وقَّعت إسرائيل، في عامي 2020 و2021، مجموعة من اتفاقيات التطبيع، ضمن مسار "صفقة القرن"، نتج عنها إقامة علاقات دبلوماسية علنية مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وبعد ذلك بوقت قصير مع السودان والمغرب. سهَّل هذا التقاربَ الدفاعي/العسكري، والتجارة والسياحة بين إسرائيل وعدد من دول الخليج والمغرب العربي، وإن بدرجات متفاوتة، ومكَّن من إنشاء علاقات دبلوماسية ثنائية. أكَّدت قمة النقب، مارس/آذار 2022، والتي جمعت وزراء الخارجية العرب من مصر والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة مع وزيري الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، والأميركي، أنتوني بلينكن، على ضرورة التعاون في المجالات العسكرية/الأمنية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون في مجالات التكنولوجيا، والمشاريع الاقتصادية، وأن يصبح المنتدى دائمًا. وبصورة موازية، استمرت علاقات إسرائيل السرية في النمو مع عدد متزايد من الدول العربية، وخاصة في مجالات الأمن الداخلي والإقليمي؛ حيث كشف بنيامين نتنياهو، في فبراير/شباط 2020، بأن إسرائيل تقيم علاقات سرية مع العديد من الدول العربية والإسلامية، باستثناء ثلاث دول فقط.
بعد فوزه في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تلقى نتنياهو التهاني من مجموعة من القادة العرب واتفق مع عدد منهم (الإمارات، البحرين، المغرب، والسودان) على تعزيز التوسع في العلاقات وترسيخها. ومع ذلك، تطرح عودة نتنياهو للحكم العديد من الأسئلة حول مستقبل العلاقات الإسرائيلية-العربية وكيف يمكن أن تتفاعل سواء على المدى القريب أو البعيد، وخاصة أن تحالف نتنياهو يضم أحزابًا يمينية ودينية متطرفة ترفض السلام مع الفلسطينيين وتعلن بشكل علني معاداتهم للعرب والرغبة في طردهم.
يطرح هذا الواقع سؤالين محوريين يتعلقان بمستقبل العلاقات العربية-الإسرائيلية؛ أولًا: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر الموقف الإسرائيلي من حل القضية الفلسطينية على دينامكيات العلاقات العربية الإسرائيلية ومستقبلها، وخاصة في ظل تصاعد نفوذ التيارات الدينية واليمينية المتطرفة على الحكم والسياسة؟ ثانيًا: ما محددات وآفاق التعاون العربي-الإسرائيلي؟ وما الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه في علاقاتها العربية وذلك بمعزل عن التقدم في عملية السلام مع الفلسطينيين؟
من علاقات سرية إلى التطبيع
مرت علاقة إسرائيل مع الدول العربية منذ إنشائها عام 1948 باضطرابات وتقلبات متنوعة، انتقلت خلالها ما بين الحروب (1948، 1956، 1967، 1973، 1982) إلى التعاون السري، واتفاقيات السلام، ومن ثم إلى تطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية.
مرحلة العلاقات السرية: أسست إسرائيل علاقات سرية مع دول، وطوائف، وأقليات، أو شخصيات بارزة في المنطقة العربية حتى قبل إنشائها. ومع أن معظم هذه العلاقات قد تم قطعها بعد حرب عام 1948، استمرت بعض العلاقات السرية وذلك بسبب رغبة إسرائيل في كسر عزلتها وتحقيق اختراقات أمنية وسياسية في المنطقة. تميزت علاقات إسرائيل السرية في العادة بطابعها المؤقت وإدارتها من قبل مسؤولي الأمن والاستخبارات، ومعظمهم من الموساد، وليس الجهات الرسمية أو وزارة الخارجية. وبالرغم من الفوائد العديدة التي جنتها إسرائيل من علاقاتها السرية -الاختراق الأمني وجمع المعلومات- إلا أنها لم تضمن لها اعترافًا وقبولًا علنيًّا بشرعيتها في المنطقة، ولم تساعدها في تحقيق التوازن والردع في علاقاتها الإقليمية والدولية.
