• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
مقالات عربية

تونس بين مطرقة صندوق النقد وسندان العزلة الدولية


سيتوجه التونسيون الأسبوع المقبل إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية، لكن بغض النظر عن النتائج التي ستسفر عنها تلك الانتخابات، يواجه التونسيون مستقبل غامض في نواحي عدة. وفي حين ينقسم التونسيون حول مدى تأثير الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد في الحكم، إلا أن التحديات الداخلية التي يواجهها سعيد إلى جانب الازمة الاقتصادية العامة، من شأنه أن يعزل تونس بشكل متزايد على المسرح الدبلوماسي.

تتسارع وتيرة الأحداث في تونس منذ خُروجها عن المسار الديمقراطي ودخولها تحت حكم الإجراءات الاستثنائية التّي أقرّها الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو\تموز 2021. تبعها قرار سعيد بتجميد عمل البرلمان واعفاء الحكومة وتعطيل العمل بدستور 2014، مرورا بإلغاء الهيئة الوقتية لمُراقبة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وبالطبع، وضعت تلك الإجراءات تونس في مسار دستوري مختلف.

قام سعيد أيضا بحلّ وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا للانتخابات وصولا إلى كتابة دستور جديد، والاستفتاء عليه بنسبة لم تتجاوزي ثلثي الناخبين - في مُؤشر واضح على تراجع شعبية الرئيس وتآكل الديمقراطية.

وقد أحدثت هذه الإجراءات انقساما حادا داخل المجتمع التونسي بين مُؤيّد يرى فيها تصحيحا لمسار الثورة وتحسينا لأوضاع البلاد ومعيشة المواطن، ومُعارضا يعتبرها خروجا عن المسار الديمقراطي وانقلابا واضحا على الدستور وعودة إلى حالة ما قبل 2011.

أزمة مالية حادة

رُبّما يختلف التونسيون حول طبيعة الأزمة السياسية التّي تعصف بتونس وأسبابها وتداعياتها القريبة والبعيدة، إلا أنّ لا أحد منهم سيختلف حول حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور والكارثي التّي وصلت إليه البلاد.

يزداد المشهد التونسي ضبابية وقتامة يوما بعد يوم خُصوصا مع غياب أي بوادر انفراج في الأفق القريب، وفشل كلّ من الرئيس قيس سعيد ورئيسة حكومته نجلاء بودن في اخراج البلاد من أزمتها الراهنة وإنعاش الاقتصاد، حيث تُواجه تونس منذ شهور شُحّا متزايدا في التزود ببعض المواد الأساسية كالسُكّر والسميد والزيت والقهوة إضافة إلى المحروقات والأدوية، مع ارتفاع الأسعار بشكل جُنوني يكاد يكون يوميا مما أثّر على القدرة الشرائية وعلى معيشة المواطن التونسي الذّي أصبح غير قادر حتى على مجابهة نفقاته اليومية. وفي واقع الامر، باتت المنظومة المالية في تونس اليوم مُهدّدة بالانهيار وذلك في ظلّ بلوغ البنك المركزي والمنظومة المالية المحلية طاقتها القُصوى، وعدم قدرتها مستقبلا على توفير ما من شأنه أن يضمن مستحقات الشعب.

بعد أشهر طويلة ومضنية من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أعلنت الحكومة التونسية عن توصلها إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق من الناحية التقنية مدته 48 شهرا مقابل الحصول على مبلغ قدره 1.9 مليار دولار لدعم السياسات الاقتصادية في تونس. ومن الجدير بالذكر ان الاتفاق قد شمل عدة شروط فرضها الصندوق على تونس لضمان الحصول على قرض الصندوق منها تخفيض المصاريف واحتوائها من خلال الإلغاء التدريجي للدعم، زيادة العدالة الضريبية والاعتناء بالدعم الاجتماعي للفئات الهشة وتعويض الأسر ضعيفة الدخل عن تداعيات ارتفاع الأسعار، ودعم الحكم الرشيد والشفافية في القطاع العام، وتعزيز الإصلاحات الهيكلية. وفي مقابل هذه الإصلاحات يضطلع المجتمع الدولي بدور مهم في تيسير تنفيذ البرنامج من خلال التعجيل بإتاحة التمويل اللازم لضمان نجاح السلطات في جهودها على صعيد السياسات والإصلاحات.

