قبيل أسبوع من إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي الحاسمة لتحديد ملامح المدة المتبقية من ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن، اختار الأخير الصدام مع شركات النفط الأمريكية؛ حيث اتهم بايدن شركات النفط والغاز بـ”التربح من الحرب في أوكرانيا”؛ لأن المساهمين يجنون الأرباح القياسية، وقال إنه يتعين على الشركات بدلاً من ذلك خفض تكاليف الوقود للأمريكيين أو استثمار بعض الأرباح في تعزيز الإنتاج المحلي، واستمر مهدداً بأنه إن لم ينفذوا هذا الطلب، فسيطلب من الكونجرس فرض ضرائب على أرباحها الزائدة وإخضاعها لقيود أخرى.
والجدير بالذكر أن تلويح بايدن بفرض ضرائب استثنائية على شركات النفط الأمريكية لم يكن مفاجئاً؛ حيث إنه يأتي ضمن خطة مُعدة مُسبقاً من قبل الإدارة الأمريكية للتعامل مع ارتفاع أسعار النفط بالضغط على شركات النفط لتمرير المدخرات إلى المستهلكين من خلال فرض ضرائب استثنائية على الأرباح. لكن يمكن القول إن توقيت التهديد بهذا الإجراء سببه إعلان شركتي النفط العملاقتين “إكسون موبيل” و”شيفرون” عن أرباح وفيرة؛ ما يعكس كيف تعززت الصناعة بفعل ارتفاع أسعار النفط الخام بعد الحرب في أوكرانيا.
وكذلك ارتفاع تكاليف الغاز الطبيعي أيضاً، بسبب حشد أوروبا لتعويض الواردات المفقودة من روسيا؛ لذلك علق بايدن مستنكراً: “أرباحهم مكاسب غير متوقعة للحرب”، مطالباً إياهم بـ”مسؤولية التصرف” بما يتجاوز المصلحة الذاتية الضيقة لحملة الأسهم والمديرين التنفيذيين، ومساعدة المستهلكين من خلال زيادة الإنتاج وقدرتهم على التكرير. ومن هنا تزايدت احتمالات الصدام بين بايدن وشركات النفط، وما له من تداعيات، خاصةً في هذا الوقت الحرج في السياسة الأمريكية.
أبعاد الصدام
مع استمرار الحرب في أوكرانيا ارتفعت أسعار النفط الخام وكذلك معدلات التضخم، وهو الارتفاع الذي ينتج عن تأثير شديد على مستقبل الديمقراطيين خاصةً أن البلاد تجري انتخابات التجديد النصفي التي تشير استطلاعات الرأي إلى استغلال خصومهم التقليديين (الجمهوريين) هذه الملفات للتأثير على سلوك الناخبين ليكون في صالحهم. لذلك كان لهذا الصدام أبعاد عديدة أبرزها:
1- احتواء أزمة ارتفاع أسعار الطاقة: إذ قال مسؤول في البيت الأبيض إن بايدن يحاول ممارسة الضغط مجدداً على شركات النفط والغاز الكبرى من أجل استثمار أرباحها القياسية في خفض أسعار الطاقة للأُسر الأمريكية وزيادة إنتاجها؛ وذلك كان قبل أسبوع من انتخابات التجديد النصفي وفي وقت يبدو فيه الأمريكيون مستائين من جراء التضخم وارتفاع أسعار الوقود؛ لذلك فإن تهديدات الرئيس بايدن لشركات النفط الأمريكية محاولة لإنقاذ شعبيته الغائبة.
2- تخفيف تداعيات قرار “أوبك +”: إذ يحاول بايدن بهذه التهديدات أن يشوش على خيبة الأمل التي تعرض لها من قرار تكتل أوبك بلس، في شهر أكتوبر الماضي، بخفض حصص الإنتاج، وهو القرار الذي رأته الإدارة الأمريكية محفزاً لارتفاع الأسعار. وقد شكَّل هذا القرار إخفاقاً دبلوماسياً لبايدن الذي كان يطالب بزيادة الإنتاج، لاعتبارات متعلقة بالداخل الأمريكي والحفاظ على شعبيته وشعبية الحزب الديمقراطي قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، علاوة على الاعتبارات المتعلقة بالحرب الأوكرانية.
