ما إن انطلق قطار مؤتمر مدريد للسلام، والذي عُقِد في مدينة مدريد الإسبانية، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1991، حتى بشَّر الكثيرون بأن السلام الشامل هو عنوان المرحلة القادمة، وأن التطبيع المنتظر سيُرْسِي دعائم السلام في المنطقة، ويُدشِّن بداية بناء إجراءات الثقة بين أعداء الأمس، ويؤدي إلى رفاه اقتصادي سُمِّي مجازًا في ذلك الوقت "عوائد السلام". وكان من شأن تكرار هذه المقولات على لسان أنصار التطبيع والعلاقة مع إسرائيل أن أكسبها مصداقية وهمية وكأنها حقيقة غير قابلة للجدل. لكن وبعد مرور قرابة ثلاثة عقود على توقيع اتفاق أوسلو، باتت المنطقة أبعد ما تكون عن السلام، ناهيك عن أن المواطن العربي لم يلمس عوائد السلام الموعودة.
وكان لافتًا أن موقف الأنظمة العربية المعلن يفيد بأن السلام يسبق التطبيع، وهكذا جاءت مبادرة السلام العربية في عام 2002، بعد أن تعهدت الأنظمة العربية بصنع السلام والتطبيع مع إسرائيل لقاء موافقة الأخيرة على الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. لم تحفل إسرائيل بهذا العرض العربي، فالمجتمع الإسرائيلي كان يتحرك إلى اليمين وفيه أصبحت الحكومات المتعاقبة مُمَثِّلَة لمصالح الاحتلال والاستيطان. وعليه، أصبح صنع السلام أقرب ما يكون إلى تمرين أكاديمي في حين أن إسرائيل كانت تُغيِّر من الأمر الواقع تدريجيًّا لخلق واقع جديد واستكمال آخر حلقات المشروع الصهيوني في فلسطين.
مع اندلاع ثورات الربيع العربي تغيرت البيئة الإقليمية، وتبدلت تبعًا لذلك قاعدة الأعداء والأصدقاء، وشهدت حالة من سيولة التحالفات ما خلق أولويات متضاربة للأنظمة العربية. وعليه، فإن مقولة: "السلام يسبق التطبيع" ذهبت أدراج الرياح مع بروز مقاربة تُعلِي من شأن التطبيع والتحالف مع إسرائيل قبل تحقيق السلام القائم على إنهاء حالة آخر احتلال كولونيالي في العالم على أرض فلسطين. وحاول اليمين الإسرائيلي مدعومًا بالرئيس دونالد ترامب طرح مقولة السلام معكوسًا، أي إن السلام والتطبيع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى سيكون متطلبًا سابقًا لتحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل.
يأتي التطبيع العربي-الإسرائيلي الأخير، والذي يحمل اسم "اتفاق أبراهام"، في شهر سبتمبر/أيلول 2020، في ظل انهيار النظام العربي، الذي أصبح هشًّا وتنافسيًّا ومخترقًا، وفي ظل انكشاف إستراتيجي غير مسبوق للفلسطينيين وبخاصة بعد أن تجاوزت بعض الأنظمة العربية وبشكل علني مركزية القضية الفلسطينية. وعلى نحو لافت، وصل التطبيع إلى مرحلة تحالف تهدف إلى رسم خريطة نفوذ جديدة في المنطقة تستند إلى فكرة مركزية تفيد بأن إسرائيل باتت عنصر استقرار. واكتسبت هذه الفكرة زخمًا غير مسبوق بعد أن أعادت بعض الدول الخليجية تحديد مصادر التهديد، فاعتبرت إيران، وليس إسرائيل، وسياساتها التوسعية هي مصدر التهديد الرئيس.
ستقوم هذه الدراسة بتفكيك مفهوم التطبيع، وتقديم الإطار التاريخي لهذا المفهوم فيما يخص القضية الفلسطينية، كما ستعمل على فحص هذه الفكرة وفيما إذا كانت كافية لإحداث الرخاء والاستقرار. وبشكل أدق، سيُفكِّك هذا البحث فرضية تفيد بأن التطبيع سيُرْسِي دعائم السلام في المنطقة ويؤدي إلى رفاه اقتصادي، وسيجيب على التساؤل التالي: هل ما بلغه مسلسل التطبيع حاليًّا يدعم هذه الفرضية أو يُفنِّدها؟
ولمقاربة هذه الفرضية والسؤال عن آفاق التطبيع وإمكانية إرساء دعائم السلام في المنطقة، تعتمد الدراسة المنهج البنائي (البنائية) في العلاقات الدولية؛ إذ ستركز على البعد الاجتماعي المشترك للسياسة. وبوجه أدق يركز هذا المنهج على الأفكار في توجيه سلوك الفاعلين الدوليين، حيث إن جزءًا كبيرًا من فهم سلوك الموقف الشعبي مثلًا من التطبيع هو فهم دور الهوية والإدراك في بناء التصورات عن التهديد. فدور الأفكار يتجاوز القوى المادية. وانطلاقًا من هذه الافتراضات تحاول الدراسة أن تبني نظرة أكثر اجتماعية وأكثر إرادية وذلك خلافًا للمفاهيم المادية والحتمية لتصورات المدرسة الواقعية الجديدة على وجه التحديد والأنطولوجيا المادية المهيمنة على دراسة السياسة الدولية بشكل عام.
1. في مفهوم التطبيع
لا يوجد تعريف مانع وجامع لمفهوم التطبيع ليتفق عليه المراقبون والباحثون، فهو يعني شيئًا مختلفًا لكل طرف من أطراف الصراع. ومع ذلك، يمكن قبول تعريف أن التطبيع يعني العودة إلى الوضع الطبيعي في العلاقات بين بلدين ما، وهذا يتطلب تحقيق شرطين، هما: ضرورة العودة إلى وضع طبيعي، وأن الوضع الذي سبق التطبيع كان غير طبيعي. لكن في الحالة العربية-الإسرائيلية، لم يكن هناك علاقات دبلوماسية بين العرب وإسرائيل قبل حالة الحرب، بل إن إسرائيل نفسها قامت في خضم حرب مع الفلسطينيين ثم مع عدد من الدول العربية.
لذلك، يكتنف الغموض مفهوم التطبيع في الحالة العربية-الإسرائيلية. وقد ظهر مفهوم التطبيع في إسرائيل للمرة الأولى في ستينات القرن الماضي عندما كانت إسرائيل وألمانيا الغربية تتفاوضان لتدشين علاقات دبلوماسية بين البلدين. وحينها كانت إسرائيل تُفرق بين تطبيع العلاقات بين الحكومات من جانب والشعوب من جانب آخر. ففي رسالة بعث بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليفي إشكول، إلى المستشار الألماني، كونراد أديناور، جاء فيها: "إن اتفاقًا كهذا سيكون بمنزلة تطبيع للعلاقات بين الدولتين، لكن ليس بين الشعبين". فهناك درجات متفاوتة للتطبيع تبدأ بين الحكومات، لكن أعلى هذه الدرجات عندما يكون التطبيع بين الشعوب. ويبدو أن إشكول كان يستوعب جيدًا صعوبة التوصل إلى تطبيع بين الألمان واليهود، وتنبَّأ أن ذلك سيستغرق أجيالًا عديدة. بالفعل كان إشكول محقًّا عندما أشار في رسالته إلى مستويات مختلفة من التطبيع أعلاها هو المصالحة بين الشعبين.