اتفاقيات السلام: انتقلت علاقات إسرائيل السرية مع مصر، والتي أقيمت بين الدولتين عن طريق المغرب ورومانيا، إلى العلن لأول مرة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام، 1978، وهو ما خلق فرصة للاعتراف الرسمي والتعاون العسكري والاقتصادي والمدني بين الطرفين. لم تُهمل الاتفاقية القضية الفلسطينية وعالجتها في الاتفاقية الأولى التي نصت تحت عنوان "إطار للسلام في الشرق الأوسط" بتطبيق خطة للحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاغ غزة، بينما حمل القسم الثاني اتفاقًا تفصيليًّا لتطبيع العلاقات الثنائية. لأول مرة، اعترفت إسرائيل فيما يخص الحل الدائم في الضفة الغربية وقطاع غزة "بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة"، ووافقت أن يشارك الفلسطينيون في تقرير مستقبلهم وذلك عن طريق المفاوضات بين مصر، وإسرائيل، والأردن، والفلسطينيين. بالرغم من الاتفاق، واصلت إسرائيل احتلالها للأراضي الفلسطيني واستطاعت عزل مصر، والتي كانت تشكل أكبر قوة عسكرية عربية في تلك الفترة، عن محيطها العربي والفلسطيني.
اندلعت، في العام 1987، الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ وهو ما شكَّل ضغطًا سياسيًّا واقتصاديًّا كبيرًا على إسرائيل دفعها في نهاية المطاف للتفاوض مع منظمة التحرير وتوقيع اتفاق أوسلو، في 13 سبتمبر/أيلول 1993، في البيت الأبيض والذي تضمن إعلان مبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت، الذي يشار إليه عادة باسم "اتفاق أوسلو". قبلت إسرائيل لأول مرة بمنظمة التحرير ممثلًا للفلسطينيين ودخل الجانبان في مفاوضات طويلة لإنجاز حل سياسي قائم على مبدأ حل الدولتين.
فتحت اتفاقية أوسلو الباب واسعًا أمام إسرائيل للولوج رسميًّا للدول العربية؛ حيث أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إسحاق رابين، أن توفر الاتفاقيات مع الفلسطينيين إطارًا للانفتاح السياسي والاقتصادي والتجاري على الدول العربية والعالم. بمعنى آخر، شكَّل التقدم في السلام مع الفلسطينيين مفتاحًا للولوج للعالم العربي وإقامة العلاقات العلنية. أدى التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين إلى توقيع الأردن لمعاهدة وادي عربة للسلام مع إسرائيل، 1994، وإلى ازدهار قصير في علاقات إسرائيل مع مجموعة من الدول العربية الأخرى. بدأت إسرائيل مفاوضات مع سوريا بهدف إرساء أساس شامل لعملية سلام عربية-إسرائيلية ولكنها فشلت في نهاية المطاف.
بعد اغتيال رابين، في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، على يد أحد المتطرفين اليهود من المعارضين لاتفاق أوسلو لأسباب دينية، بدأت العلاقات الفلسطينية تتحول نحو التأزم. صعد حزب الليكود، والذي عارض تاريخيًّا إقامة دولة فلسطينية أو الانسحاب من الضفة الغربية، إلى سدة الحكم في عام 1996. بحلول عام 2000، بدا احتمال إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي غير ممكن وشارك الفلسطينيون والإسرائيليون في جولات عديدة من المفاوضات والتي فشلت جميعها في إحداث اختراقات جوهرية حتى توقفت عام 2014 وأصبحت تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي بعيدة المنال.
