تواجه القوة الصناعية الألمانية صدمة مزدوجة بسبب أزمات الطاقة في العالم، فمن جهة، كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية عن تبعية برلين لموسكو في هذا القطاع، الأمر الذي يهدد بقاء هذه الصناعة بسبب انخفاض واردات الطاقة. من جهة أخرى، تعاني هذه الصناعة الارتفاع الحاد في تكاليف الطاقة العالمية، مما يجعلها عرضةً للتوترات السياسية والاجتماعية. تكمن مخاطر هذه الصدمة في ظل أن الصناعة التحويلية تعد قلب النشاط الاقتصادي الألماني، إذ تمثل ما يزيد على 24٪ من الناتج المحلي الإجمالي لها، إضافة إلى توفيرها نحو 19٪ من الوظائف المباشرة، بخلاف توليد نسبة كبيرة من الوظائف غير المباشرة، والتي تشكل ما يقرب من نصف الوظائف في قطاع الخدمات.
في هذا السياق، يسلط هذا التقرير، الصادر مؤخراً عن لجنة الدراسات المعنية بالعلاقات الفرنسية الألمانية Cerfa التابعة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية الضوء على تداعيات الحرب في أوكرانيا على مستوى التبعية الألمانية في مجال الطاقة، فضلاً عن التحديات التي تواجهها الصناعات التحويلية، لاسيما تلك كثيفة الاستهلاك للطاقة، وإمكانية استبدال الطاقة من الوقود الأحفوري بمصادر الطاقة المتجددة لتزويد هذه الصناعة، وماهية الحلول على المدى القصير والمتوسط والطويل، التي تقترحها القوى السياسية الألمانية لبقاء هذه الصناعة مع مراعاة مقتضيات التحول في مجال الطاقة.
التبعية الألمانية:
يستورد الاتحاد الأوروبي حوالي 60٪ من احتياجاته من الطاقة، بينما تعتمد ألمانيا على إمدادات الطاقة من الخارج بنحو 65٪، مقارنة بحوالي 44٪ بالنسبة لفرنسا، وذلك وفقاً لتقديرات عام 2020، بما يدلل على حجم التبعية للخارج. في الوقت ذاته، يستهدف الاتحاد الأوروبي الوصول إلى "صفر انبعاثات كربونية" بحلول عام 2045، لذلك، تم تقليل استخراج الوقود الأحفوري بنسبة 45٪ في السنوات الأخيرة، ولكن تم تعويضه جزئياً من خلال مصادر الطاقة المتجددة.
بالتالي، باتت برلين تستورد نحو 98٪ من احتياجاتها النفطية، و93٪ من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى 100٪ من احتياجاتها من الفحم والذي يعد مصدراً بديلاً أقل تكلفة ولكن أكثر تلويثاً للبيئة. ومع ذلك، فإن الواردات من روسيا هي الأهم على الإطلاق. لذا، مثَّلت الحرب الروسية الأوكرانية وعواقبها الجيوسياسية تداعيات كارثية على الصناعة الألمانية، التي كانت تعتمد بشكلٍ خاص على هذه الواردات لتعويض النقص الذي حدث بعد إغلاق مناجم الفحم منذ عام 2018 وآخر ثلاث محطات للطاقة النووية في عام 2022، حيث تراوحت نسبة واردات الغاز الروسي خلال السنوات الثلاث الماضية بين 55٪ و57٪ من واردات الغاز، ومن ثم ستحرم خطة الإغلاق الكامل لهذه المحطات الشركات الألمانية من 12٪ إضافية من الطاقة، بما يعني أن الواردات الإضافية من الغاز المخطط لها مع بدء تشغيل خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 لن تكون قادرة على سد هذا العجز.
