لا تتغير سياسات الدول الكبرى ومصالحها بين سنة وأخرى، والأرجح أن المواقف التي تبنتها تستمر من عام لآخر ما لم يحدث تغيير حاسم في توجهات النخبة الحاكمة فيها. ولذا، فإن سياسات هذه الدول تجاه منطقة الشرق الأوسط في عام 2023، سوف تكون على الأرجح استمراراً لتلك التي تبلورت في عام 2022، وذلك في ضوء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير الماضي، والمواقف المتباينة التي اتخذتها دول المنطقة تجاه التداعيات التي أوجدتها الحرب.
فلم يؤدِ نشوب الحرب الأوكرانية ومشاركة الدول الكبرى فيها بأشكال مباشرة وغير مباشرة، إلى انخفاض اهتمامها بدول المنطقة وقضاياها، بل على العكس اتسمت سياساتها بالتنافس وسعي الطرفين الغربي والروسي إلى كسب تأييدها. وعلى الأرجح أن تستمر هذه السياسات طالما استمرت الحرب الأوكرانية ولم يتم الوصول إلى حل تفاوضي، أما إذا انتهت الحرب بانتصار حاسم لأحد الطرفين - وهو احتمال غير وارد- فسوف تشهد تلك السياسات تغيرات جوهرية.
وفي هذا الإطار، يهدف هذا المقال إلى عرض أهم الاتجاهات المتوقعة لسياسات الولايات المتحدة وروسيا والصين تجاه الدول العربية وإيران وتركيا وإسرائيل في عام 2023، وذلك في ظل افتراض استمرار القتال في أوكرانيا حتى وإن خفت حدته من وقت لآخر. والعنصر الحاسم في هذا الافتراض، هو استمرار العقوبات الاقتصادية على روسيا، وعدم وقف إطلاق النار أو بدء عملية تفاوضية.
الولايات المتحدة:
إذا بدأنا بالولايات المتحدة باعتبارها الحليف أو الشريك الاستراتيجي لأغلب دول الشرق الأوسط، فإن التغير الرئيسي الذي طرأ على محددات سياساتها الخارجية هو فوز الحزب الجمهوري بأغلبية مقاعد مجلس النواب ومدى إمكانية تأثير ذلك على توجهات السياسة الأمريكية تجاه دول المنطقة، وذلك بحكم الدور الذي يقوم به المجلس في إقرار أي إنفاق في مجال السياسة الخارجية.
ومن المرجح أن تتحرك الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في عام 2023 على أربعة مسارات، وهي كالتالي:
المسار الأول، يتعلق بحلفائها التقليديين الذين تنوعت مواقفهم تجاه الحرب في أوكرانيا ولم يتبن أغلبها موقف التأييد الكامل للسياسة الأمريكية، وظهر ذلك في تصويتهم المتوازن في الأمم المتحدة، وفي خطابات قادتهم في قمة جدة التي حضرها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في يوليو 2022، ومواقف الدول العربية المنتجة للنفط في مجموعة "أوبك بلس"، مما استدعى أحياناً صدور انتقادات علنية من واشنطن تجاهها. ومن المتوقع أن تستمر واشنطن في تطوير علاقاتها مع الدول العربية الرئيسية، مثل مصر والسعودية والإمارات، التي تحسنت في نهاية عام 2022، والتي سوف تدعمها الأغلبية الجمهورية الجديدة. ويعني ذلك، تطوير العلاقات على نحو إيجابي وقبول مساحة من استقلالية مواقف هذه الدول.
ويؤكد ذلك عدم انتقاد واشنطن زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للسعودية، خلال الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر 2022، واجتماعه مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، وتعليق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، بأن الولايات المتحدة تتفهم أن كل دولة تتحرك وفقاً لمصالحها وأن واشنطن لم تفرض على أصدقائها الاختيار بينها وبين بكين. وهي لهجة تختلف عما أعلنه الرئيس بايدن في خطابه أمام قمة جدة، من أنه لا يوجد فراغ في المنطقة، وأن الولايات المتحدة لن تسمح لروسيا والصين بتوسيع نفوذهما فيها.
وسوف يستمر الاهتمام الأمريكي بعدد من الدول العربية، مثل الجزائر التي حرصت على كسب ودها في عام 2022، بالرغم من أنها شريك تقليدي لروسيا وتربطهما بها علاقات استراتيجية اقتصادية وعسكرية. ومع ذلك، فإن واشنطن ودول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا تنظر إلى الجزائر كدولة صديقة وتسعى لشراء الغاز منها. ويدل على ذلك أنه عندما أشاد الرئيس الروسي، بوتين، بها خلال استقباله للسفير الجزائري الجديد في 20 سبتمبر 2022، لم تترك واشنطن هذا التصريح من دون تعليق، ففي اليوم نفسه صرحت المسؤولة الأمريكية في وزارة الخارجية المكلفة بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بربارا ليف، بأن الجزائر شريك قوي للولايات المتحدة للسلم والاستقرار في المنطقة والقارة الأفريقية.
