة من الأهداف يأتي على رأسها ما يلي:
1- كسب أصوات أفريقية داخل الأمم المتحدة: دعا وزير الخارجية الأوكراني، في 11 أكتوبر الجاري، الدول الأفريقية للتصويت مع أوكرانيا في الأمم المتحدة، وقال: “يجب أن تسمع موسكو موقفكم المنادي بأن هذه الحرب غير مقبولة ويجب أن تتوقف. هذا الأسبوع سيُجرى تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار الذي يدين العدوان الروسي والمحاولات الروسية غير القانونية لضم الأراضي الأوكرانية. تعتمد أوكرانيا على دعمكم القيِّم لهذه الوثيقة المهمة، لا يمكن تحقيق السلام في أوكرانيا والعالم إلا معاً. ودعم أفريقيا مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضي”. يُذكر أن العديد من الدول الأفريقية ظلت على حيادها بشأن الحرب؛ حيث صوتت نحو 25 دولة أفريقية لصالح الامتناع عن التصويت أو لم تصوت على الإطلاق على قرار الأمم المتحدة الذي أدان الحرب في أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام.
2- تحسين صورة أوكرانيا لدى القادة الأفارقة: منذ بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كانت روسيا تدفع برواياتها لتشكيل وجهات نظر معادية لأوكرانيا في أفريقيا، واستغلت موسكو أزمة الحبوب، بعد إغلاقها موانئ أوكرانيا البحرية، لإلقاء اللوم على أوكرانيا لفشلها في توفير الحبوب التي تعتمد عليها العديد من الدول الأفريقية لإطعام سكانها، وصورت موسكو كييف على أنها تابعة للغرب الاستعماري القديم الذي يتعمَّد حجب الحبوب لتجويع القارة الأفريقية. ومنذ فبراير الماضي، حرص زيلينسكي على القيام بمداخلات بوسائل الإعلام في نيجيريا وغانا وجنوب أفريقيا وكينيا، كما أجرى مكالمات هاتفية نادرة مع بعض القادة الأفارقة. وسعت أوكرانيا لاستخدم جميع أدوات حرب المعلومات لمواجهة الدعاية الروسية في أفريقيا. وقد قال وزير الخارجية الأوكراني قبيل زيارته لأفريقيا إنه سيحاول “شرح أوكرانيا بشكل أفضل” لنظرائه الأفارقة، ولماذا تحتاج أوكرانيا لهم ضد الهجوم الروسي.
3- تغيير مواقف الدول المحايدة لصالح كييف: تسعى كييف إلى تغيير مواقف الدول الأفريقية المحايدة بشأن الحرب لتكون أكثر انحيازاً لكييف. ويدلل على ذلك أن السنغال كانت أول محطة في زيارة وزير الخارجية الأوكراني لأفريقيا، لا سيما أنها كانت من بين الدول التي امتنعت عن التصويت، وأبلغ رئيسها ماكي سال الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي أن “أفريقيا لا تريد أن تكون أرضاً خصبة لحرب باردة جديدة”. وعلى الرغم من مواقف الحياد هذه، قال دميترو كوليبا، في 11 أكتوبر الجاري: “إنني أهيب بأفريقيا عدم التمسك بالحياد. لن يؤدى الحياد إلا إلى تشجيع روسيا على مواصلة عدوانها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أفريقيا، ولا يمكن تحقيق السلام في أوكرانيا والعالم إلا معاً. ودعم أفريقيا مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى”، فيما بدت أوكرانيا شاكرة لموقف الرئيس الغاني نانا أكوفو-أدو، الذي صرح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي قائلاً إن “كل رصاصة، كل قنبلة، كل قذيفة تصيب هدفاً في أوكرانيا، تصيب جيوبنا واقتصاداتنا في أفريقيا”.
