في 27 أيلول\ سبتمبر 2020، وبعد فترة وقف إطلاق نار غير حاسم استمرت نحو ثلاثة عقود اندلعت مواجهات عسكرية بين أرمينيا وأذربيجان عبر وابلٍ من القصف المدفعي تخللها نشر للدروع الثقيلة على طول خط التماس الفاصل بين الدولتين حول إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه والمناطق المجاورة لها، وتحوَّلت سريعاً إلى صراع عسكري محتدم بين الدولتين، وهو ما عزز المخاوف من حصول تداعيات محتملة مُزعزعة للاستقرار في منطقة القوقاز.
الأبعاد والمحركات الداخلية لتجدُّد الصراع
1. الأزمة السياسية في أذربيجان
أدى الانكماش الاقتصادي في أذربيجان بسبب تراجع أسعار النفط والغاز عالمياً، والإحباط من الحكم الاستبدادي للرئيس إلهام علييف إلى تغذية السخط الشعبي. وقد أسفرت الانتخابات البرلمانية المبكرة في باكو هذا العام عن صعود نخبة جديدة أصغر سناً وإزاحة "الحرس القديم" المحنك والمخضرم سياسياً، ويُعتقَد أنها تعكس تحولًا إلى استراتيجية جديدة تعتمد على قوة السلاح أكثر من الاعتماد على الحوار الدبلوماسي. وقد تصاعدت الدعوات الشعبية المطالبة بشن الحرب ضد أرمينيا، واقتحم محتجون مبنى البرلمان في باكو مطالبين بالقتال مع يريفان. وباعتبارها الطرف الخاسر في الحرب الأولى، وجهت باكو دعوات علنية لعودة ناغورني قره باغ لحشد الدعم القومي.
2. الأزمة الاقتصادية في أرمينيا
حسب بعض المراقبين، تهدف القيادة الأرمينية الحالية إلى تصعيد الموقف على خلفية المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تزداد تدهوراً بسبب انتشار وباء فيروس كورونا المستجد في أرمينيا، وأدائها غير الكفء، وصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية في البلاد. وتشعر حكومة رئيس الوزراء نيكول باشينيان - التي وصلت إلى السلطة وسط انتفاضة شعبية في عام 2018 عارضتها روسيا إلى حد كبير - بالقلق بشأن ما تعتبره دعم موسكو المتناقض بشكل متزايد للحفاظ على الوضع الراهن. وعلى الرغم من بعض المؤشرات الأولية التي افترضت أنه سيكون أكثر انفتاحاً على حلٍّ تفاوضي، فقد اتخذ باشينيان موقفاً أكثر تشدداً، بما في ذلك الدعوة إلى دمج إقليم ناغورني قره باغ رسمياً في أرمينيا.
الأبعاد والمحركات الإقليمية
1. فشل مجموعة "مينسك" في تسوية الصراع
تشكلت مجموعة "مينسك"، التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والمكونة من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة في العام 1994، بهدف التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار بين الأطراف لتحقيق تسوية دائمة بين الدولتين، لكن حتى وقف إطلاق النار الجزئي الذي توسطت فيه مجموعة "مينسك" جرى خرقه من قبل الجانبين على مدى العقود الثلاثة الماضية. ويبدو أن جمود أعمال المجموعة وعدم بحث حلٍ دائمٍ وشامل للأزمة، كانا من ضمن الأسباب المباشرة لاندلاع القتال المتكرر بين الطرفين، حيث تتهم الحكومة الأذربيجانية مجموعة مينسك بدعم أرمينيا "المسيحية"، وتعتقد باكو أن يريفان لديها جماعات ضغط قوية في الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، وأنه كان لهذه الجماعات تأثيرها الخاص في هذا الإطار.
2. المنافسة الإقليمية بين روسيا وإيران وتركيا
تاريخياً، كانت منطقة جنوب القوقاز منطقة صراع بين القوى الكبرى. وعلى مر القرون، خاضت الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية والروسية حروباً ضد بعضها البعض من أجل غزو المنطقة والسيطرة عليها. وحالياً، أدى انخراط تركيا المباشر في ناغورني قره باغ إلى زيادة المخاطر ليس فقط في جنوب القوقاز، ولكن في جميع أنحاء المناطق التي توجد فيها خلافات بين أنقرة وموسكو. وبالفعل، يدعم البلدان الأطراف المتصارعة في الصراعين الليبي والسوري، ولديهما طموحات غير متوافقة في البلقان وأوكرانيا. ومن المحتمل أن ترى أنقرة تورطها في ناغورني قره باغ جزئياً كورقة مساومة ليس فقط في القوقاز، ولكن في تنافسها الأوسع مع موسكو. ويشير تورُّط مرتزقة تركمان وأرمن اُستقدِموا من سوريا إلى أن نزاع ناغورني قره باغ قد لا يظل محصوراً هذه المرة في جنوب القوقاز.