المرة الثانية التي تناول فيها الإسرائيليون مفهوم التطبيع كانت في خضم المفاوضات المصرية-الإسرائيلية التي توجت باتفاقية سلام في مارس/آذار 1979. فاتفاقيات كامب ديفيد نصَّت على إقامة "علاقات طبيعية" بين مصر وإسرائيل، ويبدو أن الجانب المصري عندما أصر على هذا النص كان بهدف خلق حالة من الغموض، إلا أن الجانب الإسرائيلي فسر ذلك بأنه تطبيع. وبهذا الخصوص، يفيد السفير الإسرائيلي السابق في مصر، شيمون شامير، بأن الاتفاقية تشير إلى أن النزاع ليس فقط على الأرض، بل إنها اتفاقية تستند إلى ما أسماه بحق إسرائيل في الوجود. فمصر وفقًا لهذه المعاهدة كانت ستسترد أرضًا محتلة، أي أشياء ملموسة، وعليه كانت إسرائيل تجد صعوبة في التسليم بهذا دون الحصول على نتائج ملموسة على رأسها التطبيع.
في الحالة العربية، اكتسب التطبيع دلالة سلبية منذ دخوله إلى الخطاب العربي في أعقاب زيارة الرئيس السادات إلى إسرائيل، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977. من الجدير هنا الإشارة إلى مبررات السادات في السلام مع إسرائيل، ففي كتابه "البحث عن الذات"، تحدث الرئيس السادات عن الحاجز النفسي بين الجانبين وتجربته في السجن المنفرد في زنزانة رقم 54؛ الأمر الذي أتاح له الفرصة للنظر للأمور من موقع مختلف. كانت للسادات تجربة مريرة في السجن في النصف الثاني من الأربعينات، تعلَّم منها أهمية تغيير المرء لأفكاره. ركز السادات على ما كان يراه حاجزًا نفسيًّا يقف عائقًا أمام التقدم في العلاقات مع إسرائيل. وهنا يضيف السادات: "الحاجز النفسي الذي أعنيه هنا، هو ذلك الجدار الضخم من الشك والخوف والكراهية، بل وسوء الفهم؛ إذ إن كلًّا من الطرفين غير مستعد لتصديق الآخر". وبعد تقديم طويل عن ضرورة تغيير الأفكار، يصل السادات إلى السبب الذي دفعه لزيارة إسرائيل، وهنا يقول: "ماذا يمكنني إذن أن أُغيِّره؟ لقد درجنا على عدِّ إسرائيل موضوعًا مشحونًا بحساسية وخطورة إلى الدرجة التي تُحرِّم الاقتراب منه، بل لقد استمر هذا الموقف سنين طويلة حتى بلغت التراكمات حدًّا يصعب معه التغيير إن لم يكن يستعصي فعلًا؛ تمامًا مثلما حدث بالنسبة للنظرة الإسرائيلية للعرب. وهنا وجدتُ أن السبيل إلى التغيير لابد أن يتناول صلب هذه النظرة وجوهرها. فإذا كان لنا أن نناقش جوهر القضية وأساسها بغية تحقيق السلام الدائم، فلابد لنا من أسلوب جديد تمامًا؛ أسلوب يتخطى مرحلة الشكليات والإجراءات ويكسر حاجز عدم الثقة المتبادلة حتى لا نعود للدائرة المغلقة والطريق المسدودة".
لكن السادات كان يعرف أن السلام مع إسرائيل يعني استعادة الأراضي المصرية المحتلة وإنهاء حالة الحرب، أما التطبيع فهو شيء آخر. وفي هذا الصدد، يقول السادات: بعد سنوات من الحروب وسفك الدماء لا يمكن إقامة علاقات طبيعية بين ليلة وضحاها. وبسرعة كبيرة أصبحت مفردة التطبيع أمرًا مخجلًا، وقد وُظِّفت هذه المفردة سلاحًا من قِبَل القوى السياسية المناهضة لاتفاق السلام لمهاجمة المطبِّعين والنظام معًا. وعليه، فحتى أنصار عملية السلام وجدوا من الصعوبة بمكان التنصل من انتقاد التطبيع، وأصبحت إدانة التطبيع بدلًا من التطبيع واجبًا مدنيًّا على الجميع. وبكلمة أخرى، ساد المفهوم العربي الذي يميز بين "إقامة علاقات طبيعية" أو دبلوماسية بين الحكومات، والتطبيع بمعنى إقامة روابط بين الشعوب.
في الأردن أيضًا، وعلى الرغم من تبني الملك حسين اتفاقية السلام مع إسرائيل، وحماسه الشديد لإنهاء حالة الحرب معها، وتدشين مسار تعاوني يعود على المجتمع الأردني بالرخاء والاستقرار، إلا أن مفردة التطبيع اكتسبت أيضًا دلالة سلبية؛ إذ نشط المجتمع المدني والنقابات في مناهضة التطبيع. والحق، أن السياسات الإسرائيلية ساعدت القوى المناهضة للتطبيع لفرض سرديتها (مزيد عن هذه النقطة في القسم التالي)، كما أنه ثبت للقاصي والداني أنه من الصعوبة بمكان فصل العلاقة الإسرائيلية-الأردنية عن الانتكاسات في المسار الفلسطيني وتَنَكُّر إسرائيل لحقوق الفلسطينيين في التحرر والاستقلال وإقامة دولة مستقلة لهم. وهذه النقطة على وجه التحديد كانت بادية للعيان عندما لم تستبطن الحكومة الإسرائيلية أن محاولة اغتيال مواطن أردني (خالد مشعل) لا تستقيم مع ادعاءات الإسرائيليين في رغبتهم على تدشين سلام دافئ وتطبيع كامل مع الأردن.
هناك العديد من الدراسات التي تناولت التطبيع مع إسرائيل وانعكاساته على العرب وقضيتهم الأولى. وعلى نحو لافت، سادت المقولات التي تحذر من التطبيع مع إسرائيل لما يعني ذلك من إضعاف للموقف الفلسطيني. وأصدر بهذا الشأن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات مجلدًا كبيرًا حمل عنوان "دراسات في التطبيع مع الكيان الصهيوني" اعتبر فيه أن التطبيع هو أكبر المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية؛ ذلك لأن التطبيع يهدف إلى إعادة رسم منظومة العلاقات والقيم وفقًا للرؤية الصهيونية، كما يهدف إلى عزل الفلسطينيين لتعميق انكشافهم الإستراتيجي في مواجهتهم للاحتلال. احتوى الكتاب على دراسات متنوعة، لكنها في مجملها انتقدت التطبيع بشدة. بطبيعة الحال لم يُظهر الكتاب وجهة النظر الأخرى التي ترى في التطبيع ما يصب في مصلحة عدد من الدول العربية.
وفي نفس السياق، ذهب الباحث الفلسطيني، جمال زحالقة، في نقده لموجة التطبيع الأخيرة مشددًا على أن العوائد بالنسبة للدول العربية المُطبِّعة قليلة جدًّا. وأضاف أن ثمة فرقًا كبيرًا بين الدول التي أقامت سلامًا مع إسرائيل بعد الدخول في حروب معها، وهي دول محاذية لإسرائيل، ودول أخرى لم تدخل في حرب مع إسرائيل، ناهيك عن بعدها الجغرافي عن منطقة الصراع. الدراسة على أهميتها لم تتطرق لعوائق التطبيع واعتبرت أن تنامي نسق التطبيع هو الذي سيسود في قادم الأيام في حين أن التجربتين، المصرية والأردنية، تفيدان بعكس ذلك تمامًا.
بالمقابل، ركزت دراستنا على التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي وتأثيره على الأردن، واهتمت بالواقع الجيوسياسي الجديد والتحولات في شبكة العلاقات الإقليمية التي تبدلت بها قاعدة الأصدقاء والأعداء. وتُظهِر الدراسة كيف أن التطبيع الإماراتي مع إسرائيل أَضْعَفَ من مركز الأردن، الذي وإن كان يقيم علاقات قوية مع الإمارات إلا أنه لا يتفق معها في ترتيب مصادر التهديد للإقليم. وأشارت الدراسة إلى حقيقة أن الأردن بات مكشوفًا في علاقته أمام إسرائيل التي تمكنت من إحداث اختراق كبير في عمق الأردن الإستراتيجي.