وعلى الأرجح أن تستمر واشنطن في اتباع هذه السياسة بالرغم من قلقها من تنامي علاقات الجزائر بإيران، والموقف تجاه "جبهة البوليساريو". وسوف تستمر واشنطن أيضاً في تحسين علاقاتها مع تونس والمغرب وموريتانيا، خصوصاً في ضوء تطور علاقات الرباط مع إسرائيل، ودور موريتانيا في الحرب ضد الإرهاب في غرب أفريقيا، وهو ما يُفسر دعوتها لحضور قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد في مايو 2022.
وفي السياق نفسه، من المتوقع استمرار الولايات المتحدة في اتباع دبلوماسية نشطة في لبنان لتنفيذ اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل والتي تمت بوساطة أمريكية، ولإقناع الأطراف اللبنانية للتوافق بشأن الرئيس الجديد. كما سوف تستمر واشنطن في التواصل مع الأطراف المدنية والعسكرية في السودان لتنفيذ اتفاق المرحلة الانتقالية الذي تم التوصل إليه في ديسمبر 2022، وتأييد الحكومة العراقية ضد الهجمات العسكرية الإيرانية والتركية على كردستان العراق.
المسار الثاني، هو ردع إيران لمنع قيامها بأي عمل عسكري ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، خصوصاً بعد فشل مباحثات فيينا لإعادة العمل بالاتفاق النووي، وإعلان طهران إجراء تجارب لصواريخ باليستية تفوق سرعتها سرعة الصوت. واتخذ هذا الردع عدة أشكال، منها دخول الغواصة النووية "USS West Virginia" بحر العرب في أكتوبر الماضي، وقيام قاذفات القنابل الاستراتيجية "B-52" بطلعة جوية في نوفمبر الماضي، وتصريح المبعوث الأمريكي إلى إيران، روبرت مالي، في أول ديسمبر 2022، بأن الرئيس بايدن مستعد لاستخدام الخيار العسكري لمنع إيران من حيازة السلاح النووي، وتحذير وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" الحرس الثوري الإيراني من اقتراب زوارقه الحربية من السفن الأمريكية في الخليج وبحر العرب.
وسوف يدعم سياسة الردع الأمريكي تجاه إيران، موقف إسرائيل التي سوف تحكمها في عام 2023 حكومة يمينية مُتطرفة؛ من الأرجح أن ترفع من نبرة تهديداتها باستخدام القوة المسلحة ضد طهران.
وعلى الجانب السياسي، من المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة والدول الغربية في استغلال التظاهرات الشعبية التي شهدتها عديد من المدن الإيرانية منذ شهر سبتمبر الماضي، وتُبرزها إعلامياً كدليل على عدم استقرار النظام الحاكم في طهران وتدهور شرعيته واستخدامه للقوة المُفرطة لاستمرار وجوده. وسوف تدعم واشنطن استمرار هذه التظاهرات وتوسيع نطاقها، على أمل أن يؤدي ذلك إلى أن يصبح النظام الإيراني أكثر هشاشة وضعفاً.
المسار الثالث هو تراوح العلاقة بين التوتر والتحسن مع تركيا، والذي تُشير الدلائل إلى احتمال وجود مزيد من التوتر في علاقات واشنطن بها في ضوء التهديد التركي في نهاية عام 2022 بشن حملة برية ضد المناطق الكردية في شمال تركيا؛ بدعوى تطهيرها من عناصر حزب العمال الكردستاني. وتعتبر واشنطن الأكراد، الذين تُمثلهم قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، حليفاً استراتيجياً لها ثبُتت جدارته في الحرب ضد تنظيم داعش. وفي مواجهة التهديد التركي، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية معارضتها لمثل هذا التهديد.
وجاء تجديد التوتر بين واشنطن وأنقرة بعد فترة من التقارب التي تمثلت في قرار الكونجرس بإلغاء القيود المفروضة على بيع طائرات "إف 16" إلى تركيا في أكتوبر الماضي، وفي زيارة وفد من وزارتي الخارجية والمالية الأمريكيتين لأنقرة في الشهر نفسه لبحث الملفات محل الخلاف بين البلدين. وسوف تظل العلاقات الأمريكية مع تركيا محل قلق بسبب سياسات الأخيرة إزاء الأكراد وتجاه اليونان وقبرص في شرق البحر المتوسط.