3- تجنب مزيد من الاستنزاف للاحتياطي النفطي الأمريكي: حيث ضخَّت الإدارة الديمقراطية نحو 180 مليون برميل من النفط الخام من الاحتياطات الاستراتيجية في السوق، في خطوة غير مسبوقة في منتصف أكتوبر الماضي، للتخفيف من وطأة ارتفاع الأسعار الناجم خصوصاً عن الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا إحدى أكبر الدول المصدِّرة للنفط والغاز. ويلاحظ هنا أن أسعار البنزين لا تزال مرتفعة رغم أنها تراجعت في الأشهر الأخيرة بعدما سجلت مستويات قياسية في الربيع متجاوزةً خمسة دولارات للجالون الواحد.
تداعيات محتملة
نتيجة لهذه الأبعاد، فمن المتوقع أن تسعى إدارة الرئيس بايدن جاهدة إلى تأمين مصادر الطاقة، لكن لا شك أن استمرار الصدام بين بايدن وشركات النفط الأمريكية من شأنه أن يكون له عدد من التداعيات أبرزها:
1- تهديد مخزون الاحتياطي البترولي الأمريكي: على الرغم من أن العوامل الأخرى الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا تسببت بحدوث ارتفاعات مبكرة في أسعار النفط الخام، فإن السحب غير المسبوق البالغ مليون برميل يومياً من احتياطي النفط الاستراتيجي للولايات المتحدة على مدى 6 أشهر أتى بثماره نسبياً في تقويض أسعار النفط إلى حد ما. أما وفقاً للخطة الأمريكية بالسحب من احتياطي النفط الاستراتيجي، الهادفة إلى خفض أسعار النفط الخام، فستكون آخر جولة سحب في هذه السلسلة في ديسمبر القادم، مع بيع ما يصل إلى 15 مليون برميل من احتياطي النفط الاستراتيجي.
لكن بايدن نفسه صرَّح بأنه أخبر فريق إدارته بأن يكون مستعداً للبحث عن جولات أخرى للسحب في الأشهر المقبلة تحت مسمى “خطة الاستعداد والسحب” إذا اقتضت الحاجة، وأشار إلى أن هذا الإجراء يسمح بالتحرك بسرعة لمنع ارتفاع أسعار النفط الخام والاستجابة للأحداث الدولية.
2- تعافٍ زائف لشعبية بايدن: إذ ارتفعت نسبة التأييد له عقب هذا التصريح وقبل فترة وجيزة من الانتخابات النصفية؛ فوفقاً لاستطلاع جديد لرويترز وإيبسوس استمر ليومين على 1004 شخص، ونشرت نتائجه يوم 1 نوفمبر الجاري، فقد وافق 40% من الأمريكيين على أداء الرئيس الوظيفي، بزيادة نقطة مئوية واحدة عن الأسبوع السابق له، لكنهم لا يزالون يحومون بالقرب من نقاط منخفضة مقارنة بأوائل هذا العام؛ حيث وصل التصنيف إلى نقطة منخفضة قياسية عند 36% في مايو مع ارتفاع مشاكل التضخم.
ومع ذلك، يشعر البعض بالسخط ويتهمون بايدن بالخداع؛ حيث علق أحد المواطنين على هذه التصريحات قائلاً: “هذا الرجل يغلق أولاً منشآت النفط ويمنع تطويرها، ثم يلقي باللوم عليها”. وتساءل آخر قائلاً: “ألم يكن هدفه غلق صناعة النفط؟!”، وعلق آخر: “إذا تشاجرت مع السعوديين وتوقف إنتاج النفط في بلادك، فتوقع الهزيمة في 8 نوفمبر، خاصة أن الاقتصاد هو المشكلة الأكثر إلحاحاً في البلاد”، وهو ما قاله 33% من المشاركين في استطلاع رويترز-إيبسوس، وهو المجال الذي يشهد تفوقاً لصالح الجمهوريين بين الناخبين وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة.