وعلى الرغم من أن إيران تتمتع بعلاقات حسن الجوار مع كلٍّ من أرمينيا وأذربيجان، فقد اتهمتها أذربيجان بالوقوف إلى جانب أرمينيا في الماضي، ويرجع ذلك جزئياً إلى موقف باكو المؤيد للناتو وعلاقاتها الحميمة مع إسرائيل. وتشعر كلٌّ من روسيا وإيران بالقلق من أن تصبح أذربيجان موقعاً متقدماً لحلف الناتو في بحر قزوين مستقبلاً، لا سيما إذا تمكَّنت من هزيمة جارتها أرمينيا والسيطرة على الأراضي الخاضعة لها. وكانت موسكو قد أجرت في يوليو 2020 مناورة عسكرية مكثفة في منطقتي بحر قزوين والبحر الأسود بمشاركة البحرية الصينية والإيرانية، مما أرسل إشارة واضحة للغرب بأنها لا تزال تعتبر القوقاز مجال نفوذها الطبيعي.
3. دور مشاريع النقل وخطوط أنابيب الطاقة في تفجير الصراع
أثارت حقيقة أن أرمينيا هاجمت أذربيجان في مدينة توفوز في 12 تموز\ يوليو 2020 بعيداً عن منطقة الصراع الرئيسة في منطقة ناغورني قره باغ تساؤلات حول نوايا أرمينيا، حيث تمر خطوط أنابيب الطاقة الاستراتيجية الأذربيجانية الثلاثة "باكو - سوبسا" و"باكو - تبليسي - جيهان" و"باكو - تبيليسي – أرضروم" إلى أوروبا عبر تركيا وجورجيا. وتقع توفوز أيضاً ضمن خط سكة حديد "باكو - تبيليسي - كارس" الجديد الذي يربط بين جورجيا وأذربيجان الموالية للغرب وأوروبا عبر تركيا.
إن توقيت الصراع الجديد الذي يتزامن مع التشغيل الوشيك لأنابيب الطاقة التي طال انتظارها، وتمتد من أذربيجان الغنية بالغاز إلى أوروبا عبر جورجيا يمنحه بُعداً دولياً ناتجاً عن تداعيات جيو-اقتصادية وجيوسياسية. وتهدف خطوط الأنابيب التي تتجاوز روسيا وإيران إلى تقليل اعتماد أوروبا في مجال الطاقة على موسكو في ضوء العقوبات الأمريكية على روسيا بسبب خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 إلى ألمانيا.
وتنتشر التكهنات بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير الراضي بالفعل عن التدخل الأمريكي والأوروبي المتصوَّر في بيلاروسيا ردَّ بالضرب عبر أرمينيا التي يمكنها أن تقصف بسهولة البنية التحتية الحيوية منطقة توفوز، حيث تنتقل أكثر من 80 في المئة من الطاقة الأذربيجانية. وهناك أيضاً تصميم روسي على جعل الولايات المتحدة تدفع ثمن معارضة نورد ستريم 2.
السيناريوهات المحتملة
1ـ سيناريو قبرص الثانية
صرَّح رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان بأن أرمينيا تدرس إمكانية الاعتراف باستقلال ناغورني قره باغ، لكن الاعتراف باستقلال جمهورية ناغورني قره باغ ستترتب عليه عواقب عدة أهمها:
فأولاً، إذا اعترفت أرمينيا باستقلال جمهورية ناغورني قره باغ (المعلنة من جانب واحد ولا تحظى بأي اعتراف دولي)، فإنها ستغادر تلقائياً مجموعة مينسك للتسوية. وفي شكل عام، فإن صيغة المفاوضات بأكملها حول قره باغ ستنهار. فإما ينبغي إنشاء صيغة جديدة، أو الاعتراف بأنه لا بديل عن الحرب. لذلك، لم تعترف أرمينيا بقره باغ من قبل، من أجل الحفاظ على عملية التفاوض الرسمية.
وثانياً، إذا لم تكتف أرمينيا بالاعتراف بجمهورية ناغورني قره باغ، بل جعلتها أيضا جزءاً من الدولة الأرمينية، فستظهر مشكلة مع منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ومن غير المرجح أن يعترف شركاء أرمينيا بناغورني قره باغ جزءاً من أراضي منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ومن المحتمل أن تضطر أرمينيا إلى مغادرة المنظمة حينئذٍ.
2ـ سيناريو "النموذج السوري"
في 30 سبتمبر 2020، طرح وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو فكرة تسوية نزاع قره باغ على "الطريقة السورية"، من خلال إنشاء "ممرات آمنة" وتسيير "دوريات مشتركة" في مناطق الترسيم المقترح لخطوط الفصل بين القوات. وفي المقابل، يرى عددٌ من الخبراء العسكريين أن قاعدة غيومري العسكرية الروسية في أرمينيا (والتي تضم حوالي 5 آلاف عنصر) يمكن تلعب دور قاعدة حميميم في سوريا، وتصبح الضامن لبدء حوار سلمي حول حل الصراع في قره باغ.
