• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
تقارير

أثارت الاكتشافات الكبيرة للثروات في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط عدداً من الصراعات الدولية والإقليمية، وخلقت مناطق توتر ونزاع جديدة في المنطقة، حيث أصبحت المنافسة بين الدول شرق المتوسط على الاستحواذ بالنصيب الأكبر من هذه الثروات؛ هي الشغل الشاغل والهدف الاستراتيجي الذي تسعى الدول المتنافسة لتحقيقه، كونه يرتبط بالأمن القومي والمصالح الحيوية للدول المطلة على حوض شرق المتوسط.

 ولا تتوقف الأهمية الاستراتيجية لهذه الثروات عند حجم الاكتشافات المقدّرة والمتوقعة في مناطق الصلاحيات البحرية الخالصة للدول ذات الشأن فحسب، بل إن أثر هذا التنافس الإقليمي يلقي بظلاله على النزاعات القائمة حول قضايا ترسيم الحدود البحرية، إذ تسعى الدول الكبرى في المنطقة للتحكم بمرور أنابيب الغاز العابرة القارات، لتنمية اقتصاداتها المحلية من جهة، وتعزيز مكانتها كفاعل مركزي في سوق الطاقة العالمي من جهة أخرى.

 ومع اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، واستخدام روسيا "سلاح الغاز" لمحاولة إخضاع أوروبا والضغط على الولايات المتحدة الأمريكية في إطار الصراع بين الاتحاد الروسي وحلف الناتو، تطوّرت الشراكات الاقتصادية التي تحفزها اكتشافات الغاز، إلى تحالفات سياسية عسكرية نتج عنها تشكيل محاور إقليمية ودولية ما يعزز المخاوف ويزيد من احتمالات نشوب صراع إقليمي دولي عنوانه التنافس على مصادر الطاقة.

أهمية منطقة شرق المتوسط

تنبع الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط من موقعها الجغرافي الذي يربط قارات "آسيا وإفريقيا وأوروبا" ببعضها البعض، واتصاله بطُرُق التجارة العالمية عبر مضائق "السويس والبوسفور وجبل طارق"، واستناداً إلى علم الجيوبوليتيك؛ تتمتع الدول التي لديها سواحل بحرية ومائية بميزات استراتيجية تُمكِّنُها مِن جَني مصالح تجارية واقتصادية كبرى ونفوذ سياسي أكبر، إذ تعتبر هذه المنطقة من أبرز نقاط عبور أنابيب البترول والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي، كذلك هي جزء من منطقة الشرق الأوسط التي تضمُّ حوالي 47% من احتياطي النفط و41% من احتياطي الغاز في العالم.

المنطقة البحرية يطلق عليها جيولوجياً اسم حوض شرق البحر الأبيض المتوسط وتطل عليها 7 دول هي مصر وسورية ولبنان وقبرص وفلسطين وتركيا وإسرائيل، تبلغ مساحتها 83 ألف كم مربع تحتوي على ما يقدره علماء الجيولوجيا والطاقة ومؤسسات متخصصة كهيئة المساحة الجيولوجية الأميركية، والتي قدّرت في العام 2010 احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون م3 من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل وغزة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 1.7 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج.

ولا تتوقف أهمية هذه الثروات الكبيرة على حجم الكميات التي تحتويها هذه المنطقة من الغاز الطبيعي والنفط فحسب، إنما تكمن أهمية هذه المنطقة في قربها من أهم المستهلكين العالميين للطاقة في العالم وهو الاتحاد الأوروبي، إذ أفادت التقارير بأن أوروبا استوردت حوالي 400 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال عام 2018م معظمها من روسيا التي تعتبر الخصم التقليدي لأوروبا تاريخياً، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي لتنويع مصادره من الغاز الطبيعي لتقليل اعتماد على الغاز الروسي، والذي تستخدمه القيادة الروسية كورقة ضغط سياسية على أوروبا.

أهم حقول الغاز شرق المتوسط

بدأ إنتاج الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط قبالة سواحل فلسطين المحتلة، حينما أعلنت إسرائيل عن اكتشافها لحقلي غاز تَمار وليفياثان عامي 2009م، 2010م على التوالي، ثم بدأت الاكتشافات في المنطقة تتوالى حيث تم اكتشاف موقعين في المياه الإقليمية لسواحل قبرص وآخر قبالة ساحل غزة، وستبدأ عمليات البحث والتنقيب لاحقاً في حقلين في المياه الإقليمية اللبنانية، إذ تبدو التوقعات واعدة في ظل الحديث عن وجود احتياطات مؤكدة وكبيرة في منطقة حوض الشام، تكفي لتغطية حاجات دول المنطقة من الغاز، وتسمح بالتصدير إلى الأسواق الأوروبية والدولية.