موجة التطبيع: مع توقف عملية السلام، وافقت الدول العربية على "مبادرة السلام العربية"، التي تُعرف أيضًا بـ"المبادرة السعودية" واعتمدتها جامعة الدول العربية في قمتها التي عقدتها في بيروت عام 2002، وذلك بهدف تشجيع الإسرائيليين على تقديم تنازلات تجاه حل القضية الفلسطينية مقابل تطبيع العلاقات مع الدول العربية. نصَّت المبادرة على أن تطبيع العلاقات ما بين الدول العربية وإسرائيل سيكون مشروطًا بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان السورية المحتلة والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان. لم تستجب أية حكومة إسرائيلية للمبادرة العربية ورفضها نتنياهو.
أسهمت التحولات في منطقة الشرق الأوسط (الثورات العربية، تبدل بعض الأنظمة/الزعماء العرب، وتنامي نفوذ إيران) في تحولات السياسة الإسرائيلية والخطاب العام تجاه الدول العربية. بدأ رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وحكومته، التي تجنبت إحراز تقدم في عملية السلام مع الفلسطينيين، في الجدل بأن انفراجة نحو التطبيع مع الدول العربية يمكن تحقيقها حتى بدون دفع السلام الإسرائيلي-الفلسطيني وبالتالي تقديم تنازلات للفلسطينيين. تقوم الرؤية الإسرائيلية على أن التوصل لحل للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي يمكن أن يتحقق فقط عن طريق اتفاق إقليمي واسع يشمل "الدول العربية السنِّية". ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر/أيلول 2016، أوضح نتنياهو بأن هناك تغيرات جوهرية في العالم العربي تجاه إسرائيل وأن العديد من الدول العربية أصبحت تعترف بحقيقة أن إسرائيل "ليست عدوهم" بل يمكن اعتبارها "حليفهم". ووضع نتنياهو إيران والتطرف الإسلامي والمتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) هدفًا مشتركًا مع الدول العربية. أما الأهداف الأخرى المشتركة فتمثلت في الأمن والازدهار والسلام. وضمن هذا السياق، بدأت إسرائيل تطرح نفسها ليس تهديدًا أو مزعزِعًا لاستقرار المنطقة، بل شريكًا وحليفًا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة إيران والحركات الإسلامية "المتطرفة".
نتيجة لذلك، حولت إسرائيل علاقاتها السرية مع بعض الدول العربية إلى اتفاقات تطبيع. وقَّعت إسرائيل، في سبتمبر/أيلول 2020، الاتفاقيات الإبراهيمية، والتي اشتهرت باسم "صفقة القرن" مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وبعد ذلك بوقت قصير مع السودان والمغرب. أكد الموقِّعون على الاتفاقيات أن التعاون الإقليمي مع إسرائيل لا ينفصل عن القضية الفلسطينية وبرَّرت الإمارات والبحرين خطوتيهما بأنهما جاءتا لوقف الضم الإسرائيلي للضفة الغربية. وعلى نفس المنوال، أكد ملك المغرب، محمد السادس، في ديسمبر/كانون الأول 2020، على أن موقف المغرب لم يتغير من القضية الفلسطينية داعمًا مبدأ حل الدولتين.
تدحرجت العلاقات بين إسرائيل والدول المطبعة بشكل سريع وتم توقيع العديد من الاتفاقيات السياحية، والتجارية، والاقتصادية، والأهم توقيع اتفاقيات تعاون أمني/عسكري بين إسرائيل والبحرين، واتفاقية تعاون دفاعي ما بين إسرائيل والمغرب العربي والتي تعتبر الأولى مع دولة عربية. شكَّلت قمة النقب، مارس/آذار 2022، والتي جمعت وزراء الخارجية العرب من مصر والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة مع وزيري الخارجية، الإسرائيلي يائير لبيد، والأميركي أنتوني بلينكن، مرحلة جديدة في علاقات إسرائيل مع الدولة العربية. بحث المجتمعون تشكيل "هيكل أمني إقليمي" واتفقوا على أن يصبح الاجتماع "منتدى دائمًا" يهدف إلى التعاون في المجالات العسكرية/الأمنية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون في المجالات التكنولوجية، والمشاريع الاقتصادية.