4- تعزيز حضور أوكرانيا الاقتصادي في أفريقيا: تعمل كييف على تعزيز حضورها الاقتصادي في الأسواق الأفريقية، خاصةً أن موسكو سعت إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي على حساب كييف في الأشهر الأخيرة بقطع وصول أوكرانيا إلى الأسواق الأفريقية؛ فبمجرد بدء الحرب أغلقت روسيا موانئ أوكرانيا على البحر الأسود، ومنعت المنتجات الزراعية من الوصول إلى أفريقيا، وقامت موسكو بهدوء بتصدير بضائعها الخاصة إلى شركاء أوكرانيا التجاريين السابقين، كما أُلقى باللوم أيضاً على كييف في أزمة الغذاء. يُذكر أنه قبل بدء الحرب، زادت تجارة أوكرانيا مع جميع شركائها الخمسة الكبار في القارة، وتلقت البلدان الأفريقية أكثر من 6.7 مليون طن متري من الحبوب من أوكرانيا، وحصلت على 13% من إجمالي صادرات الحبوب الأوكرانية في العام الماضي.
عراقيل عديدة
تواجه التحركات الأوكرانية تحديات عديدة في سبيل كسب معركة النفوذ في أفريقيا، ويأتي على رأس هذه التحديات ما يلي:
1- الحضور الإعلامي الأوكراني الضئيل: حيث يشير بعض الخبراء إلى أن لأوكرانيا وجوداً إعلامياً ضئيلاً للغاية في أفريقيا مقارنةً بروسيا التي تعمل عبر قنواتها الإعلامية، لا سيما قناة “روسيا اليوم”، وقناة “سبوتنيك” وغيرهما، فضلاً عن التعاون الروسي مع المنظمات غير الحكومية المحلية لتنظيم التجمعات المؤيدة لروسيا في العواصم الأفريقية. كما أن موسكو حاضرة باستمرار في فضاء المعلومات، وفي الحياة الاجتماعية والسياسية الأفريقية.
2- الحضور الدبلوماسي الأوكراني المحدود: تمتلك روسيا نحو أربعين سفارة في جميع أنحاء القارة، مقارنةً بأوكرانيا التي لا تملك سوى ثلاث سفارات أوكرانية في أفريقيا جنوب الصحراء، في السنغال ونيجيريا وإثيوبيا، وتعتمد على تغطية سفارة واحدة لعدة دول مختلفة. علاوة على ذلك، ليس لسفارات أوكرانيا سفير في الغالب، وعادةً ما يديرها موظفون مبتدئون.
3- ندرة الزيارات المتبادلة الرفيعة المستوى: لم يَقُم أي رئيس أوكراني بزيارة أي دولة أفريقية من دول جنوب الصحراء منذ حصول أوكرانيا على استقلالها عام 1991. وكان الرئيس الأفريقي الوحيد الذي قام بزيارة كييف هو رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما في عام 2000.
4- النفوذ الروسي المتصاعد في أفريقيا: يُشكل النفوذ الروسي المتصاعد في أفريقيا تحدياً أمام مساعي كييف لتعزيز حضورها في القارة؛ فقد طورت روسيا العديد من التحالفات العسكرية مع الدول الأفريقية. وبرغم أن كينيا – التي تعد واحدة من أكبر عشرة شركاء تجاريين لأوكرانيا في أفريقيا – نددت بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، فإنها لم تستجب لطلبات أوكرانية إضافية بشأن روسيا.
الحياد المزعج
وفي المجمل، يمكن القول إن تحركات أوكرانيا المتزايدة لتوسيع حضورها في أفريقيا، لا تزال تواجه تحديات بجملة من التحديات، يأتي في مقدمتها النفوذ الروسي المتنامي؛ فعلى الرغم من الحملة السياسية والإعلامية الناجحة لأوكرانيا في العديد من العواصم الغربية، فإنها لا تزال تكافح من أجل كسب التأييد السياسي والشعبي في أفريقيا، نظراً لمحدودية حضورها الإعلامي والسياسي والدبلوماسي؛ فالحياد المزعج لنحو خمس وعشرين دولة أفريقية تجاه أوكرانيا، لا يزال يوضح تفوق السياسة الروسية وحرب المعلومات في العديد من دول أفريقيا.