الحدود أو المناطق الحدودية في إفريقيا مصدر فرص كما أنها مصدر تحديات. ويؤشر على هذا صراع سيراليون في تسعينات القرن الماضي والذي انتشر إلى ليبيريا وساحل العاج، والاستجابة الإقليمية لتمرد "بوكو حرام" في غرب إفريقيا والتعاون بين الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، والتوتر المستمر بين رواندا والكونغو الديمقراطية بأزمة شرق الكونغو، وهناك دور لأزمة دارفور في الصراع السوداني-التشادي، ومؤخرًا نشبت اشتباكات جديدة بين السودان وإثيوبيا؛ الأمر الذي يعني أنه غالبًا ما تكون هناك بنية تاريخية وجغرافية مكانية وجيوسياسية متجذرة في مسارات هذه الصراعات وعدم الاستقرار.
وباتباع طبيعة هذه الحدود يمكن القول بأن الكولونياليين بنوا معظم تلك الحدود على أساس هياكل فضفاضة للهويات والولاء وافتراض تجانس المجتمعات الإفريقية، واستمر تبنيها من قبل الدول الإفريقية بعد الاستقلال. وكانت النتيجة أن كان هناك دائمًا تنافس وصراع بين هذه البلدان وسكان مناطقها الحدودية بالإضافة إلى صعوبة عملية إدارتها وضبطها والاتفاق على مسارات تنمية مجتمعاتها.
الأزمات الحدودية الجارية في إفريقيا
كانت النزاعات الحدودية حقيقة واقعة في إفريقيا على مر القرون؛ حيث شهدت المناطق الحدودية بين مختلفة الإمبراطوريات والممالك والمجتمعات ملاحم ووقائع سجلتها كتب التاريخ في مناطق مختلفة، خاصة أن ممالك مختلفة سعت إلى توسيع نطاق نفوذها من خلال السيطرة على الأراضي واعتماد بعضها كحدودها. ومع ذلك كانت طبيعة تلك الحدود القديمة مختلفة عن المعتادة اليوم نتيجة اختلاف الدول الحديثة وحدودها الوطنية.
وفي حين لم تكن الأزمات الحدودية حالة خاصة بإفريقيا، كما يلاحظ في الأزمات الصينية-التايوانيةوالروسية-الأوكرانية؛ فقد كان اتفاق معظم الباحثين في الأزمات الحدودية بإفريقيا أن الموارد الطبيعية مصدر جل النزاعات بين دول القارة بشأن حدودها، وأن هناك احتمال حدوث نزاع حدودي بين الدول التي تفتقر إلى الحوكمة الرشيدة، وأن الدول التي تعمل داخل معظم هذه الحدود تملك السيادة "القانونية" فقط دون السيادة التجريبية العملية.
وقد أشارت دراسة جديدة إلى وجود ما يقرب من 100 نزاع حدودي مستمر في جميع أنحاء إفريقيا اليوم، وتتفاقم هذه النزاعات بسبب صراعات الأسلحة والعمليات غير المشروعة التي تقع على العديد من هذه الحدود. ويمكن تصنيف معظم النزاعات الحدودية في العقدين الماضيين بين النزاع على السيادة الوطنية حول منطقة حدودية؛ أو النزاع على تبعية منطقة حدودية لدولة معينة بسبب الموارد التي تحتويها، وهناك مناوشات عسكرية وأنشطة إرهابية عابرة للحدود، وتمرد الحركات الانفصالية وتهريب البضائع غير المشروع والعنف العرقي والاتجار بالبشر والمواجهات العنيفة بين الزارعين ورعاة المواشي.
وإلى جانب هشاشة الحدود الإفريقية وعدم واقعية ترسيمها من قبل القوى الكولونيالية؛ تؤدي النزاعات المنتشرة في إفريقيا عبر الحدود الوطنية إلى زعزعة استقرار مناطق بأكملها. والأمثلة على هذا كثيرة كما هي الحال في الكونغو الواقعة في وسط إفريقيا والتي يتجدد فيها القتال منذ ما يقرب من عقد من الزمن، وشارك فيه أكثر من عشر فصائل متمردة مدعومة من قبل دول مختلفة مجاورة ترعى بعض المتمردين كشكل من أشكال الانتقام من الدول التي ينشط فيها هؤلاء المتمردون بسبب مواقف سياسية أو مصلحة اقتصادية.