على الجانب الآخر، تأثرت الصناعة التحويلية في ألمانيا بآثار الإغلاق المتزامن لمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم والطاقة النووية الألمانية، مما يزيد من العجز الذي يلوح في الأفق في الفحم والنفط والغاز. وحتى قبل العجز الذي بدأ يؤثر بشكلٍ خطير على عدد من الشركات الصناعية الألمانية، فإن الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة الناجم عن تحول الطاقة والاعتماد الكبير على الغاز والنفط والفحم الروسي يلقي بثقله على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، حيث يتم استيراد 50٪ من الفحم المستهلك في ألمانيا من روسيا منذ الإغلاق الكامل لمناجم الفحم الألمانية لأسباب بيئية.
أما النفط، فلا يزال أهم مصدر للطاقة، حيث يتم استيراد 81 مليون طن، منها أكثر من 34٪ من روسيا وحوالي 12٪ من الولايات المتحدة. أخيراً، تُباع الكهرباء، التي تأتي بما يقرب من 50٪ منها من الطاقات المتجددة، إلى الصناعة بحوالي 26.6 سنتاً/كيلوواط ساعة (مقارنة بـ14 إلى 17 سنتاً/كيلوواط ساعة في فرنسا) وسترتفع إلى أكثر من 37 سنتاً/كيلوواط ساعة. تكمن المشكلة في التصاعد الحاد والمضطرد في أسعار الطاقة في مضاعفة أسعار الغاز بمقدار 7 مرات، والذي وصل حالياً إلى (148 يورو/ميغاواط ساعة) بينما كان السعر المعتاد يتراوح بين 10 و25 يورو.
مخاطر محتملة:
من بين الصناعات التحويلية التي تأثرت بشكلٍ كبير بالارتفاع الحاد في تكاليف الطاقة منذ عام 2021 هي الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، والتي تم تجميعهم معاً في اتحادEID (Energieintensive Industrien in Deutschland). ورغم أنها تمثل أقلية بين الصناعات التحويلية، فإن الصناعات الألمانية والفرنسية كثيفة الاستهلاك للطاقة تمثل حوالي 20٪ من استهلاك الكهرباء المحلي في كلٍ منهما. وتعد صناعات الصلب والزجاج والورق، من أبرز الصناعات الألمانية كثيفة الاستهلاك للطاقة، حيث تحتل المرتبة الأولى على المستوى الأوروبي.
ويمثل الانفجار الحالي في تكاليف الطاقة العالمية والتي تؤدي بدورها إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، خطراً على الشركات العاملة بهذه الصناعات، حيث قد تضطر بعضها لخفض إنتاجياتها بينما تخطط الأخرى لنقل عملياتها الإنتاجية خارج أراضيها، ناهيك عن وجود تكلفة إضافية لضريبة الكهرباء EEG، والتي تم إدخالها في عام 2000 والتي تهدف إلى تمويل الاستثمارات المرتبطة بالطاقات المتجددة. هذه الضريبة تتحمل الأسر حوالي ثلثها، والنصف الآخر تتحمله الشركات. كانت هذه الضريبة 6.76 سنت/كيلوواط ساعة عام 2020 و6.50 سنت/ كيلوواط ساعة عام 2021. يتم إعفاء الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة جزئيًا من تكاليف الطاقة الإضافية لقانون EEG، لكن حتى الإعفاءات الجزئية أصبحت غير كافية في أعقاب الارتفاع الكبير في تكلفة الطاقة والغاز والنفط والفحم.
وتشغل صناعة السيارات وحدها 17٪ من الصادرات الألمانية، وتنتج وحدها ما لا يقل عن 50٪ من الفائض التجاري الألماني، بالتالي فهي الضامن الرئيسي لفائض الميزانية الألمانية، وقد عانت صناعة السيارات الألمانية من صدمات هائلة في السنوات الأخيرة، بسبب القيود المرتبطة بالسعي لتحقيق انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2045، وكذا التداعيات التي تمخضت عن جائحة كورونا، ومؤخراً، احتمال فقدان مصادرها من الطاقة الأحفورية المستوردة من روسيا وبشكل خاص الغاز الروسي.