رفض حل الدولتين
تحمل علاقات إسرائيل مع العرب تناقضات بنيوية داخلية. فبينما تسعى إسرائيل، وبالتحديد اليمين، لتوسيع العلاقات مع الدول العربية، تُظهر في نفس الوقت تشددًا تجاه الحل السلمي مع الفلسطينيين. فبدلًا من حل الدولتين، تعمل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 2000 على التوسع في الاستيطان وتهويد مدينة القدس وتغيير الحقائق الجغرافية في الضفة الغربية وذلك بهدف حسم كافة القضايا المركزية (مصير مدينة القدس، والحدود، والمستوطنات، واللاجئين، والسيادة الأمنية) بشكل أحادي وخارج إطار المفاوضات الثنائية. يتزامن ذلك مع تغيرات جوهرية في توازن القوى الإسرائيلي الداخلي وبروز نفوذ التيار السيادي، والذي تأسس في عام 2010، جماعةَ ضغط (لوبي) لدعم السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية عن طريق التنظير الأيديولوجي والنشاط السياسي والميداني من جهة، وتراجع تأييد حل الدولتين بين الإسرائيليين من 71%، عام 2010، إلى 32% حاليًّا، من جهة أخرى. ومع نتيجة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والتي فازت فيها الأحزاب التي ترفض حل الدولتين وتسعى إلى مسارعة تنفيذ تغييرات جغرافية وديمغرافية عميقة في الضفة الغربية (مثلًا ضم أجزاء من أراضي الضفة أو تهويد الأقصى)، ليس من المتوقع أن يتم التقدم في أي عملية سلام جدية مع الفلسطينيين؛ فالغالبية الساحقة من الأحزاب الإسرائيلية إما ترفض حل الدولتين وتريد ضم الضفة الغربية أو تقبله ضمن الشروط الإسرائيلية والتي يرفضها في العادة الفلسطينيون.
جدول بنتيجة الانتخابات الإسرائيلية: عدد مقاعد كل حزب فائز وتوجهاته الدينية وموقفه من التسوية مع الفلسطينيين
التوجه للسلام مع العرب
مقابل رفض حل الدولتين، يسعى غالبية كبيرة من الإسرائيليين لتطبيع العلاقات مع العرب بما يخدم المصالح الإسرائيلية في ثلاثة ملفات أساسية:
أولًا: الضغط على إيران: تُجمع المؤسسات البحثية والسياسية والأمنية الإسرائيلية على أن التعاون مع الدول العربية سيشكِّل عنصرًا أساسيًّا في مراكمة ضغوطها على طهران وحلفائها في المنطقة. مستفيدة من التوترات المتنامية ما بين إيرن ومجموعة من الدول العربية، تعمل إسرائيل على ترسيخ إيران عدوًّا مشتركًا، وبالتالي حشد الدعم لمواجهة نفوذها ومشروعها النووي. تتخوف تل أبيب من نوايا الإدارة الأميركية تجاه ملف إيران النووي وبات الاعتقاد السائد داخل المؤسسات العسكرية والسياسية بأن واشنطن لن تقود تحالفًا عسكريًّا ضد إيران. فبدلًا من التبعية التامة والاعتماد المفرط على الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تطالب أطراف إسرائيلية بزيادة الاعتماد على النفس وصياغة إستراتيجية أكثر شمولًا وانخراطًا لتتكيف مع المرحلة الجديدة للمنافسة الإستراتيجية الإقليمية وذلك عن طريق التعاون والتحالف مع الدول العربية. فهناك أطراف إسرائيلية ترى أن الاعتماد الكامل في الأمن على الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن يتسبب في أضرار إستراتيجية واقتصادية هائلة لها، وخاصة إذا قررت الولايات المتحدة تخفيض وجودها في المنطقة. هذا لا يعني بالطبع أن إسرائيل تريد أن تتخلى تمامًا عن التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، ولكنها تريد أن تكون جاهزة للتعامل مع كافة السيناريوهات في المنطقة، بما فيها تخفيض الوجود العسكري للولايات المتحدة أو التعامل مع تصعيد أو هجوم عسكري مفاجيء، على سبيل هجوم صاروخي أو بالطائرات المسيرة. وبالتالي، فإن تل أبيب يمكن أن تخلق مصالح عسكرية وإستراتيجية مشتركة مع عدد من الدول العربية، وخاصة الإمارات، والبحرين، والأردن، ومصر، والمغرب، وربما السعودية لاحقًا إن استطاعت، للتعامل مع النفوذ الإيراني الواسع وخلق توازن قوى إستراتيجي في المنطقة.