إلا أن "النموذج السوري" للتسوية، الذي تحاول تركيا نقله من إدلب إلى قره باغ، أظهر عدم قدرة أنقرة على الوفاء بالتزاماتها. ومن ناحية ثانية، ترى موسكو أن أنقرة ليس لها الحق السياسي أو الأخلاقي في مطالبة الجانب الأرميني بسحب قواته من "الأراضي المحتلة" الأذربيجانية، نظراً لأن القيادة التركية لا تُسهِّل بأي شكل من الأشكال عودة جميع الأراضي السورية، بما في ذلك شمال غرب البلاد، إلى سلطة دمشق "الشرعية"، رغم أن ذلك كان أحد الشروط الرئيسة للاتفاقات الروسية التركية التي تم التوصل إليها في مطلع مارس 2020.
3ـ سيناريو كوسوفو
من الناحية الافتراضية، يمكن أن تصبح ناغورني قره باغ جيباً آخر يتمتع بالحكم الذاتي على غرار ناختشيفان، الواقعة بين أرمينيا وشمال غرب إيران. كانت ناختشيفان جزءاً من إيران حتى معاهدة تركمانشاي في عام 1828 التي منحتها إياها لروسيا بعد الهزيمة العسكرية لإيران. وكانت الولايات المتحدة قدمت مقترحاً في هذا الإطار، وعلى الرغم من رفضه من كلا البلدين يبدو المقترح واقعياً إلى حدٍّ كبير، ويقضي المقترح باعتراف أذربيجان باستقلال إقليم ناغورني قره باغ مقابل استعادتها لأقاليمها الست الأُخرى المحتلة خارج قره باغ، مع تنازل آذربيجان عن ممر لاشين بما يسمح بوجود اتصالٍ جغرافي بين ناغورني قره باغ وأرمينيا، وتنازُل أرمينيا عن ممرٍ يسمح باتصال إقليم نخجوان مع الأراضي الأذرية.
لكنْ من غير الواضح ما إذا كان أرمن قره باغ المحليين، الذين يتطلعون أكثر إلى نموذج كوسوفو في البلقان في تطلعاتهم الحالية للاستقلال التام عن أذربيجان، سيوافقون على إعادة فرض سيطرة باكو عليهم. وحتى الآن، لم يعترف أحد في المجتمع الدولي بما في ذلك إيران بالجهود الشبيهة بكوسوفو للأرمن في ناغورني قره باغ، مما أدى إلى نتيجة واحدة، وهي: يجب تغيير الوضع الراهن غير المستقر عاجلاً أم آجلاً، ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الجهود الدولية المنسقة مثل إرسال قوة حفظ سلام مفقودة حتى الآن.
4ـ سيناريو "اللا حرب واللا سِلْم"
من بين أهم السيناريوهات التي تُطرَح حول مآلات هذا الصراع، استمرار وضع "اللا حرب واللا سِلْم"، أي أنه لن يكون هناك تغيير جذري للنزاع في الأجل المنظور؛
فمن ناحية أولي، أصبحت ناغورني قره باغ قضية وطنية مهمة في كلا البلدين، وبالتالي فإن فشل الحكومات في هذا الصراع يمكن أن يؤدي إلى سقوطها.
ومن ناحية ثانية، يبدو أن لا أرمينيا ولا أذربيجان لديهما الإرادة لمواصلة حرب طويلة الأمد، حيث يواجه البلدان وضعاً اقتصادياً غير مُواتٍ بسبب معاناتهما مع وباء كورونا وأزمات أخرى.
ومن ناحية ثالثة، لا يوجد ميل لدى الأطراف الإقليمية والدولية، باستثناء تركيا، لمواصلة هذا الصراع؛ فالأمريكيون منخرطون ومنشغلون في الانتخابات ومعمعة القضايا الداخلية، ولا يريدون أن يصبح هذا الصراع قضية جديدة في الانتخابات، كما يُحجِم الأوروبيون عن تصعيد الصراع بسبب المشاكل الاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا واحتمال تعطيل تدفق الطاقة من أذربيجان إلى أوروبا. وأخيراً، فإن موسكو لا تهتم بتوسيع أو إطالة أمد النزاع، مما قد يُجبرها على اتخاذ قرارات صعبة حول مدى التزامها بأرمينيا وتخصيص موارد إضافية لجنوب القوقاز في وقت تشارك بالفعل على جبهات أخرى متعددة.
خلاصة واستنتاجات
برغم محورية الدورين التركي والروسي في الوصول لتسوية للنزاع بين أذربيجان وأرمينيا، لكن هذا لا يعني تجاهل محورية أدوار أخري، لاسيما الولايات المتحدة وأوروبا. وفي هذا السياق، فإن الطريق الوحيد للوصول إلى تسوية في جنوب القوقاز هو عَبْر التفاوض، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة الأربعة بشأن ناغورني قره باغ واقتراح السلام لمجموعة مينسك.
وهذه القرارات تُطالِب باستعادة سيادة باكو على ناغورني قره باغ، واحترام حقوق الأرمن الذين يسكنون في الأراضي المتنازع عليها، وعودة أعداد كبيرة من اللاجئين، وإنشاء ممر بري إلى أرمينيا، وهو ما يجعل سيناريو "كوسوفو" هو الأكثر احتمالاً لمستقبل التسوية بين أذربيجان وأرمينيا على المدى المنظور.