وتعد إسرائيل الأكثر نشاطاً في التنقيب عن الغاز من الحقول المكتشفة، إذ أنها تستخرج الغاز من حقل "غزة مارين"، الذي اكتشف في العام 2000م داخل الحدود البحرية الإقليمية لقطاع غزة، وتقدّر الكمية الممكن استخراجها منه بـ 30 مليار متر مكعب من الغاز، كما أنها تستخرج كميات كبيرة من الغاز من حقل "تمار"، الذي اكتشف في العام 2009م قبالة سواحل حيفا، وتقدر احتياطاته بـ 280 مليار متر مكعب، كما تعمل إسرائيل أيضاً على التنقيب في عدد من الحقول المتنازع عليها "ليفياثان، شمشون، تاني، رويي" وتقدّر احتياطاتها مجتمعة بـ 795 مليار متر مكعب.

 وقد أطلقت قبرص مشاريعها للحفر والتنقيب عن الغاز من مناطقها الاقتصادية، حيث بدأ الاستخراج من حقل أفروديت المكتشف في العام 2011م، وتقدر احتياطاته بـ 4 تريليون قدم مكعب من الغاز، أما أحدث الاكتشافات القبرصية فهو حقل كاليبسو الذي تم اكتشافه في العام 2018م، وتقدّر احتياطات الغاز فيه بنحو 6 إلى 8 تريليون قدم مكعب، وحقل غلافكوس الذي تم اكتشافه في العام 2019م، وباحتياطي يقدر بنحو 5 إلى 8 تريليون قدم مكعب.

 من جهتها تنقب مصر في حقل ظهر، المكتشف في العام 2015م من قبل شركة إيني ENI الإيطالية، والذي يعد أكبر حقل شرق المتوسط، وهي منطقة تبعد نحو 200 كيلومتر شمال بورسعيد، وتقدر احتياطاته بـ 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويعتبر هذا الحقل من أكبر الحقول المكتشفة في البحر الأبيض المتوسط متجاوزاً حقل غاز ليفياثان الإسرائيلي، وقد دخل حيز الإنتاج في ديسمبر2017م، حيث بلغ حجم إنتاجه عام 2022م حوالي 2.7 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي يوميًّا، وبلغ إجمالي الاستثمارات فيه حوالي 741 مليون دولار ليحقق إجمالي استثمارات منذ بدء عمله بلغت 12 مليار دولار.

حقول الغاز في غزة

تضم المنطقة الاقتصادية البحرية لغزة عدة حقول من الغاز الطبيعي، جرى اكتشافها في السنوات الأولى التي أعقبت اتفاق أوسلو، وقد وضعت إسرائيل يدها على حقول الغاز الأربعة القريبة من شواطئ غزة، والتي تعدّ وفقًا لاتفاقات أوسلو من نصيب الفلسطينيين، وهي حقول "غزة مارين" و"ماري بي" و"نوا"، والتي يقدّر إجمالي الاحتياطي المؤكد فيها بنحو 6 تريليون قدم مكعبة، وكان من المقرّر أن تقدم حقول الغاز القريبة من شواطئ غزة عائدات تقدر بأكثر من 4.5 مليار دولار سنويًا. وأهم هذه الحقول هو حقل مارين، والذي يعتبر أول الاكتشافات في شرق المتوسط منذ عام 1999م، وتقدر احتياطاته بنحو تريليون قدم مكعب "32 مليار متر مكعب"، بإمكانه سد احتياجات الفلسطينيين من الطاقة لمدة 25 عاماً بما فيها توفير الطاقة الكهربائية، أما حقل ماري بي، هو حقل يقع على الحدود البحرية الجنوبية الفاصلة بين إسرائيل وقطاع غزة، وكان يضم مخزوناً من الغاز الطبيعي يقترب من تريليون قدم مكعب، قامت إسرائيل باستخراج الغاز منه لتغطية حاجاتها المحلية من الطاقة حتى تم تجفيفه عام 2011م. أما حقل "نوا" فتمتد بنيته الجيولوجية لأعماق الحدود البحرية لقطاع غزة، وقد تم اكتشافه عام 1999م، وبدأت إسرائيل بإنتاج الغاز منه عام 2012م، حيث وصلت توقعات مخزون الغاز بداخله إلى نحو 3 تريليون قدم مكعب، وقد تم اكتشاف حقل للغاز في "المنطقة الوسطى" بقطاع غزة، والذي يقع قبالة مخيم النصيرات، وقدر خبراء جيولوجيون عام 2014م بأنه يضم 500 مليار قدم مكعب من الغاز، وقد سعت حركة حماس في ذات العام لاستخراج الغاز منه، إلا أن عائق الحصار أوقف المشروع، بسبب حظر إسرائيل ومصر إدخال بعض المعدات اللازمة لاستخراج الغاز.