في دراسة له نشرها معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، تناول إيلي بوديه الأوجه المختلفة للتطبيع وقدَّم ثلاثة أنماط من التطبيع. فهناك تطبيع غير رسمي عُبِّر عنه في علاقات سرية وثنائية بين دولتين لكن دون إقامة علاقات رسمية بينهما، في حين هناك نمط آخر من التطبيع الرسمي والوظيفي الذي يتسم بالتعاون في مجالات الأمن والاستخبارات وحتى الاقتصاد عندما يكون هناك عدو مشترك أو مصالح مشتركة، لكنه يجري خلف الكواليس. والنمط الأخير يتعلق بالتطبيع الشرعي الكامل على المستويين، الحكومي والشعبي. هذه الدراسة على أهميتها بقيت وصفية ولم تتطرق لأي نقاش عام في إسرائيل حول التطبيع. في المحور القادم، ستتناول هذه الدراسة نمطين أو نموذجين أقرب إلى وصف ما يجري بين إسرائيل والدول العربية المُطبِّعة، وهما: السلام الدافئ والسلام البارد.
2. نمطان من التطبيع العربي-الإسرائيلي
منذ دخول مصر في عملية السلام في كامب ديفيد وحتى يومنا هذا، يمكن التمييز بين نمطين من أنماط السلام: السلام البارد والسلام الدافئ. فالسلام بين مصر والأردن من جانب، وإسرائيل من جانب آخر، يمكن وصفه بالسلام "البارد"، في حين دشَّن اتفاق أبراهام لما يمكن تسميته "السلام الدافئ". فالسلام يكون باردًا عندما يتم حل المشاكل الرئيسية بين الجانبين، وتكون قنوات الحوار بين الحكومات فقط، وتوجد قوى سياسية فعالة تعارض السلام القائم. وعلى العكس من ذلك، يكون السلام دافئًا عندما تُحلُّ المشاكل العالقة بشكل نهائي، ويكون السلام بين الشعوب، وتغيب القوى السياسية المؤثرة التي تناهض اتفاق السلام، كما هي الحال مع بعض الدول التي وقَّعت اتفاق أبراهام.
2.1. السلام البارد وغياب التطبيع
لا يمكن للمراقب للعلاقات المصرية-الإسرائيلية أو الأردنية-الإسرائيلية إلا أن يلاحظ فشل نموذج السلام الحار، فعلى الرغم من حماس القادة لعقد صلح مع إسرائيل، إلا أن الرفض الشعبي للتطبيع في كل من مصر والأردن كان عاملًا حاسمًا لترسيخ نموذج السلام البارد بدلًا من السلام الحار الذي كانت إسرائيل تنشده.
كان واضحًا أن العلاقات المصرية-الإسرائيلية متأثرة، ومنذ بداية عملية السلام، بالأوضاع المرتبطة باستمرار الصراع العربي-الإسرائيلي، وتحديدًا على المسار الفلسطيني، وكانت هناك رؤية مصرية مختلفة عن نظيرتها الإسرائيلية بخصوص حجم وطبيعة العلاقات المطلوب إقامتها. كما أن الأوضاع الداخلية في كل من مصر وإسرائيل أسهمت في رسم محددات العلاقات الثنائية. ويجادل أسامة الغزالي حرب بأن العلاقات الثنائية بين البلدين بقيت في جوهرها بحدودها الأدنى، ورافق ذلك تنامي العداء الشعبي للتطبيع مع إسرائيل.
اللافت أن القادة الإسرائيليين لم يستوعبوا أن السلام يعني أن تقوم إسرائيل بتغيير سلوكها الذي كان سببًا رئيسيًّا في تأجيج الصراع على مدى عقود. فالقادة في إسرائيل رأوا السلام مع مصر بوصفه اختراقًا إستراتيجيًّا تم بموجبه إخراج مصر من معادلة الصراع، كما فهم اليمين الإسرائيلي الحاكم آنذاك أن السلام مع مصر يعني إطلاق العنان للتوسع الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين. وعليه، قاربت إسرائيل موضوع الحكم الذاتي المنصوص عليه في اتفاق كامب ديفيد بسوء نية، وأدركت القيادة المصرية عبثية المفاوضات حول مشروع الحكم الذاتي وطرحته جانبًا في النصف الأول من الثمانينات. وزاد من الطين بلة، قيام إسرائيل باجتياح لبنان، في يونيو/حزيران 1982، الأمر الذي دفع المصريين -حتى المؤيدين لاتفاقية السلام- لمهاجمة السلام مع إسرائيل. يكفي هنا التوقف عند اقتباس لأنيس منصور* للتعرف على الانقلاب الكبير في المزاج المصري: "لا يوجد قلم في مصر لم يلعن إسرائيل، ولا يوجد صوت واحد في مصر لم يتنصل من إيمانه السابق بإمكانية التوصل إلى سلام شامل مع إسرائيل.. جوهر السلام هو الدولة الفلسطينية... وغير ذلك لن يكون هناك سلام، حتى لو قام كل فرد إسرائيلي بحمل قنبلة ذرية، أو حتى لو قامت مركبات الفضاء الأميركية بنقل الفلسطينيين إلى القمر! لقد تصالحنا مع إسرائيل متطلِّعين إلى سلام شامل... لكن تبيَّن أن ذلك كان خطأ، والأكثر تفاؤلًا بيننا يعرف الآن أنه ربما سيستغرق الأمر 43 عامًا لتصحيح هذه الغلطة". بمعنى آخر، جاءت حرب لبنان صفعة على جبين مصر، فقد كان الغزو الإسرائيلي دليلًا عمليًّا على تحييد مصر عسكريًّا، وشعور إسرائيل بحرية العمل من دون أن تحسب حسابًا لمصر التي عبَّرت عن استيائها باستدعاء السفير المصري من تل أبيب بعد مذابح صبرا وشاتيلا.
ويمكن القول: إن هناك رؤيتين مختلفتين لمضمون العلاقات المصرية-الإسرائيلية. فعلى الجانب الإسرائيلي، يُقدِّم شيمون شامير موقف النخب الإسرائيلية؛ إذ يقول بأن هناك اعتقادًا سائدًا عند الإسرائيليين بأن الصراع مع العرب كان مختلفًا عن الصراعات الأخرى من حيث أنه كان يدور حول حق إسرائيل في الوجود. وكانت هناك صعوبة في إسرائيل لهضم فكرة أن تقوم إسرائيل بالانسحاب من الأراضي -وهي أشياء ملموسة- للحصول على أشياء غير ملموسة مثل الاعتراف. فكيف لإسرائيل أن تقوم بتقديم تنازلات في الأرض وما يترتب على ذلك من مخاطر أمنية دون أن تحصل على مقابل، كان هذا التساؤل محور نقاش بين النخب الإسرائيلية لغاية يومنا هذا. من هنا يأتي التطبيع -وفقًا للفهم الإسرائيلي- كأحد البراهين على التغيُّر الحقيقي لدى المصريين، وأن لا مجال للعودة إلى العلاقات العدائية في المستقبل.