الكونغو الديمقراطية ورواندا
كانت الحدود الكونغولية الرواندية من إنشاء الكولونياليين البلجيكيين والألمان في أوائل القرن العشرين، وظلت كما هي دون تغيير منذ استقلال الدولتين في ستينات القرن الماضي. ومن سماتها أنها تمتد في اتجاه نموذجي بين الشمال والجنوب، وإلى حدٍّ كبير على طول الأنهار وبحيرة كيفو لمسافة 222 كيلومترًا. وهذا يعني أن الحدود بين البلدين كانت من النقطة الثلاثية الشمالية مع أوغندا إلى النقطة الثلاثية الجنوبية مع بوروندي.
وقد تجدد في الشهر الماضي الصراع المستمر منذ فترة طويلة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا وسط مناوشات دامية على طول حدودهما المشتركة في شرق الكونغو الديمقراطية. وتعود العلاقة المضطربة بين الجانبين إلى زمن وصول بعض الهوتو الروانديين إلى الكونغو الديمقراطية، هؤلاء الهوتو كانوا متهمين بجرائم قتل التوتسي خلال الإبادة الجماعية برواندا، عام 1994. وتفاقمت الأزمة بعدما شكلوا مع مجموعات أخرى من اللاجئين الروانديين في الكونغو ميليشيات في شرق الكونغو الديمقراطية باسم "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR)، وذلك بهدف معارضة نفوذ عرقية التوتسي وحكومة الرئيس الرواندي، بول كاغامي.
وقد كان التوقع في عام 2019 عندما وصل الرئيس الكونغولي، فيليكس تشيسكيدي، إلى السلطة أن يجري حل الخلاف بشكل سلمي وبحث سبل إخماد تجدد الاتهامات بين الجارتين. ولكن التوتر بينهما تصاعد، في يونيو/حزيران 2022، عندما اتهمت القوات المسلحة الكونغولية في بيانٍ دولةَ رواندا بإرسال 500 من القوات الخاصة متخفية إلى منطقة "تشانزو" في مقاطعة "كيفو الشمالية" المتاخمة لرواندا حيث تنشط حركة "23 مارس" المتمردة والتي تشكَّلت، في أبريل/نيسان 2012، عندما انشق حوالي 300 جندي ومعظمهم أعضاء سابقون في ميليشيا سياسية مسلحة وانقلبوا ضد حكومة الكونغو الديمقراطية بدعوى سوء الظروف في الجيش وفشل الحكومة في تنفيذ اتفاقية السلام الموقعة في 23 مارس/آذار 2009.
فمن جانب، يتهم الرئيس الكونغولي، فيليكس تشيسكيدي، جارته رواندا بدعم حركة "23 مارس" المتمردة لزعزعة استقرار الكونغو الديمقراطية، وحركة "23 مارس" تنشط في المناطق الشرقية من الكونغو الديمقراطية وتشن أقوى هجماتها في الأراضي الحدودية الشرقية للكونغو. وفي المقابل، اتهمت رواندا جيش الكونغو الديمقراطية بدعم "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" من خلال إطلاق النار نحو الأراضي الرواندية والقتال إلى جانب هذه الحركة المتمردة لزعزعة استقرار رواندا.
وهناك تحد آخر يكمن في حقيقة أن الحكومة الكونغولية نفسها لا تتحكم بالأوضاع المتدهورة في منطقة شرق الكونغو رغم وقوعها تحت سيادتها قانونيًّا؛ حيث شهدت المنطقة مؤخرًا زيادة هجمات ضد المدنيين الكونغوليين من قبل المتمردين الكونغوليين والجماعات المسلحة الأجنبية الأخرى بما فيها "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR)؛ مما يعني أن ما يجري في شرق الكونغو الديمقراطية لا يشكل تهديدًا فقط للكونغو، بل هو تهديد لاستقرار الدول المشتركة معها في الحدود.
السودان وتشاد
كانت أزمة دارفور التي بدأت عام 2003 محور الصراع، واتخذت الأزمة مراحل مختلفة مع تبادل اتهامات بين السودان وتشاد منذ ذلك الحين. وعلى سبيل المثال، أعلنت حكومة تشاد في عام 2005 "حالة حرب" مع السودان، كما حاول المتمردون في عامي 2006 و2008 الاستيلاء على العاصمة التشادية بالقوة مع فشلهم في الحالتين.
وقد تمحورت معظم الاتهامات المتبادلة بين الجانبين في محاولة تقويض السيادة من خلال التلاعب بالمنطقة لتحقيق مصلحة معينة. وعلى سبيل المثال اتهمت تشاد دولة السودان في عام 2006 بدعم التمرد الذي حاول الاستيلاء على العاصمة التشادية، ولكن السودان نفى الادعاء. وفي المقابل، ألقى السودان باللوم على تشاد قائلًا: إنها تدعم مجموعة مختلفة من المتمردين في دارفور بغرب السودان. بينما حمل تشاديون اللوم على فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة لتشاد، ويتهمونها بالتورط من خلال التدخل في الشؤون التشادية ودعم الاستبداد.