حتى قبل الأزمة الروسية - الأوكرانية، كان التحدي الأكبر لصناعة السيارات الألمانية هو بالفعل عدم كفاية الوصول إلى الطاقة، فقد أصبح بناء شبكات البنية التحتية لشحن السيارات الكهربائية والوصول إلى الطاقة للإنتاج الصناعي مهدداً بأن يصبح غير كافٍ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي مصنعها الكبير في فولفسبورج، تحولت "فولكس فاجن" من الفحم إلى الغاز، وذلك بفضل التحول إلى الغاز المستورد من روسيا بواسطة نورد ستريم 1، لكنها تتخوف اليوم من إمداد مصنعها في فولفسبورغ، وهو أكبر مصنع لديها في ألمانيا والذي يوظف أكثر من 60 ألف شخص، فمشكلة الوصول إلى الطاقة تضيف إلى القيود المتعددة التي يفرضها انتقال الطاقة ويمكن أن تدفع "فولكس فاجن" نقل أنشطة إنتاج السيارات الكهربائية إلى الصين.
خيارات مطروحة:
ثمة مجموعة من الخيارات التي طرحها تقرير لجنة الدراسات المعنية بالعلاقات الفرنسية الألمانية حول أزمة الصناعة الألمانية على المديات القصيرة والمتوسطة وطويلة الأمد، وذلك كما يلي:
أولاً: المدى القصير: تعد أزمة إمدادات الطاقة مشكلة قصيرة المدى وحادة تؤثر بشكلٍ خطير على الصناعة التحويلية الألمانية بأكملها، وإذا واصلت روسيا تهديدها بوقف شحنات الغاز على خط أنابيب نورد ستريم 1، فقد يعيق هذا الأمر خطة الانتقال إلى عالم خالٍ من الكربون. بيد أن الأسوأ من ذلك بالنسبة لألمانيا هو ما يتعلق بدفع صناعاتها التي تستهلك كميات كبيرة من الغاز إلى مغادرة الأراضي الألمانية لتكون قادرة على الإنتاج خارج أوروبا لأسباب تتعلق بأمن الطاقة. لذا، فإن الحلول قصيرة المدى ترتكز بالأساس على ضرورة البحث عن بدائل للغاز الروسي.
وتجدر الإشارة إلى أن الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المُسال يتزايد بالفعل بما يصعب على العرض مواكبته؛ مما يؤدي بدوره إلى خلل هيكلي ويمهد الطريق لأزمة إمداد عالمية كبرى ستؤثر بشكلٍ خطير على ألمانيا، ففي بداية عام 2020، ارتفع سعر الغاز بالفعل بنسبة 83٪، من 6.47 سنت/كيلوواط ساعة إلى 11.84 سنت/كيلوواط ساعة.
ولا يملك الألمان محطات للغاز الطبيعي المُسال، فهناك 37 محطة في أوروبا، 26 منها فقط في الاتحاد الأوروبي، والتي تغطي 25٪ من احتياجات الغاز، وعليه تخطط ألمانيا لبناء المحطات التي يمكنها تخزين الغاز المُسال المستورد من الولايات المتحدة أو دول أخرى على عجل، لكن تكلفة الغاز المسال ضعف تكلفة الغاز المستورد من روسيا لذلك تخطط ألمانيا بعد ذلك لتمرير الغاز السائل عبر خط أنابيب الغاز نورد ستريم، كما تم التخطيط لبناء محطات عائمة، حيث قامت ألمانيا على عجل ببناء محطة LNG عند مصب نهر Elbe، بفضل التمويل الكبير من البنك العام KfW.