3- تعزيز مكانة بايدن بين الديمقراطيين: صحيح أن بايدن قد يضطر إلى تهدئة الأمور وعدم خوض صراع مع شركات النفط الأمريكية؛ لأن هذا سيزيد فرص فوز الجمهوريين بالكونغرس واستعادة السيطرة على عملية صنع القرار ووقف تشريعات بايدن لإحراجه أمام الرأي العام. ولكن مع ذلك، فإن تبني الدعوات للصدام مع شركات النفط لقي قبولاً لدى الديمقراطيين؛ حيث أعرب النائب الديمقراطي “رو خانا” عن سعادته بشأن التوقعات، قائلاً: "كنا ندعو إلى فرض ضريبة أرباح غير متوقعة على شركات النفط الكبرى منذ شهور، ويسعدني أن أرى الرئيس بايدن يفكر علناً في هذا النهج".
4- إنهاك الاقتصاد الأمريكي: ففي حالة رفض أصحاب الشركات فكرة الضرائب الاستثنائية، قد يؤدي استمرار الصدام إلى زعزعة استقرار سوق النفط الهشة؛ لذلك سيتضرر إنتاج النفط المحلي إذا تمت زعزعة استقرار السوق. ومن ثم، يصبح الاقتصاد الأمريكي وصحة الاقتصاد العالمي في خطر بدون إمدادات نفطية مستقرة.
5- إمكانية التراجع عن التصعيد مع الحلفاء: ربما يكون من الصعب على إدارة بايدن الدخول في صدام مع شركات النفط وفي الوقت ذاته مواصلة العلاقات المتوترة مع حلفائها في أوبك بلس؛ لأنها ستكون في هذه الحالة في موقف ضعف، ومن ثم إذا استقرت إدارة بايدن على خيار الصدام المتواصل مع شركات النفط، فقد تلجأ إلى تخفيف التوترات مع الدول الحليفة لها.
سيناريو التهدئة
وعطفاً على ما سبق، فإن فرص نجاح سيناريو الصدام بين بايدن وشركات النفط قد تبدو قليلة جداً؛ نظراً لمقاومة شركات النفط مفهوم “الضرائب الاستثنائية” بأي شكل من الأشكال. وهو ما أعرب عنه جيف إيشيلمان الرئيس التنفيذي لجمعية البترول المستقلة الأمريكية، الذي وصف هذا التصريح بأنه “معيب للغاية”. وأضاف إيشلمان: "حان الوقت لأن يتوقف الرئيس عن ممارسة لعبة اللوم مع اقتراب ليلة الانتخابات، وبدلاً من ذلك عليه أن يساعد في دعم عمال النفط والغاز الأمريكيين لزيادة الإمدادات هنا في الولايات المتحدة".
لذلك من المتوقع أن يوصي الخبراء والدائرة المقربة من عملية صنع القرار بايدن بتهدئة الأمور وعدم الاصطدام بالقائمين على صناعة النفط، وبالعمل بدلاً من ذلك على تضافر الجهود لتشجيع شركات النفط (والنفط الصخري) الأمريكية على زيادة إنتاجها، وفقاً لنظرية المباريات Sum-Sum game التي تهدف إلى تحقيق مكسب لجميع أطراف اللعبة، وهو السيناريو المتوقع تحقيقه.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه كان السائد في الفترة الماضية؛ حيث أعلنت وزارة الطاقة، في مارس الماضي – في خطوة تؤكد أنها ستحمي مصالح دافعي الضرائب، وتشجع المزيد من الإنتاج على المدى القريب – نيتها شراء النفط عندما تكون أسعار خام غرب تكساس الوسيط عند نطاق من 67 دولاراً للبرميل، إلى 72 دولاراً للبرميل أو أقل منه، لإعادة ملء مخزون الطوارئ. وقال بايدن نفسه: "إن هذا يعني أن شركات النفط يمكنها الاستثمار لزيادة الإنتاج الآن، ولديَّ ثقة بأنها ستكون قادرة على بيع نفطها لنا بهذا السعر في المستقبل"، وأوضح أن "إعادة تعبئة الاحتياطي عند 70 دولاراً للبرميل تُعَد سعراً جيداً للشركات، وهو سعر جيد لدافعي الضرائب، وهو أمر بالغ الأهمية لأمننا القومي".