يحمل الاتفاق بين صندوق النقد وتونس عدة جوانب ايجابية منها أن تونس لم تطلب مبلغا محددا من الصندوق، بل قدمت مطلبا لتمويل برنامج إصلاحي مدته 3 سنوات، إضافة إلى شرط عدم التوجه نحو بيع المؤسسات العمومية، بل التوجه فقط نحو الإصلاح وإعادة الهيكلة. أيضا يعد هذا الاتفاق خطوة جيدة ومهمة على الأقل على المدى القصير لإنقاذ اقتصاد البلاد وطمأنة شركاء تونس وتجديد ثقتهم، حيث أن التوقيع مع صندوق النقد سيفتح المجال أمام الاقتراض من دول أخرى اشترطت الاتفاق أولا مع صندوق النقد الدولي.

ومع ذلك، قد لا يكون الاتفاق مع صندوق النقد كافيا لإنقاذ النظام المالي التونسي، فعند الاطلاع على ميزانية الدولة لسنة 2022، نفهم أن تحصيل مبلغ 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لا يكفي لسد العجز، وهو تمويل ضئيل جدا ولن يكون كافيا لتغطية نفقات الدولة لسنة 2022 والمُقدّرة بسبة 7 مليار دولار، ولن يُسرّع الانخراط الفعلي في عملية إنقاذ الاقتصاد خاصّة وأنّ الأمور تعقدت كثيرا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتّي جعلت من أرقام الميزانية التونسية قد تجاوزها الزمن، وصار لزاما إعادة النظر فيها.

على مستوى الراي العام، فمع إعلان الحكومة عن الغاء الدعم على المواد الاستهلاكية كأحد شروط الصندوق، ستتأثّر فئات واسعة من التونسيين بارتفاع نسبة التضخم والفقر ممّا يفتح الباب على مصراعيه لغليان داخلي يُمهّد لانفجار اجتماعي كبير. وبالتالي لن يكون الاتفاق مع صندوق النقد حلا لإنعاش الاقتصاد الميت اكلينيكيا، بل ترقيعي خاصة وأنه متوجه للاستهلاك لا للاستثمار.

موقف دولي غامض

تثير التغييرات التي حدثت في نظام الحكم في تونس والمرتبطة بالأزمة المالية التي تمر بها أيضًا التساؤل حول كيفية استجابة الدول الأخرى، فبعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد يوليو 2021، تأرجحت العلاقات الامريكية -التونسية ما بين بيانات دبلوماسية مُتتالية ظاهرها الدعوة إلى "استعادة المسار الديمقراطي" والتهديد أحيانا بخفض المساعدات.

في نهاية المطاف، اتسم رد الفعل الأمريكي بنوع من القبول للمسار الحالي مع الحرص على التذكير بتوفير المزيد من المشاركة للمواطنين التونسيين. وقد دفعت سياسة قيس سعيد حينها إدارة الرئيس "جو بايدن" إلى التصعيد والردّ عليها، حيث أوقفت واشنطن قرضا بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي، إضافة إلى إيقاف منحة بنية تحتية تقدر بـ 500 مليون دولار مُقدّمة من مؤسسة "تحدّي الألفية" إلى تونس، كما أحجمت وزارة الخارجية عن بعض أموال الدعم العسكري وهدّد الكونغرس بخفض أو إلغاء المُساعدة الاقتصادية لتونس ما لم تتحسّن الظروف. علاوة على ذلك، هناك هواجس ومخاوف أمريكية وغربية من أنّ الخيارات التي ينتهجها سعيد قد تُعمّق من حدة الأزمة السياسية وربما تؤدي إلى اضطرابات وانفجار اجتماعي كبير، لا يُمكن لأحد التكهّن بتداعياته.