على الجانب المصري، كان هناك إدراك من النخب الحاكمة بأنه من الصعب جدًّا الانتقال إلى التطبيع بالمفهوم الإسرائيلي إلا بعد أن يعم السلام المنطقة، فالسلام ينبغي أن يكون شاملًا وعادلًا. فالمعاهدة تضمنت فقط الاتفاق على إقامة علاقات طبيعية، ذلك أنه لم يكن هناك ما يلزم مصر بكيفية الوصول إلى علاقات طبيعية. فالمصريون لم يذهبوا للسلام إلا استجابة براغماتية لتبلور موازين قوى على إثر حرب أكتوبر/تشرين الأول لعام 1973. فالمصريون أدركوا أن الحرب مكلفة جدًّا، وأنه من الأجدى لهم إعادة أراضيهم المحتلة بالطرق الدبلوماسية، على أن ذلك لا يعني منح إسرائيل وضعًا متميزًا في مصر. والحق أن السياسات الإسرائيلية في الإقليم أسهمت في تكريس حالة من عدم التيقن لدى الجانب المصري الذي أكد في عام 1988 أن المعاهدة مع إسرائيل لا تتمتع بأولوية على التزامات مصر العربية. وهنا يجادل فؤاد عجمي بأن الحكومة المصرية هي من عطَّل مسار التطبيع، فمعارضة مصر ليست فقط على ألفاظ مثل التطبيع أو علاقات طبيعية، بل مع محتوى السلام نفسه، وهنا قام القادة المصريون بإعطاء إشارات للشارع المصري تفيد بأن السلام كان خيار الضرورة الذي أَمْلته موازين القوى. ويضيف عجمي أن تبلور السلام البارد كان نتيجة لاتفاق ضمني بين الدولة والمجتمع المدني، لكنه يتجاهل حقيقة أن السياسة الإسرائيلية وتعمدها تعطيل مباحثات الحكم الذاتي وغزوها لبنان هي قضايا ما كان ممكنًا للدولة المصرية تجاهلها.
غير أن المسألة ليست أبيض وأسود، فهناك علاقات بين مصر وإسرائيل في مختلف الميادين، كما أن هناك فئة قليلة من المصريين تحمست للتطبيع من أمثال الكاتب علي سالم، ومع ذلك وقف السواد الأعظم من المصريين ضد التطبيع مع إسرائيل وبعضهم يعتبرها عدوًّا. وجاءت المعارضة للتطبيع من القوى السياسية ومن نقابات واتحادات مهنية وهيئات ثقافية أيضًا ومن الاتحاد العام للعمال واتحاد طلاب الجمهورية، علاوة على هيئات أخرى لا مجال لذكرها جميعًا. ولم تكن مناهضة التطبيع عملًا فرديًّا، بل شُكِّلَت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية واللجنة القومية لمناصرة شعبي فلسطين ولبنان، ولجنة الدفاع عن الاقتصاد القومي ولجنة مقاطعة السينما الصهيونية وكذلك لجنة مناهضة الصهيونية.
في المحصلة، بقيت العلاقات رسمية؛ إذ التزمت مصر بالحفاظ على المعاهدة حتى عندما وصل الإخوان المسلمون للحكم، لكن أيضًا تنامى المناخ المناهض للعلاقة مع إسرائيل بفضل الإصرار الصهيوني على قضم الأراضي الفلسطينية والتنكر لحقوقهم في تقرير المصير. وعلى سبيل المثال لا الحصر، بقيت السياحة باتجاه واحد؛ فالسياح الإسرائيليون يأتون إلى مصر، لكن لا توجد سياحة مصرية في إسرائيل، كما أن البابا شنودة قرر وقف الحج إلى القدس، كما نجح المثقفون المصريون في منع مشاركة إسرائيل في المعرض السنوي للكتاب في القاهرة أو في المؤتمرات العلمية.
ومؤخرًا، أيدت إسرائيل التغيير السياسي في مصر في أعقاب وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، وتمكن الجانبان من تعميق العلاقات الدافئة بين الحكومتين، ولعل صفقة الغاز ومبادرة مصر في تأسيس منتدى الغاز الذي يضم في عضويته إسرائيل لدليل إضافي على أن التطبيع بقي في الإطار الرسمي وفي حدود مصالح الدولة المصرية.
وعلى نفس المنوال، تحول السلام الأردني-الإسرائيلي إلى سلام بارد خلال أول عام ونصف من توقيع المعاهدة، فعلى الرغم من حماس الملك حسين شخصيًّا والتبشير بعوائد السلام إلا أنه ثبتت استحالة فصل العلاقة الأردنية-الإسرائيلية عمَّا تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن ديناميكية العلاقة الأردنية-الإسرائيلية مختلفة عن التجربة المصرية-الإسرائيلية. فعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود قبل توقيع معاهدة السلام، كانت هناك علاقة سرية ولقاءات عقدها الملك حسين سرًّا مع القادة الإسرائيليين. واللافت حقًّا أن المجتمع الإسرائيلي كان على علم بهذه العلاقات أو لنقل التفاهمات السرية بين الملك حسين والقادة الإسرائيليين. وبالتالي عندما توصل الجانبان إلى اتفاق سلام في أكتوبر/تشرين الأول 1994، كان هناك حماس إسرائيلي على اعتبار أن الأردن هو -كما وُصف في ذلك الوقت- "أفضل الأعداء". ويمكن أيضًا القول: إن سبب التأييد الشعبي الإسرائيلي لاتفاقية السلام مع الأردن هو حقيقة أن المسار الأردني-الإسرائيلي لم يشتمل على انسحابات إسرائيلية ولم تُقدِّم إسرائيل الكثير للأردن. لذلك كان التأييد للمعاهدة من الحزبين الكبيرين: العمل والليكود، وهذا خلافًا لاتفاق أوسلو الذي عارضه ما يقارب نصف الوسط اليهودي في إسرائيل.
احتاج الإسرائيليون لوقت طويل حتى يستوعبوا أن الانطباعات الشعبية في الأردن مختلفة تمامًا عن الانطباعات في إسرائيل؛ فالأردنيون لم يعرفوا عن التفاهمات السرية بين الملك حسين والإسرائيليين، كما أن الملك حسين لم يُحضِّر الشعب الأردني للسلام، وعلى العكس من ذلك كان الجو العام مليئًا بالعداء لإسرائيل لكونها دولة احتلال. فالأردنيون لم يثقوا بإسرائيل في يوم من الأيام وكانوا يعتبرونها المُهدِّد الأول للفلسطينيين ولهم أيضًا.
هناك الكثير من الدراسات التي تناولت فشل التطبيع بين الأردن وإسرائيل، أهمها تلك التي حملت عنوان "الأردن: موت التطبيع مع إسرائيل"، والتي تعزو فشل التطبيع بل وموته إلى ثلاثة عوامل، هي: أولًا: العناد الإسرائيلي. فعندما توصل رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، والملك حسين إلى اتفاق وادي عربة، كان مأمولًا أن يُقدِّم الجانبان سلامًا حارًّا على عكس السلام البارد مع مصر، وكان هناك أمل عند القيادات أن يقود السلام إلى نظام شرق أوسطي جديد يعمه الأمن والسلام والاستقرار. وبالفعل حاولت الحكومة الأردنية تغيير سلوك الأردنيين تجاه التطبيع والسلام مع إسرائيل، ونجحت جزئيًّا في هذا المسعى إلا أن النجاح لم يدم طويلًا. فسرعان ما تغلبت قوى اليمين الإسرائيلي التي كان هدفها الأول تدمير عملية أوسلو؛ لأنها عارضت الاتفاقية ورأت فيها تهديدًا للمشروع الصهيوني في فلسطين. وقامت إسرائيل بسلسلة من السياسات أحادية الجانب في القدس أقنعت الملك حسين بعدم جدية الشريك الإسرائيلي. وكان الملك قد بعث برسالة إلى نتنياهو، في عام 1997، وبَّخه فيها وقال بأنه لم يعد يثق به شريكًا في عملية السلام. وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى ووصل القمع الإسرائيلي إلى مستويات غير مسبوقة كان التطبيع قد مات ودُفن عند الأردنيين. وعليه، فإن إسرائيل هي من عملت بشكل ممنهج على لتقويض ثقة الأردنيين بالتطبيع والسلام معًا. والسبب الثاني مرتبط بسياسات النظام الأردني التي استهدفت المعارضة والتراجع عن الإصلاحات السياسية للتضييق على أي صوت يعارض سياسة الملك في العلاقة مع إسرائيل. بدأت مظاهر السخط الشعبي على إسرائيل وعلى التطبيع مع مجزرة قانا التي ارتكبتها قوات الجيش الإسرائيلي خلال عملية عناقيد الغضب في لبنان، أبريل/نيسان 1996، وكان شيمون بيريس العمالي رئيسًا للحكومة.