ثانيًا: تسويق الأسلحة الإسرائيلية: تتطلع تل أبيب إلى تسويق منتجاتها العسكرية والأمنية مع الدول العربية وبالتالي توسيع خياراتها الاستثمارية بما يخدم اقتصادها الصناعي المتطور. تشير بعض التقديرات إلى أن هناك ألف شركة إسرائيلية تعمل في بيع السلاح والذي يتنوع ما بين الروبوتات، والطائرات دون طيار، وأنظمة التحكم والسيطرة، وكذلك الرادارات ومعدات الحرب الإلكترونية، ومنتجات الصواريخ والدفاع الجوي، وأيضًا الطائرات المأهولة وإلكترونيات الطيران، ومعدات المراقبة؛ فضلًا عن أنظمة ذكاء واتصالات. ومع أن تل أبيب لا تزال تتخوف من نقل التكنولوجيا المتطورة للدول العربية وذلك بهدف الحفاظ على تقنياتها الدفاعية المتقدمة وتفوقها النوعي في المنطقة، إلا أن التعاون العسكري وبيع الأنظمة الدفاعية للدول العربية يمكن أن يحقق لها اختراقًا مهمًّا للأنظمة الأمنية/والعسكرية العربية ويساعدها في جمع المعلومات وترسيخ هيمنتها ونفوذها.
يشير العديد من التقارير، إلى أن شركات الأسلحة الإسرائيلية كانت الرابح الأبرز من اتفاقيات التطبيع؛ حيث توسعت شركات الأسلحة في الأسواق العربية الجديدة وأصبحت مصدرًا أساسيًّا لسوق الأسلحة. تضع تل أبيب وشركات السلاح الإسرائيلية أعينها على الاستجابة للطلبات المتزايدة على شراء الأنظمة الدفاعية والأسلحة الإسرائيلية المتطورة وذلك في ظل زيادة المخاطر الأمنية والهجمات الصاروخية، وخاصة بالطائرات المسيرة. فبعدما وقَّعت إسرائيل اتفاقيات دفاعية وتفاهمات أمنية مع الإمارات والبحرين والمغرب، أبرمت شركات تصنيع الأسلحة مع هذه الدول عقودًا قيمتها أكثر من ثلاثة مليارات دولار، فيما ساعدت السوق الجديدة في دفع صادرات إسرائيل العسكرية إلى مستوى قياسي، بلغ 11.3 مليار دولار العام 2021. ووفقًا لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بلغت المبيعات العسكرية لدول الخليج التي وقَّعت معها اتفاقيات تطبيع 7% من إجمالي صادرات العام 2021. وفي التفاصيل، وقَّعت إسرائيل مع المغرب صفقة لبناء مصانع طائرات مسيَّرة، واشترت المغرب نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي سكاي لوك Skylock وعشرات الطائرات المسيرة من الصناعات الإسرائيلية. وعلى نفس المنوال، اشترت الإمارات نظام دفاع جوي متحركًا ومتطورًا، تنتجه شركة رافائيل ويعرف باسم "سبايدر" والذي يستخدم لإسقاط الصواريخ والطائرات المسيرة. وتهدف الإمارات من استخدام هذا النظام إلى صد هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ، وخاصة التي يمكن أن تطلقها جماعة الحوثي من اليمن.