صراع الغاز والطاقة شرق المتوسط

تتعد أوجه الصراع على الغاز والنفط في منطقة شرق المتوسط، وتتداخل الأبعاد والعوامل المحرّضة للدول في سياساتها الخارجية تجاه التنافس على الثروات البحرية في تلك المنطقة، إذ يأخذ الصراع أبعاداً قانونية وأمنية وسياسية واقتصادية، ما يجعله معقداً وقابلاً للاشتعال في أي لحظة، وعلى ما يبدو أن القوى الدولية والإقليمية أدركت حجم المخاطر المترتبة على هذا الصراع؛ فسارعت إلى عقد تحالفات وتفاهمات جماعية وثنائية، تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بغية تقاسم الثروات والتحكم في الإنتاج وخطوط النقل والتصدير؛ ففي يناير 2019م، أُعلن عن تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم كلاً من (فلسطين والأردن ومصر واليونان وقبرص وإيطاليا وإسرائيل)، إضافة إلى عضوية فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي كمراقبين، وقد هدف تأسيس المنتدى إلى إنشاء سوق غاز إقليمي، وتحسين العلاقات التجارية وتأمين العرض والطلب بين الدول الأعضاء، وكذلك مساعدة الدول المستهلكة في تأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وإتاحة مشاركتهم مع دول العبور في وضع سياسات الغاز في المنطقة، مما يتيح إقامة شراكة مستدامة بين الأطراف الفاعلة في كافة مراحل صناعة الغاز.

 ويلعب الصراع العربي -الاسرائيلي دوراً مهماً في تعطيل الاستفادة من موارد وثروات منطقة شرق المتوسط، إذ شهدت السنوات الأخيرة نزاعاً على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، وقد نجحت الولايات المتحدة في الوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود بين الطرفين في 27 أكتوبر 2022م، بناءً على قبول لبنان بترسيم الحدود استناداً إلى الخط 23 والتراجع عن الخط 29 الذي اعتمده الجيش اللبناني، وهو ما يمنح اسرائيل "حقل" كاريش كاملاً، مقابل إعطاء لبنان "مكمن" قانا، على أن يتم تقاسمه بين لبنان من جهة، وشركة "توتال انرجي" الفرنسية وإسرائيل من جهة أخرى.

ويعتبر الخلاف بين تركيا وقبرص اليونانية واحداً من أبرز أسباب الصراع شرق المتوسط، إذ تعتبر تركيا أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية، تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها، لذلك لا تعترف تركيا بالاتفاقات التي أقامتها قبرص "اليونانية" لترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان، وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب على الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوق أنقرة في جرفها القاري ومناطقها صلاحياتها البحرية.

الخلاصة

يتضح مما سبق أن الصراع في منطقة شرق المتوسط لا ينحصر بين إسرائيل والعرب، أو تركيا واليونان فقط، بل يمتد أيضاً ليشمل أطرافاً ولاعبين دوليين وإقليميين، بما يحملون من أجندات سياسية وأمنية واقتصادية كالولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، إذ تعمل القوى الفاعلة في البيئتين الدولية والإقليمية على التحكم في خطوط إنتاج وتوريد الغاز والنفط، وتسعى للسيطرة على الممرات البحرية، في ظل تصاعد التنافس الأوروبي الأمريكي مع الصين وروسيا على إعادة تشكيل وصياغة النظام الدولي من جديد.

وبالرغم من التوجهات الرسمية نحو تهدئة المنطقة وتعزيز المصالحات بين القوى المتنافسة، إلا أنه من المتوقع أن تبقى منطقة شرق البحر المتوسط نقطة توتر ساخنة، ما يؤكد على أن الصراع القائم -والمحتمل مستقبلاً- أكبر من مجرد تنافس على التحكم في احتياطي الغاز الطبيعي، أو تحقيق الأمن الطاقوي والسيطرة على الممرات المائية في المنطقة، لذلك من الصعب التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية لصراع شرق المتوسط، نظرًا إلى شدة تعقيد الملف وتشابك علاقات الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتعارض مصالحهم الجيواستراتيجية في المنطقة.