كما ظهرت مظاهر العداء للتطبيع عندما شاركت إسرائيل في معرض الكتاب الأردني الذي قاطعة الأردنيون احتجاجًا على المشاركة الإسرائيلية. كما أن محاولة اغتيال خالد مشعل في عَمَّان أجَّجت الموقف وظهر جليًّا أن الشعب الأردني لا يشارك الملك حسين قبوله بإسرائيل. من الجدير بالذكر أن موضوع التطبيع كان مثار نقاش عام في الأردن في أول سنتين من عمر المعاهدة، وكانت هناك أقلية من المثقفين الذين باركوا التطبيع واعتبروا أن السلام مع إسرائيل كان خيارًا وحيدًا، لكن بعد ذلك اختفى النقاش العام حول الموضوع وبات إطلاق وصف المُطبِّع على شخص ما كافيًا لفضح أي اتصال مع الإسرائيليين. وقامت النقابات المهنية بفصل أي عضو يمارس التطبيع مع إسرائيل، وشُكِّلَت في الأردن لجنة نقابية بهذا الخصوص قامت بنشر قائمة سوداء لوضع أسماء المُطبِّعين. وثالثًا: لم يعد الملك حسين قادرًا على إقناع الشعب بهذا الخيار بعد أن شعر المواطن الأردني بأن عوائد السلام الموعودة ما هي إلا سراب.
بالمجمل، تطورت العلاقات الأردنية-الإسرائيلية في ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو المستوى الرسمي، ويشمل العلاقات الدبلوماسية والتنسيق الأمني والاستخباري الذي وصل إلى مستويات كبيرة فاجأت الأردنيين. المستوى الثاني مثَّلَه موقف الإسلاميين والأحزاب القومية واليسارية وغالبية المثقفين في الأردن؛ إذ رفضوا أية علاقات مع إسرائيل حتى يزول الاحتلال أو عند البعض حتى تزول الدولة اليهودية. وهذا شبه إجماع لدى القوى السياسية المختلفة تكوَّن منذ 1948. أما المستوى الثالث فهو المستوى الشعبي؛ ذلك أن الشعب الأردني لم يكن متحمسًا للسلام مع إسرائيل، لكن لم يكن في غالبيته معارضًا له في البداية، خاصة مع الوعود بالرخاء الاقتصادي، لكن بعد عامين على توقيع معاهدة السلام وصعود اليمين الإسرائيلي إلى سدة الحكم في تل أبيب انقلب الشارع الأردني على المعاهدة.
الفلسطينيون بدورهم تعاملوا بواقعية مع تراجع فرصهم في استرداد حقوقهم في التحرر والاستقلال، وأدركت قيادتهم في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات أنه لا مناص من تطبيع العلاقات مع إسرائيل في إطار اتفاق أوسلو الموقع بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول 1993. تلك كانت المرة الأولى التي تحصل فيها إسرائيل على اعتراف رسمي من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، وشكَّلت الرسالة التي بعث بها ياسر عرفات إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، نقطة تحول، فالرئيس عرفات كان يرى أن فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة تكون أعلى بكثير من خلال الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.
وفي البداية، كان هناك تأييد عند الفلسطينيين للسلام مع إسرائيل على أمل أن يحصل الفلسطينيون على دولة لهم بحدود عام 1967. فنشط صنَّاع السلام بين الطرفين وعُقِدت اللقاءات والندوات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى سلسلة من الاستطلاعات التي أجرتها مراكز فلسطينية بالتعاون مع نظيرتها الإسرائيلية للتوقف على موقف الرأي العام في إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى وجه التحديد نشير إلى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية وتعاونه المستمر مع معهد "ترومان لأبحاث السلام" في الجامعة العبرية؛ إذ أجرى المركزان أبحاثًا مشتركة لقياس الرأي العام في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية.
شمل التطبيع مجالات أخرى أبرزها الجانب الاقتصادي، فالاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل كامل على الاقتصاد الإسرائيلي، وهو في حالة تبعية أكدت عليها إسرائيل في اتفاق باريس الاقتصادي لعام 1994. فالاتفاق يضع العراقيل أمام أي نشاط اقتصادي فلسطيني بمعزل عن إسرائيل، فهناك معايير إسرائيلية في مسائل الاستيراد والتصدير ما جعل من الضفة الغربية سوقًا خاصة لمنتجات إسرائيل. ومؤخرًا، أثار سفر مجموعة من الفلسطينيين من مطار رامون الإسرائيلي بدلًا من التوجه لاستخدام المطارات الأردنية جدلًا واسعًا بين الفلسطينيين أنفسهم وكذلك مع الأردنيين الذي عبَّروا عن استيائهم من خطوة بعض الفلسطينيين. غير أن الواقع يشير إلى أن حركة التنقل للفلسطينيين محكومة بفعل القوانين الإسرائيلية، وكذلك السيطرة الميدانية للقوات الإسرائيلية على كل المعابر والحدود.
ومن جانب آخر، اضطرت السلطة الفلسطينية التي جاءت في أعقاب اتفاق أوسلو إلى الالتزام بتعهداتها الأمنية تجاه إسرائيل، ويُعد التنسيق الأمني أبرز أوجه التطبيع بين السلطة وإسرائيل. وهذا ليس أمرًا جديدًا، فالتعاون الأمني بين الطرفين جاء وفقًا لاتفاق أوسلو، وهو أمر أثار -وما زال- الجدل في الساحة الفلسطينية، لأنه مستمر على الرغم من تنكُّر إسرائيل لاستحقاقات اتفاق أوسلو. ولم تُفلِح كل محاولات المثقفين الفلسطينيين في إقناع القيادة الفلسطينية في رام الله بوقف التنسيق الأمني الذي يجري لصالح إسرائيل. أخذ التنسيق الأمني بعدًا مؤسساتيًّا بعد أن لعبت الولايات المتحدة الأميركية دورًا كبيرًا في تنظيم هذا التعاون؛ إذ شكَّلت مجلسًا خاصًّا لهذا التنسيق، في مارس/آذار 2005، بقيادة الجنرال الأميركي، كيث دايتون، الذي أشرف بنفسه على تدريب أجهزة السلطة الأمنية لرفع قدراتهم على منع العمليات المسلحة للمقاومة. والحق أن دايتون كان مصرًّا على إدخال الفلسطينيين بالمؤسسات الأمنية في دورات مكثفة الهدف منها خلق روح جديدة وعقيدة جديدة ترى في منع أعمال المقاومة أمرًا يصب في صالح الفلسطينيين.
شكَّل التطبيع بين الفلسطينيين وإسرائيل حالة فريدة، فمن جانب لا يمكن النظر إلى الانسحاب الجزئي الإسرائيلي إلا في إطار عملية إعادة الانتشار مع محاصرة الفلسطينيين الذين لا يمكن لهم تدبير أمورهم من دون علاقة ما مع المؤسسات الإسرائيلية. وفرضت اتفاقية باريس الاقتصادية لعام 1994 شكلًا من أشكال التعاون بحيث أصبحت السلطة الفلسطينية تعتمد بشكل كبير على العلاقة مع إسرائيل. ولم يكن هناك الكثير من مقاومة التطبيع في البداية، غير أنه سرعان ما تغير الانطباع الشعبي عن الفلسطينيين الذين بدأوا يدركون أن إسرائيل تماطل ولا تنوي تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة مستقلة لهم. وبعد انتفاضة الأقصى، اقتصرت العلاقات مع إسرائيل على الشكل الرسمي الوظيفي وغابت مظاهر التطبيع الشعبي. وعلاوة على ذلك، نشط الفلسطينيون في شنِّ حملات لوقف التطبيع، وبعضهم أخذ هذا الجهد على المستوى الدولي، ففي عام 2005، بدأت جهود بعض الفلسطينيين لفرض مقاطعة على إسرائيل، وظهرت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة باسم الـ"بي دي إس" (BDS)، وهي حركة تمتعت -وما زالت- بدعم كبير من قبل المجتمع المدني الفلسطيني. وساقت الحركة مقولة تفيد بأن الاستمرار في التعاون مع إسرائيل إنما يمنح شرعية للاحتلال.