ويمكن أيضًا فهم ديناميكية الأزمة الحدودية التشادية-السودانية من خلال البلدان المجاورة الأخرى التي شاركت فيها؛ إذ اتُّهِمَتْ إريتريا وليبيا بدعم المتمردين في دارفور. هذا إلى جانب الجماعات المسلحة المختلفة مثل "الجبهة المتحدة للتغيير الديمقراطي" والعرب الذين يُطلَق عليهم "الجنجويد" و"تحالف القوى الثورية لغرب السودان".
جدير بالذكر أن إقليم دارفور وقَّع اتفاق سلام، عام 2020، مع متمردين رئيسيين، كما زار رئيس المجلس العسكري الانتقالي في تشاد، محمد إدريس ديبي، دولة السودان، في عام 2021، وقال في بيان: إن البلدين احتضنا التكامل وتضافر الجهود والتعاون المشترك مع الاتحاد الإفريقي في مجال أمن الحدود، ومكافحة الإرهاب والانتهاكات الأمنية عبر الحدود.
ومع ذلك، لا تزال الاشتباكات تندلع حول الأرض والماشية والوصول إلى المياه والمراعي. وقد قُتِل، في أبريل/نيسان من هذا العام (2022) وحده، أكثر من 200 شخص في اشتباكات بين "الجنجويد" وجماعات غير عربية في غرب دارفور.
مالي والنيجر
تختلف حالة مالي والنيجر نسبيًّا عن الحالتين السابقتين. وقد ازداد العنف في المناطق الريفية بين مالي والنيجر على مدى العقدين الماضيين؛ حيث لم تتمكن الحكومتان، المالية والنيجرية، من تخفيف حدة التنافس المتصاعد بين المجموعات العرقية المختلفة على طول الحدود. وأدى انتشار الأسلحة في أعقاب تمردات الطوارق بين تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تغيير طابع العنف، واعتماد جيل من الشباب في المنطقة الحدودية على الأسلحة لكسب معيشتهم، والانضمام إلى الجماعات العنيفة للحصول على الأسلحة لحماية مجتمعاتهم من الآخرين. وقد سُجِّلت اشتباكات عنيفة مختلفة على طول الحدود بين البلدين والتي أودت خلال أشهر قليلة فقط في عام 2018 بحياة العشرات من السكان
وقد استغلت الجماعات الإرهابية السخط المحلي وضعف الوجود والأداء الحكوميين في شمال مالي، وكانت المنطقة الحدودية أكثر اضطرابًا في عام 2012 بسبب الصراع في مالي؛ حيث جُنِّد المقاتلون من الفئات السكانية الأكثر ضعفًا مما سرَّع من انتشار الأسلحة ومَنَح المسلحين موطئ قدم وشن هجمات عبر الحدود ضد الجيش النيجري. وفي أعقاب عملية "سرفال" العسكرية الفرنسية في أوائل عام 2013، تمكن المقاتلون من إعادة تأسيس أنفسهم في المناطق الريفية من مالي ثم النيجر.
وهناك تقارير عن استغلال السياسيين ميليشيا الفولاني في شمال تيلابري، المنطقة الحدودية في جنوب غرب النيجر التي تشهد أنشطة عنيفة، لإنشاء ميليشيات مجتمعية في المناطق المجاورة في مالي والنيجر. ورغم الانتقادات التي تتعرض لها هذه الميليشيات للانخراط في سلوك مفترس وعنيف للضغط على الحكومة للحصول على ميزة معينة، إلا أن زعماء هذه الميليشيات والمنتمين لها يقولون إنهم يدافعون عن حقوق القبائل المهمشة من قبل الحكومة.
جهود مبذولة وحلول مقترحة
يمكن تصنيف الجهود المبذولة على شقين: الأول يتعلق بحل النزاع الحدودي والثاني يتعلق بالأنشطة العنيفة العابرة للحدود. وفيما يتعلق بالشق الأول، قدم الاتحاد الإفريقي برنامجًا حدوديًّا طموحًا منذ عام 2007 لتحديد الحدود البرية والبحرية الدولية في جميع أنحاء إفريقيا ووضع أطر معالجة النزاع الحدودي. ولا يزال التحدي الذي يواجهه هذا الجهد أنه يلقى مشاركة غير متكافئة من الحكومات الإفريقية، ولم يحقق بحلول عام 2015 سوى ربع أهدافه.