ثانياً: المدى المتوسط: تعمل الحكومة الألمانية على تسريع وتيرة إنتاج الطاقة التي تعتمد بالكامل على الطاقات المتجددة بحلول عام 2035، وللقيام بذلك، فإن الأمر يتعلق بمضاعفة القدرة الإنتاجية لتوربينات الرياح في البر والبحر بمقدار أربعة بحلول عام 2030، ومضاعفة التركيبات الكهروضوئية بأربعة أيضاً. لكن من الواضح أن الحجم الإجمالي للمواد الخام المستوردة من روسيا ليس كبيراً جداً، لأنه يتعلق فقط بـ7٪ من إجمالي الواردات الروسية، فالمشكلة تكمن في أنه من بين هذه المواد الخام المستوردة، هناك معادن غير حديدية ذات أهمية أساسية لانتقال الطاقة من أهمها النيكل، وهو أحد المعادن غير الحديدية التي لها أهمية قصوى، لأنه يستخدم في تصنيع البطاريات الكهربائية NMC (النيكل والمنجنيز والكوبالت)، حيث تستورد ألمانيا حوالي 40٪ من احتياجاتها من النيكل من روسيا، والتي تعد واحدة من المنتجين الرائدين في العالم، لاسيما فيما يتعلق بنيكل اللاتيريت عالي الجودة، وهو مثالي للبطاريات الكهربائية للسيارات الفاخرة.
كما أصدرت إندونيسيا ثاني أكبر مصدر في العالم قراراً بحظر صادراتها من النيكل من أجل الاحتفاظ بها لإنتاجها من البطاريات، وتسبب هذا الوضع في حدوث ارتفاع غير مسبوق في سعر النيكل اللازم لتصنيع السيارات عالية الجودة (تجاوز 100000 دولار)، وكذلك الحال بالنسبة للبلاديوم، والذي يتم استيراده بشكلٍ رئيسي أيضاً من روسيا بحوالي 42٪، والأمر ذاته بالنسبة للكروم أو الكادميوم المستورد بنسبة تصل إلى 20٪ و14٪ على التوالي من روسيا.
ويتطلب المستوى العالي من التكنولوجيا الذي يتطلبه التحول إلى الكهرباء والحاجة إلى توفير الطاقة زيادة استخدام أشباه الموصلات، فأشباه الموصلات جزء لا يتجزأ من عملية التصنيع، والقيود التنظيمية القوية على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والغازات الملوثة التي تؤدي إلى الانتقال السريع إلى السيارة الكهربائية هي عناصر رئيسية تفسر الحاجة المتزايدة لصناعة السيارات إلى أشباه الموصلات. لكن هذه المشاريع الخاصة بالسيادة التكنولوجية الأوروبية لها جانب آخر يتجاهله صانعو القرار السياسي، لأن صناعة أشباه الموصلات التي يهدف الأوروبيون والألمان في المقام الأول إلى تطويرها في أوروبا، وبشكل خاص في ألمانيا، هي صناعة كثيفة الاستخدام للموارد وللطاقة، وملوثة بشكلٍ خاص.
ثالثاً: المدى الطويل: على المدى الطويل، يحلم قادة البيئة الألمان بمجتمع كهربائي بالكامل بناءً على ملاحظة بسيطة وهي أن مصدر الطاقة الشمسية أكبر بـ 10000 مرة من احتياجات الطاقة في العالم. كما يجب أن تحتل الخلايا الكهروضوئية أهمية قصوى، وكذلك مبدأ "power to x" الذي يجعل من الممكن تحويل الكهرباء إلى طاقات أخرى مثل الهيدروجين أو الميثان، لكن هذه الرؤية تتجاهل مشاكل نقل الكهرباء التي قد تتعارض مع الطموحات والصراعات الجيوسياسية التي تظهر فجأة مرة أخرى في عالم اليوم.
ختاماً، باتت ألمانيا، كغيرها من الدول الأوروبية، تعاني كثيراً تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، فلم يعد بإمكان ألمانيا الاعتماد على تفوقها الاقتصادي والمصالح التجارية المشتركة لتجاهل مشاكل الطاقة التي تواجهها، فالمواجهة المطولة مع روسيا أو حتى المشروع الأوروبي الطموح للاستغناء عن ثلثي الغاز الروسي بحلول نهاية عام 2022 يهدد بتوجيه ضربة قاسية للصناعة الألمانية، ناهيك عن احتمالات تعثر أهداف الحياد الكربوني التي حددتها ألمانيا، في ظل الاتجاه لإعادة تشغيل مناجم الفحم ومحطات الطاقة النووية والتي قد تستغرق وقتا طويلاً.