لم يتوقف هذا الأمر على الأردن والفلسطينيين، فبعد فشل مسار أوسلو وهزيمة معسكر "السلام" الإسرائيلي وانزياح المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين، وتأثير انتفاضة الأقصى على الإسرائيليين والفلسطينيين معًا، اجتمع القادة العرب، في مارس/آذار 2002، في قمة عُقدت في بيروت تبنَّوا فيها مقاربة للسلام والتطبيع مع إسرائيل تفيد بأن السلام والتطبيع يتحققان بعد أن تنسحب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. وأظهر العرب مرونة كبيرة في ملف اللاجئين إلا أن إسرائيل رفضت مجرد مناقشة الفكرة وأصرت على تقديم النضال الفلسطيني في سياق الحرب الكونية ضد الإرهاب. وبالفعل استفادت حكومة أرييل شارون اليمينية من التحالف مع المحافظين الجدد والرئيس بوش شخصيًّا، واستفادت من الحرب على الإرهاب للإفلات من استحقاقات السلام.
إسرائيليًّا، لم يكن التطبيع مع العرب مسألة يختلفون عليها كثيرًا، فالجميع تقريبًا على اتفاق بدليل أن حكومة نفتالي بينيت ويائير لبيد، التي جاءت بعد إسقاط حكومة بنيامين نتنياهو، استمرت وبحماس شديد في موضوع التطبيع الذي دشنه نتنياهو. وبشكل عام، يُنظَر للتطبيع في إسرائيل بوصفه انتصارًا لدعاة "السلام مقابل السلام" بدلًا "من الأرض مقابل السلام"، فالتطبيع مع العرب يبرهن للإسرائيليين أن بوسعهم التوسع والتطبيع معًا؛ الأمر الذي كان اليسار الإسرائيلي يشكِّك فيه.
تسعى إسرائيل إلى التطبيع حتى تكسب الشرعية الإقليمية وكذلك لرفع المقاطعة عنها. وفي النقاشات الإسرائيلية تجد أن الإسرائيليين يُحمِّلون العرب رفض التطبيع وليس إسرائيل، ويدور النقاش عادة حول ما إذا كانت إسرائيل جزءًا من الشرق الأوسط أم من العالم الغربي. وهي لن تنجح في إقامة علاقات طبيعية مع العرب إذا استمرت في رؤية نفسها جزءًا من العالم الغربي. كما يشير هذا النقاش إلى أن إسرائيل تسعى للتطبيع مع العرب لدمج نفسها في الشرق الأوسط لتحقيق الهيمنة، بمعنى أن التطبيع ليس غرضًا بحد ذاته وإنما وسيلة هيمنة. في كتاباته الكثيرة عن موضوع التطبيع، يسلِّم شيمون شامير بأن على إسرائيل بذل المزيد من الجهد لكسب ثقة الجانب العربي وهو أمر متعذر، لأنه وباختصار شديد لا يمكن فصل العلاقة العربية-الإسرائيلية عمَّا يدور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهنا تكمن جذور السلام البارد لوصف محدودية العلاقة مع إسرائيل.
ما يهمنا في هذا الموضوع أن العرب كانوا واضحين بشأن التطبيع الذي يأتي بعد أن يتحقق السلام الشامل غير أن دولًا عربية تخلت عن هذه المقاربة وقامت بالتطبيع مع إسرائيل بل وبالتحالف معها دون أن تبدي إسرائيل أي اهتمام لفكرة الانسحاب من الأراضي المحتلة أو حتى الموافقة على دولة فلسطينية مستقلة (مزيد عن هذه المقاربة في المحور التالي). هنا علينا أن نسجل ملاحظة مهمة، وهي أن السلام والتطبيع لم يسهما في حل القضية الفلسطينية، وعلى العكس من ذلك زادت إسرائيل في تطرفها وحدة ممارساتها الاحتلالية، وترى أن التطبيع ما هو إلا وسيلة لضمان قبول صهيونيتها وسياساتها التوسعية والاستيطانية.
2.2. السلام الدافئ وحضور التطبيع
في مسعاه لإقناع كافة الأطراف للتوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية، طرح الرئيس دونالد ترامب أفكارًا، أو ما عُرف لاحقًا باسم صفقة القرن، تقوم على فكرة السلام معكوسًا لكن دون تحقيق الحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين في التحرر والاستقلال، والأهم أنها فُهِمَت عند الفلسطينيين والأردنيين مثلًا باعتبارها محاولة للإجهاز على القضية الفلسطينية خدمة للمشروع الصهيوني ولمساعدة إسرائيل في التخلص من الكابوس الديمغرافي المتمثل في وجود الفلسطينيين في فلسطين. وإذا كان منطق مبادرة السلام العربية يفيد بأن السلام يأتي أولًا ثم التطبيع، فإن منطق صفقة القرن يفيد بأن التطبيع يأتي أولًا ثم يتم البحث عن صيغ سلام.
المنطق الإسرائيلي كان واضحًا وله جذور تعود إلى فكرة "الجدار الحديدي"، للأب الروحي لليمين الإسرائيلي، فلاديمير جابوتنسكي، في النصف الأول من عشرينات القرن الماضي. وتركز هذه الفكرة على استخدام القوة وتهميش المسألة الفلسطينية حتى يسلِّم العرب بحقيقة وجود إسرائيل وعدم جدوى المقاومة والمقاطعة. وما أن سلَّم الجانب العربي بهذا المنطق حتى قامت دول عربية بالتطبيع مع إسرائيل دون انتظار المسار الفلسطيني، وجاءت هذه الحملة من التطبيع في سياق اتفاقات أبراهام لتطرح سلامًا حارًّا وتطبيعًا كاملًا على عكس الحالة الأردنية والمصرية. المفارقة هنا أن إسرائيل كانت تحتل أراضي مصرية وأردنية، لكن في حالة الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مثلًا لم تكن هناك حروب مباشرة مع إسرائيل ولم تحتل الأخيرة أراضي تابعة لهذه الدول.
يعكس هذا المنطق أيضًا مزاجًا إسرائيليًّا تبلور بفعل انتصار اليمين الإسرائيلي في الداخل وتغير النظام العربي، فالعملية السلمية انهارت تمامًا، وهيمن اليمين الإسرائيلي على كل مفاصل صناعة القرار في الدولة العبرية، وتزايد عدد المستوطنين ليتجاوز حاجز 750 ألف مستوطن؛ ما يعني أن هناك كلفة سياسية باهظة لأية محاولة للحد من وجودهم ناهيك عن إخلائهم. وباركت الإدارة الأميركية الموقف الإسرائيلي في القدس عندما نقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ووصل الانقسام الفلسطيني درجة لم يكن ليتصورها أحد من قبل، كما أن الأَسْرَلَة وصلت إلى حدٍّ شارك فيه حزب عربي بحكومة يمينية.
في هذا السياق، جاءت موجة التطبيع الأخيرة التي دشنتها كل من الإمارات والبحرين لتلحق بهما السودان والمغرب. وتختلف هذه الموجة عن سابقتها فيما يلي: أولًا: تغير مصادر التهديد بالنسبة لعدد من الدول العربية، فإيران بدلًا من إسرائيل هي من يهدد هذه الدول، وعليه توصل قادة هذه الدول إلى قناعة جديدة تفيد بأنه في ظل الانكفاء الأميركي في الشرق الأوسط لا ضير من التحالف مع إسرائيل لاحتواء الخطر الإيراني. ثانيًا: انهيار النظام العربي وغياب القيم الرافعة له، فعندما وقَّعت مصر اتفاق سلام مع إسرائيل قامت الجامعة العربية بطرد مصر من عضويتها، أما الآن فهذا النظام لم يعد يمثِّل قيدًا أو كابحًا على السياسة الخارجية للدول المطبِّعة. ثالثًا: انهيار النظام السياسي الفلسطيني ووصول الانقسام إلى حدٍّ أضعف من قدرة الفلسطينيين على ممارسة دور الفيتو على القرار العربي. وأخيرًا، التطبيع مع الإمارات يصل إلى حدِّ التحالف مع إسرائيل دون حاجة لإظهار الأخيرة أي اعتدال في موقفها من الفلسطينيين.