وبينما وجدت قرارات قيس سعيد صدى كبيرا لدى الاعلام الأمريكي ومراكز الأبحاث من حيث الاهتمام والنقد، كان الموقف الرسمي الأمريكي أكثر حذرا في التعامل مع الرئيس التونسي، حيث لم يتجاوز حاجز التنديد وإصدار بيانات دبلوماسية باردة. أثار هذا البرود الأمريكي في التعامل مع الملف التونسي الكثير من التساؤلات حول كيفية تعاطي إدارة بايدن مع الأزمة في ظل النفوذ الكبير الذي تتمتع به واشنطن في الداخل التونسي (سياسيا واقتصاديا وعسكريا) والذي يتيح لها اتخاذ قرارات أكثر صرامة بعيدا عن الدبلوماسية الباهتة.

وبعد مرور شهر على انتهاء الاستفتاء الدستوري، شهد الموقف الأمريكي تحولا كبيرا نحو تونس، وقد تدعّم هذا التحوّل من خلال الزيارات التّي قام بها كلّ من نواب في الكونغرس ومجلس النواب الأمريكيين، وزيارة مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى "بربرا ليف". وتبدو هذه الزيارات لمسؤولين أمريكيين رفيعي المُستوى بمثابة الفُرصة الأخيرة للرئيس قيس سعيد لتعديل مساره والايفاء بالتزاماته السياسية لأنّه خرج عن الحدّ الأدنى الديمقراطي. وفي تقديري أنّ هذه البرغماتية الامريكية لا تتعلّق فقط بالالتزام الديمقراطي، بل يتعلق بالخيارات الأمنية والاستراتيجية.

يبرر الجانب الأمريكي موقفه بعدم وجود احتجاجات شعبية كبيرة ضد الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد وأنه لا يزال يملك المبادرة السياسية الكاملة في البلد إذ لا توجد ضغوط داخلية عليه أو زعامات سياسية توازي نفوذه وسلطته، كما أن الطريق بات سالكا أمامه لاتخاذ أي إجراء يريده. وما سهل الأمر أن المعارضة متشرذمة ومنقسمة إيديولوجيا، والأحزاب الكبرى في حالة عجز وتعاني من أزمة ثقة مع مكوناتها، كما يعاني المجتمع المدني ضعفا كبيرا هو الآخر.

لعل الجانب الأمريكي محق في أن الشارع التونسي منقسم وغير متوحد وأن المظاهرات مناسباتية وغير دائمة ولا تقلق النظام، لكنه يغفل عن تعامل السلطة الوحشي مع المتظاهرين والقبضة الأمنية التي يبطش بها قيس سعيد بمعارضيه، واخافتهم بالاعتقالات والتحقيقات القضائية واحالتهم على القضاء العسكري. تلك الإجراءات القمعية وحالة الخوف المنتشرة أدت إلى إسكات جميع الأصوات الحرة وجعلت من الصعب على المواطنين العاديين النزول إلى الشارع للاحتجاج على إجراءات سعيد غير الديمقراطية.

وفي المقابل، ُتدرك السلطة في تونس أن التصريحات والزيارات الأمريكية المتتالية تكشف عن حاجة واشنطن إلى الحليف التونسي بالنظر إلى الموقع الجيوـ استراتيجي المُهم لتونس ـ، وأنّ واشنطن لا تريد بطريقة أو بأخرى أن تخرج تونس عن دائرة النفوذ الأمريكي، وبما أن الإدارة الأمريكية تنتهج البرغماتية والواقعية في سياستها الداخلية أو الخارجية فإنّها مُستعدة لمساعدة تونس اقتصاديا والتغاضي عمّا يفعله الرئيس حتّى لا تحدث الفوضى فيها ولا ترتمي في أحضان الأعداء الجُدد (بالتحديد روسيا والصين).

وهذا كلّه يكشف المكانة المُهمّة لتونس في المشروع الأمريكي كقاطرة تربط بين قارة افريقيا وقارة أوروبا. فهل ستنجح السياسة الخارجية التونسية في كسر العُزلة الدولية المفروضة عليها بعد الإجراءات الاستثنائية التّي أقرّها الرئيس قيس سعيد. وربما الأهم من ذلك، أنه يبقى أن نرى كيف سيؤثر المسار الذي اتخذه سعيد على الأزمات الاقتصادية والسياسية في تونس، حيث ان قراراته القادمة ستضع مصير المواطنين التونسيين على المحك.