ثالثًا: موارد الطاقة: تتشكل ديناميكية جديدة يمكن أن يكون لها آثار جيوسياسية كبيرة وتتمثل في اندماج إسرائيل مصدرًا متواضعًا ولكن يمكن أن يكون مهمًّا للغاز الطبيعي، وذلك في ظل أزمة الطاقة العالمية وسعي الدول الأوروبية لوقف استيراد الغاز الروسي. لعقود من الزمان، شكَّل اعتماد إسرائيل على استيراد الطاقة مصدر قلق كبيرًا لنخبتها السياسية والعسكرية؛ حيث لم يكن لديها أي احتياطيات معروفة وتعيش في توتر دائم مع محيطها العربي. لذلك، كان عليها الاعتماد على الواردات من مصادر مثل كولومبيا وروسيا وجنوب إفريقيا وأميركا الجنوبية. بعد اكتشاف وتطوير حقلي غاز تمار وليفياثان في البحر الأبيض المتوسط، ومؤخرًا، كاريش وتانين، تمكنت إسرائيل من خفض توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم من 60٪ إلى 30٪. كما أنها تهدف إلى إنهاء استخدام الفحم تمامًا بحلول عام 2025 مع الاعتماد المتزايد على الطاقة الشمسية المتجددة. تشير بعض التقديرات إلى أن احتياطيات الغاز المحتملة في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل في البحر الأبيض المتوسط تزيد عن 70 تريليون قدم مكعب.
مستفيدة من احتياطياتها الجديدة من الغاز البحري، توصلت إسرائيل إلى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وعقدت مؤخرًا اتفاقيات لبيع الغاز لمصر والأردن. كما انضمت إسرائيل إلى منتدى غاز شرق المتوسط ومقره القاهرة، والذي يضم قبرص ومصر وفرنسا واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية. في حين أن الغرض المباشر لهذا المنتدى هو استكشاف كيفية تصدير الغاز من المنطقة إلى أوروبا والأسواق الأخرى معًا فقد اكتسب أيضًا أهمية إستراتيجية كمنظمة دولية معترف بها من قبل الأمم المتحدة ويعكس توافقًا إقليميًّا أوسع. وعن طريق مشاريع الطاقة المشتركة، تطمع تل أبيب في توسيع فرصها الاقتصادية الأخرى، مثل شراكة الطاقة مقابل المياه بين إسرائيل والأردن والإمارات العربية المتحدة والتي تم الإعلان عنها في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. كما وقَّعت مع لبنان اتفاقًا، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، لترسيم الحدود البحرية بينهما، وهو ما سيضمن مع الوقت خلق مصالح اقتصادية مشتركة بين الطرفين (استخراج الغاز وتسويقه) وهو ما قد يشكِّل ضمانة لمنع الانزلاق للحرب مستقبلًا.