وعلى نحو لافت، ظهر تعبير "التطبيع الكامل" في عنوان الاتفاق الذي وقَّع عليه الإماراتيون والإسرائيليون في واشنطن في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2020. وبعد عام واحد فقط على توقيع الاتفاق، وصل التطبيع درجة أكثر من المتوقع، فهناك العديد من اللقاءات والاتفاقات وحتى بعض النشاطات الشعبية المشتركة. وللتمييز بين اتفاقات السلام مع الأردن ومصر، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لبيد، في حفل افتتاح السفارة الإسرائيلية في أبوظبي: إن "هذا السلام هو بين الشعوب". كما أن التعاون مع البحرين وصل مستويات كبيرة؛ إذ أُقِيمت علاقات دبلوماسية رسمية، وجرى فتح خط طيران مباشر، كما وُقِّعت اتفاقية تعاون أمني، ووصل ملحق عسكري للجيش الإسرائيلي للبحرين وهذه سابقة بحدِّ ذاتها في العالم العربي.
وكانت العلاقات السرية بين البحرين (والإمارات أيضًا) مع إسرائيل بدأت منذ النصف الأول من التسعينات من القرن الماضي، لكن في حالة البحرين هناك اعتبارات لدى النخبة الحاكمة تتعلق بالخوف من إيران ومن المكون الشيعي في البحرين. صحيح أن إيران هي عامل تحدٍّ للإمارات، لكن بالنسبة للبحرين تشكِّل إيران تهديدًا وجوديًّا له امتداد في الداخل البحريني. وتنظر النخبة الحاكمة في البحرين إلى إيران على اعتبار أن لها إستراتيجية طويلة الأمد للإطاحة بالنظام البحريني. وزاد من الطين بلة استخدام الإيرانيين في تصريحاتهم لمفردات مخيفة بالنسبة للبحرين، مثل الإشارة لها كالمقاطعة الرابعة عشرة. اللافت أن النخبة الحاكمة في البحرين تشعر بحاجتها إلى المساعدة الإسرائيلية وبخاصة مع تبلور إستراتيجية الانسحاب الأميركي من المنطقة وغياب الإرادة عند الأميركان عن مواجهة إيران. كما أن الطريقة التي قاربت بها إدارة الرئيس باراك أوباما إيران أخافت دولًا خليجية على اعتبار أن المقاربة تمت دون مراعاة المصالح أو الرؤية الخليجية تجاه الخطر الإيراني.
في الحالة البحرينية، يمكن الحديث عن أبعاد خاصة. فعلى العكس من الإمارات هناك رفض شعبي لإقامة علاقة مع إسرائيل. لكن النخب الحاكمة بالبحرين لديها حسابات معقدة، فبالإضافة إلى الخوف من إيران فإنها تقدم نفسها قاعدة قريبة جغرافيًّا من إيران، وهو أمر تقدره إسرائيل عاليًا وبخاصة أن المنامة هي مقر الأسطول الخامس الأميركي، فالعمل والتنسيق مع القوات الأميركية هو أحد ركائز التحالف الإسرائيلي مع عدد من دول الخليج. السمة الأخرى للتطبيع بين البحرين وإسرائيل هو ما يراه البعض بأنه ما كان ممكنًا للمنامة أن تأخذ هذه الخطوة دون رضا المملكة العربية السعودية، ويرى جمال زحالقة أن التطبيع هنا هو بالوكالة عن السعودية.
من جانب آخر، لا يمكن الوقوف على حقيقة المعارضة الشعبية في الإمارات للتطبيع مع إسرائيل نظرًا لسيطرة النظام على وسائل الإعلام، ووجود عقوبات مغلظة على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في حال قيام النشطاء بانتقادات للسياسة الإماراتية، غير أن الأمر مختلف في البحرين. وقد لاحظ الباحث ديفيد بولوك أن 39% من البحرينيين معارضون للتطبيع مع وجود أقل من 20% مع التطبيع. وهناك ثلاث فئات بحرينية معارضة للتطبيع هي: الشيعة من أنصار الوفاق الذين يؤيدون إيران، وقوى قومية، وبعض المتدينين الذين يرون العلاقات مع إسرائيل وبخاصة التطبيع من زاوية الحلال والحرام.
لم يتوقف الأمر عند الإمارات والبحرين، بل لحقت بهما السودان عندما وقَّعت اتفاقًا، في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، لتطبيع العلاقات غير أن سجل العلاقات لا يشير إلى تقدم في هذا المجال. فالمؤسسة العسكرية بالخرطوم تعرضت لضغط إماراتي وابتزاز أميركي، وما كان لواشنطن أن تقبل رفع اسم السودان من قائمة الدولة الراعية للإرهاب لولا موافقتها على الدخول في التطبيع مع إسرائيل. لكن أيضًا لا يمكن فهم الهرولة السودانية بمعزل عن التمعن في الاضطرابات السياسية الداخلية والصراع على السلطة بين قوى سياسية، من جهة، والجيش من جهة أخرى.
وقَّع المغرب أيضًا بيانًا مشتركًا، في الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2020، وحصل على مقابل، وهو اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بضم الصحراء الغربية وإقامة قنصلية أميركية فيها. وفي شهر أبريل/نيسان 2022، وُقِّعت في دبي اتفاقية سلام من أجل الرياضة والثقافة ضمَّت المغرب والإمارات والبحرين وإسرائيل بهدف إقامة علاقات للشعوب من خلال الرياضة والثقافة. ومع ذلك لا يمكن المقارنة بين تطبيع السودان والمغرب لعلاقاتهما مع إسرائيل، والتطبيع الإماراتي والبحريني الذي وصل حدَّ التحالف.
هذا النمط من السلام الدافئ هو ما تبحث عنه إسرائيل، فمن جانب تحقق اختراقًا جديدًا دون أن تلتزم بأي تنازل في المسار الفلسطيني، وهي بذلك تحصل على شرعية مفقودة وتستغلها للاستمرار في نفس السياسات للإجهاز على القضية الفلسطينية. لا يمكن وضع المسارات التطبيعية الأربعة بنفس درجة الدفء، لكن من دون شك فإن التطبيع دافئ جدًّا مع الإمارات.
3. سيناريوهات المستقبل
في ضوء ما تناولته الدراسة، يمكن قراءة بعض سيناريوهات التطبيع في قادم الأيام. ويبقى السؤال فيما إذا كان نموذج السلام الحار وما يستلزمه من تطبيع شعبي هو نموذج السنوات القادمة أم أنه من المستحيل فصل العلاقات العربية الإسرائيلية عما تقوم به إسرائيل في الأراضي المحتلة؟ والسؤال الأهم بتقديرنا هو: هل سيكون دخول الدول العربية التطبيع مع إسرائيل مرتبطًا بالتقدم في العملية السلمية على المسار الفلسطيني؟ هل ما زالت القضية الفلسطينية هي مركزية بالنسبة للعرب أم ورقة تستخدمها الأنظمة وفقًا لاحتياجات النخبة الحكمة فيها؟ نسوق هذه الأسئلة لأنه بات واضحًا أن إسرائيل تتبنى مقاربة "حل الدولتين" لفظيًّا، لكنها على أرض الواقع أحبطت شروط تحقيق هذا الحل بأربع خطوات رئيسية، هي: الإصرار على عدم عودة أي لاجئ فلسطيني، والتوسع الاستيطاني، وتهويد القدس بمباركة أميركية وصَمْت من قِبَل المجتمع الدولي، وأخيرًا معارضة دولة فلسطينية مكتملة السيادة على حدود عام 1967. نستعرض في بقية الورقة السيناريوهات المستقبلية لمسار التطبيع.