ويمكن القول: إن عدم ثقة الدول الإفريقية في الآليات الإفريقية لحل نزاعها الحدودي أسهم في لجوء الدول الإفريقية إلى "محكمة التحكيم الدائمة" (PCA) و"محكمة العدل الدولية" (ICJ). هذا رغم أن المحكمتين تعرضتا لانتقادات من بينها اتهامهما بانتهاك مصالح الدول الإفريقية من خلال تطبيق القانون الدولي الأوروبي المركزي في النزاعات الحدودية الإفريقية.
ومن البدائل الأخرى إفريقيًّا التي يحث البعض على استغلالها: مجالس الكبار أو هيئة الحكماء واستخدام المنصات المختلفة التي توفرها المنظمات الإقليمية المختلفة، مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية لشرق إفريقيا (IGAD).
وفيما يتعلق بالأنشطة العنيفة والحركات المسلحة العابرة للحدود فإن نظام الإنذار المبكر الخاص للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي من بين الأنظمة المبتكرة الموجودة لحل هذه النزاعات، بالإضافة إلى قوات إقليمية مختلفة تشكَّلت في السنوات الأخيرة للتعامل مع أزمات الحركات الإرهابية العابرة للحدود في دول بغرب إفريقيا والساحل وفي منطقة جماعة شرق إفريقيا (EAC) وغيرها.
وهناك نماذج مختلفة لجهود هذه المنظمات الإقليمية في مكافحة الأنشطة العنيفة العابرة للحدود، بل في الحالات الثلاث المذكورة (الكونغو الديمقراطية-رواندا، ومالي-النيجر، والسودان-تشاد) كانت للمحاولات الإقليمية والإفريقية رمزية كبيرة في تهدئة الأوضاع. وآخر هذه المحاولات كانت في الكونغو الديمقراطية عندما اتفق قادة "مجموعة شرق إفريقيا في العاصمة الكينية، نيروبي، على إرسال قوة إقليمية إلى الكونغو الديمقراطية لقمع تصعيد العنف الأخير الذي يجتاح شمال شرق البلاد ويفاقم العلاقة بينها ورواندا.
جدير بالذكر أن ضمن المقترحات المقدمة من قبل بعض الباحثين الأفارقة: إزالة العوائق السياسية لتمكين حرية حركة المنتجات والخدمات وقوى الإنتاج باستخدام الموارد بشكل متساوٍ وفعال، بالإضافة إلى تجهيز المناطق الحدودية بأسواق مواتية مما يزيد من جاذبية التجارة والاستثمار الدوليين، وتوسيع مشاركة المتخصصين من السكان الأصليين وجماعات المجتمع المدني والاستفتاءات العامة.
ومع ذلك، تواجه معظم المقترحات المقدمة من قبل الباحثين عدة تحديات أهمها أن عددًا من الحكومات الإفريقية غير مستعدة لفتح حدودها؛ حيث جميعها يؤيد الحدود الاستعمارية بعد حصولها على استقلالها لدرجة أن "منظمة الوحدة الإفريقية" (OAU) ضمَّنت بندًا في ميثاقها والذي نصَّ على "احترام حدود الدول الأعضاء القائمة على تحقيق الاستقلال الوطني"؛ الأمر الذي جعل البعض يقولون: إن الأعضاء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية فوَّتوا الفرصة لوضع الحجر الأساس للتكامل الإفريقي الحقيقي ومعالجة التشوهات التي تسبب فيها المستعمرون.
وهناك من يرى أن الحل الجذري للأزمات الحدودية الإفريقية يكمن في تعزيز الحوكمة الرشيدة في الدول التي تعاني هذه الأزمات؛ حيث الحكم الرشيد يسهِّل العلاقات الممتازة ويعزز الطرق السلمية لحل القضايا بين الجيران. ويؤكد على هذا حقيقة أن معظم الدول الإفريقية التي تواجه أزمات حدودية اليوم هي التي تسجل درجات ضعيفة في تصنيف مؤشر الديمقراطية، أو تُصَنَّف بين أنظمة هجينة وأنظمة استبدادية. وبعبارة أخرى، فإن التفاعلات بين الدول غالبًا ما تكون سهلة عندما تكون مبادئ الحكم المحلي ديمقراطية ومؤسسية تدعم التكامل والتماسك الوطني، ويساعد في تبني الدول المجاورة طريق التعاون في ظل الظروف المتعلقة بحدودها، مما يسمح بالتكامل الإقليمي.