سيناريوهات
تتفاعل مجموعة من السيناريوهات في علاقات إسرائيل مع الدول العربية والتي يمكن تلخيصها على الشكل التالي:
الهيمنة في المنطقة: تهدف إسرائيل مستقبلًا إلى تطوير علاقاتها الإقليمية الدفاعية والاقتصادية والثقافية مع عدد من الدول العربية وذلك عن طريق الخطوات الصغيرة ولكن الثابتة والمستمرة والتي تضمن تعزيز مصالح إسرائيل وهيمنتها الإقليمية، وخاصة في مجال الأمن والدفاع. فبيع الأسلحة للدول العربية لن يضمن فقط لتل أبيب مصادر مالية إضافية لخزانتها، بل التأثير على أولويات الدفاع والأمن في الدول العربية. ولكن مع مرور الوقت قد تؤدي زيادة شبكات التعاون والعلاقات مع الدول العربية إلى خلق أوضاع جديدة تتناقض فيها إسرائيل مع مصالح حلفائها العرب. فإسرائيل، وخاصة اليمين، لا ينطلق في علاقاته مع الدول العربية على أساس المصالح المشتركة والمتبادلة، بل يسعى في المقام الأول إلى تحقيق الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية وترسيخ إسرائيل قائدة في المنطقة وهو ما قد يخلق مستقبلًا تناقضات جيوسياسية وتنافسات إستراتيجية، حتى بين حلفاء تل أبيب، وخاصة فيما يتعلق بالتعاون في مجال الملف الإيراني؛ فليس جميع دول المنطقة تتشارك جميع الأهداف مع تل أبيب وهناك اختلافات في المصالح السياسية والجيوستراتيجية والتي قد تمنع تشكيل تحالف عسكري صلب ضد إيران.
التسوية مع الفلسطينيينن: بالرغم من التفاؤل الذي تحاول الأطراف العربية والإسرائيلية إظهاره عن التعاون المزدهر، سيشكل صعود اليمين الإسرائيلي إلى سدة الحكم في إسرائيل مع رفضه المبدئي للسلام مع الفلسطينيين، تحديًا حقيقيًّا في تحويل العلاقات مع الدول العربية إلى سلام حقيقي. تنبع الإشكالية الرئيسية في ذلك في التحولات البنيوية، والاجتماعية، والديمغرافية داخل المجتمع الإسرائيلي والتي تميل حاليًّا إلى تأييد اليمين والأحزاب الدينية من جهة، ورفض السلام مع الفلسطينيين، من جهة أخرى. وبدون حل القضية الفلسطينية، ستواجه إسرائيل تحديات متصاعدة تجاه إحداث ثورة جذرية في علاقاتها العربية. أدت اتفاقيات التطبيع إلى تضاؤل فرص دفع الرأي العام الإسرائيل إلى تقديم تنازلات للفلسطينيين وسيزداد على الأرجح الضغط على الفلسطينيين مع وصول الأحزاب اليمنية والدينية المتشددة إلى سدة الحكم. وفي ظل استبعاد حل الدولتين، سيكون أمام الائتلاف الحكومي القادم، والذي سيعتمد على أصوات اليمين والأحزاب الدينية المتطرفة، خياران أساسيان: إما الحفاظ على الوضع الراهن أو تصعيد الخيار العسكري مع الفلسطينيين. وفي كلتا الحالتين يمكن أن تندلع احتجاجات شعبية وعسكرية واسعة -وهي بالمناسبة مستمرة منذ أكثر من عام- وهو ما قد يؤدي إلى تفكك السلطة الفلسطينية وانهيارها. وفي هذه الحالة، ستجد الدول العربية نفسها مضطرة للتحرك. من المرجح أن تستمر بعض الدول العربية في علاقاتها مع إسرائيل بغض النظر عن السياسات تجاه الفلسطينيين، إلا أن دولًا أخرى ربما تعارض سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وخاصة إذا أقدمت الحكومة الجديدة على ضم مناطق من الضفة الغربية أو تهويد مدينة القدس. ففي هذه الحالة، قد يجد بعض حلفاء إسرائيل في المنطقة (مثل الأردن) أنفسهم في تعارض مع الخطوات الإسرائيلية وبالتالي تجميد أو الانسحاب من العلاقات الثنائية.