- السيناريو الأول: يفيد بأن إسرائيل نجحت في ضرب المقاربة العربية التقليدية القائمة على أسبقية الانسحاب ثم التطبيع. وعليه، ونظرًا لتغير النظام العربي وسيولة التحالفات الإقليمية وتغير قاعدة العداء والصداقة، فإن إسرائيل ستنجح في إحداث اختراقات أخرى قادمة. وسيُسهِّل من مهمة إسرائيل استمرار الانقسامات الفلسطينية وتجذرها بفعل الرعاة الإقليميين المتنافسين وحقيقة التنافس الفصائلي والسوريالي على السلطة. وهناك اعتقاد عند الكثير من الأنظمة العربية بأن الطريق إلى واشنطن تمر من خلال تل أبيب ما يمنح إسرائيل أوراق قوة في العلاقة مع الدول التي تسعى للتطبيع مع إسرائيل.
تكمن خطورة هذا السيناريو في تهميش القضية الفلسطينية، وهو ما قد يفضي إلى بروز قوى متطرفة تعمل على توظيف الورقة الفلسطينية لغايات أيديولوجية أو سياسية؛ الأمر الذي قد يخلط الأوراق ولا يسهم في الاستقرار الإقليمي. من ناحية أخرى، يعتمد نجاح هذا السيناريو على إيران، فتصوير إيران بأنها مصدر التهديد الرئيس وترسيخ انطباع بأن الولايات المتحدة ستدير ظهرها لحلفائها التقليديين سيرفع من مكانة إسرائيل في الإقليم. حينها لن تمتلك هذه الأنظمة المُطبِّعة أي حافز للضغط على إسرائيل لتقديم ما يلزم من تنازلات لحل القضية الفلسطينية. لكن أيضًا سيكون هذا التطبيع جزئيًّا مع عدد من الدول العربية ومن غير المتوقع أن تنضم إليه دول أخرى مثل العراق وسوريا والجزائر وليبيا واليمن.
في النهاية، لا يكتمل التطبيع إلا بدخول السعودية فيه وذلك لثلاثة اعتبارات رئيسية بالنسبة لإسرائيل، وهي: أولًا: المكانة الدينية للسعودية؛ إذ تعتبر معقل الإسلام السُّني، وثانيًا: أن السعودية هي من بادرت بتبني مبادرة السلام العربية ولها مركز مالي مميز يمكِّنها من تمويل الفلسطينيين لسنوات عديدة. وأخيرًا، تقود السعودية محور الصراع السني-الشيعي، وهو الصراع الذي تغذيه إسرائيل باستمرار. وعلى الرغم من بعض مظاهر التطبيع في العلاقات السعودية-الإسرائيلية وصمت الرياض عن التطبيع البحريني والإماراتي إلا أنه من غير المتوقع أن تبادر السعودية إلى تطبيع مفتوح مع إسرائيل.
- السيناريو الثاني: يتمحور حول فشل التطبيع بفعل الشعوب العربية التي ما زالت أغلبيتها الساحقة ترى في إسرائيل العدو الأول. بمعنى أنه لن تكون هناك شرعية شعبية للتطبيع، لكن هذا أيضًا يعتمد على العامل الفلسطيني، وفي حال تجاوز الفلسطينيون خلافاتهم الداخلية واتفقوا على إستراتيجية وطنية موحدة، فإن من شأن ذلك أن يُحرِج الأنظمة العربية التي تتذرع بالانقسامات الفلسطينية لمواصلة مسلسل التطبيع. ويتوقع هذا السيناريو أن يعم نموذج السلام البارد بدلًا من التطبيع الكامل، وبخاصة إذا ما نجحت إيران في ردم الهوة بينها وبين بعض الدول الخليجية التي تخشى إيران وتصور الأخيرة بتطييف سياستها الخارجية لتحقيق مكتسبات في الإقليم. وعلاوة على ذلك، يمكن لعودة الربيع العربي ووصول حكومات منتخبة للحكم أن ترفع من كلفة التطبيع على النخب السياسية، وعندها سيتجمد التطبيع وتستعيد القضية الفلسطينية مركزيتها المفقودة.
- السيناريو الثالث: يعتمد على تطور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فمن شأن التضييق على الفلسطينيين وإرغامهم على الاستسلام للمنطق الإسرائيلي أن يدفع الفلسطينيين إلى خيار مكلف وهو تفجير انتفاضة جديدة. في هذه الحالة ستقوم إسرائيل بقمعها بطرق وحشية وستلعب وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية دورًا مهمًّا في تأجيج الشارعين، العربي والإسلامي. ومن شأن ديمومة انتفاضة فلسطينية أن تخلق رأيًا عامًّا عربيًّا ضاغطًا يحبط كل "منجزات" التطبيع للدول المُطبِّعة. وهكذا لا يفشل التطبيع فقط بل ستظهر تحالفات إقليمية جديدة لن تكون في صالح مقاربة إسرائيل القائمة على تحقيق اختراقات في النظام العربي للإجهاز على القضية الفلسطينية.
باختصار، بيَّنت الدراسة أن هناك نموذجين للتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. وخلصت إلى أن تبدُّل الظروف الإقليمية، وتغيُّر مصادر التهديد لعدد من الدول العربية، والتراجع النسبي في قوة التأثير الأميركي في المنطقة بشكل عام، واندلاع ثورات الربيع العربي وما ترتب على ذلك من سيولة في التحالفات وتغيُّر في قاعدة الصداقة والأعداء، وتراجع مركزية القضية الفلسطينية، هي كلها عوامل ساعدت على بروز نموذج التطبيع الحار القائم على عدم انتظار حل القضية الفلسطينية لإنجاز التطبيع.
اللافت أن إسرائيل لم تلتقط اللحظة التاريخية للحصول على شرعية في المنطقة، فهي لا تعتبر إقامة علاقات دبلوماسية إلا مرحلة للوصول إلى التطبيع، لكنها غير مستعدة -لأسباب داخلية متعلقة بالمشروع الصهيوني وهيمنة اليمين على السياسة الإسرائيلية- لأن تسهم في تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة مستقلة في سياق مصالحة تاريخية ونهائية. بمعنى، أنها ما زالت ترى أن بإمكانها الحصول على الأرض والسلام والتطبيع في الوقت ذاته. وحدهم الفلسطينيون من يمتلكون زمام المبادرة لتغيير الوضع القائم، فمن شأن مصالحة فلسطينية حقيقية والابتعاد عن الفصائلية أن ترفع الكلفة على الإسرائيليين والمطبعين معًا.
ومما لا شك فيه أن الشعوب العربية في الدول المُطبِّعة لم تلمس عوائد السلام، وعلى العكس من ذلك، هناك تراجع اقتصادي في هذه الدول؛ إذ تراجعت مستويات المعيشة كما تركزت السلطة بأيدي أقليات غير منتخبة اتبعت النموذج الليبرالي الذي همش الطبقة الوسطى وحوَّل هذه الدول إلى دول مدينة بشكل غير مسبوق. ويكفي أن نشير هنا إلى أن اندلاع الاحتجاجات في كل من مصر والأردن مع بداية الربيع العربي جاءت في أعقاب تراجع الحالة الاقتصادية للمواطن. ومن المبكر الحكم على عوائد السلام في موجة التطبيع الأخيرة، فمبررات التطبيع عند هذه الدول لم تكن اقتصادية، فالإمارات دولة غنية، في حين كان محرك البحرين أمنيًّا متعلقًا بمصادر التهديد المتخيلة.