التعاون الجوي المشترك: مع أن فكرة إنشاء "الناتو العربي" التي تم طرحها سابقًا ولاقت ترحيبًا محدودًا من دول المنطقة تبدو بعيدة المنال حاليًّا بالنظر إلى الحقائق الجيوسياسية، فإن التعاون الدفاعي الجوي وبيع الأسلحة الإسرائيلية لمواجهة التهديدات الجوية والصاروخية والطائرات بدون طيار يمكن أن تكون خيارًا مفضلًا من قبل إسرائيل وحلفائها. أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، رسميًّا، في يونيو/حزيران 2022، عن تأسيس "تحالف للدفاع الجوي المشترك في الشرق الأوسط" لمواجهة ما تصفه تل أبيب وحلفاؤها بالتهديدات الإيرانية. تشير أيضًا تقارير غير مؤكدة إلى أن إسرائيل نشرت أنظمة رادار في الإمارات والبحرين. كما أن قمة النقب بحثت بالفعل التعاون العسكري في مجال الدفاع الجوي. ومع ذلك، يبقى من المستبعد أن يتحول التعاون إلى تحالف دفاعي جوي واسع وذلك نتيجة فرق الإمكانيات والأهداف والمصالح الجيوسياسية ما بين إسرائيل والدول العربية. فبينما تملك إسرائيل واحدًا من أقوى الدفاعات الجوية في المنطقة، لا تملك غالبية الدول العربية أنظمة حديثة أو بنية تحتية متطورة للدفاعات الجوية.
زيادة المبيعات العسكرية: يزداد الاهتمام الإسرائيلي بأسواق الأسلحة العربية، وخاصة الدفاعية، وعلى الأغلب ستتوسع دائرة المبيعات مستقبلًا لتشمل حماية الحدود، والدفاعات الإلكترونية، وحماية المطارات ومحطات الطاقة. ومع رغبة إسرائيل في بيع المزيد من الأسلحة، قد تتخوف بعض الدول العربية من توسيع دائرة المشتريات العسكرية الإسرائيلية وذلك خوفًا من الاعتماد المتزايد على إسرائيل في بنيتها العسكرية وبالتالي اختراق إسرائيل المجالها الأمني. كما أن صفقات الأسلحة مع إسرائيل يمكن أن تؤدي في النهاية إلى دخول المنطقة في سباق تسلح سيؤدي على الأغلب إلى مضاعفة المخاطر على الدول العربية وليس تقليلها، خاصة أن إيران تراقب عن كثب التعاون الإسرائيلي-الخليجي.
توسيع التعاون في مجال الطاقة والاستثمارات: تعمل إسرائيل حاليًّا على تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر والأردن وتهدف إلى توسيع تعاونها ليشمل دول المنطقة التي لديها تطلعات لأن تصبح محورًا لسوق الغاز الطبيعي العالمية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فالتعاون مع الدول العربية سيرجح مستقبلًا لإسرائيل الولوج والاستثمار في الموانئ والطرق الإستراتيجية كبوابة للعبور إلى الأسواق الآسيوية والأوروبية وهو ما سيوسع من خيارات تل أبيب كدولة صناعية في التخلص من تأثيرات تقلبات الأسواق المحلية والدولية وأسعار مواد الطاقة.
خاتمة
تشهد علاقات إسرائيل مع بعض الدول العربية حاليًّا ازدهارًا في المجالات الدبلوماسية، والعسكرية، والسياحية، والاقتصادية، لكن من المستبعد أن تتحول هذه العلاقات إلى ثورة عميقة. فليس من المتوقع أن يحدث تحول شامل في العلاقات قبل التوصل لحل للقضية الفلسطينية. وبما أن السلام مع الفلسطينيين لم يعد مطروحًا في المستقبل القريب ضمن الأجندة الإسرائيلية السياسية، فإن انتكاسة العلاقات العربية-الإسرائيلية تبقى مرجحة، وخاصة إذا أقدمت إسرائيل على تصعيد سياساتها ضد الفلسطينيين بصورة تؤدي إلى تفكك السلطة الفلسطينية أو اندلاع انتفاضة جديدة. بعبارة أخرى، يمكن أن يُفسد الإسرائيليون أنفسهم تطور علاقاتهم مع العرب في حال لم يقدموا تنازلات تجاه السلام مع الفلسطينيين.