المسار الرابع المُتعلق بإسرائيل، فهُناك احتمال أن يظهر الخلاف بين الإدارة الأمريكية والحكومة اليمينية الجديدة في تل أبيب؛ بسبب الإجراءات التي يمكن أن تقوم بها الأخيرة تجاه الفلسطينيين في الأراضي المُحتلة، وزيادة النشاط الاستيطاني، وخلق العقبات أمام تطبيق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. ولكن سوف يظل هذا الخلاف ذو طابع إعلامي، ولن يؤثر على العلاقات الوثيقة بين البلدين، وسوف يُدعم من ذلك الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي.
روسيا:
من المتوقع أن تحافظ روسيا في عام 2023 على علاقاتها الودية مع أغلب الدول العربية، حيث إنها تُشيد بالموقف المتوازن الذي تبنته هذه الدول تجاه الحرب في أوكرانيا، خصوصاً عدم مشاركتها في توقيع عقوبات اقتصادية على موسكو. وسوف تستمر زيارات الوفود الحكومية والبرلمانية الروسية للدول العربية، مع إبراز الدور الروسي كعامل استقرار في المنطقة، ومنها تصريح وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بأن الوجود العسكري الروسي في جنوب سوريا "عامل استقرار في هذه الظروف"، وذلك خلال زيارة وزير الخارجي الروسي، سيرغي لافروف، لعمّان، في 3 نوفمبر 2022.
والأرجح أن تستمر موسكو في توثيق علاقاتها مع الدول العربية المُنتجة للنفط في مجموعة "أوبك بلس" والتنسيق معها بشأن إنتاج النفط. أيضاً، سوف تركز روسيا على الدول التي ترتبط معها بعلاقات تحالف وشراكة استراتيجية راسخة، مثل سوريا التي تمثل ركيزة مهمة لها في البحر المتوسط، والجزائر التي تعتبر الشريك التجاري الثاني لموسكو في أفريقيا، وتقوم الدولتان بمناورات عسكرية دورية مشتركة؛ كان أحدثها المناورات الجماعية "الشرق 2022" في سبتمبر الماضي والتي شارك فيها 14 دولة ومن أبرزها الصين والهند.
كما سوف تسعى روسيا لتنشيط دورها في الأزمة الليبية، خاصةً بعد اعتماد سفير ليبي جديد في موسكو في سبتمبر 2022، وتصريح الرئيس بوتين وقتها بأن موسكو سوف تعمل على حل المشكلة الليبية، والذي تبعه الإعلان عن فتح سفارتها في طرابلس في الشهر نفسه، وتصريح رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية الروسية بأنه تتم دراسة فتح قنصلية عامة في بنغازي؛ مما يبين رغبتها في التواصل مع مختلف الأطراف الليبية في الشرق (المشير خليفة حفتر ومجلس النواب) والغرب (مجلس الدولة وحكومة عبدالحميد الدبيبة).
وعلى الرغم من انشغالها بالحرب في أوكرانيا، فمن المرجح أن تحرص روسيا على إعطاء الانطباع بأنها ماضية في تنفيذ تعهداتها، مثل بناء أول مفاعل نووي للأغراض السلمية في مصر والذي تم الإعلان في سبتمبر الماضي عن بدء تصنيع أول وحدة من أصل أربع وحدات في الضبعة.
أما بالنسبة للدول غير العربية في المنطقة، فمن المتوقع استمرار علاقات التعاون الوثيق والتنسيق الروسي المستمر مع إيران. فيما تزداد العلاقات حرجاً مع تركيا؛ بسبب المشاكل المترتبة على الوجود العسكري التركي في محافظة إدلب، والغارات الجوية التركية على المناطق الكردية في شمال سوريا، وتهديد تركيا بإطلاق حملة برية لتأمين حدودها. وظهر ذلك في قيام الطائرات الروسية بشن هجمات في المناطق التي تسيطر عليها فصائل وميليشيات مؤيدة لأنقرة، والتي شملت مدينتي عفرين وإعزاز وشمال غرب حلب في أكتوبر 2022. وإن كان يُخفف من تداعيات هذه الخلافات، الدور الذي تقوم به تركيا في مسألة تصدير الحبوب، وكوسيط بين روسيا وأوكرانيا.
أيضاً، ستستمر التوترات الروسية مع إسرائيل؛ بسبب تهديداتها بالقيام بعمل عسكري ضد إيران، وهجماتها العسكرية في سوريا، ولكن ليس من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى قطيعة بين موسكو وتل أبيب في 2023.
الصين:
يبدأ عام 2023 بعد أسابيع قليلة من الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، في 7 و8 و9 ديسمبر 2022، ولقائه عدداً كبيراً من القادة العرب على المستوى الثنائي، وفي إطار اجتماعي قمة التعاون الخليجي والدول العربية، والتي وصفها بأنها نقطة فاصلة في العلاقات بين الطرفين الصيني والعربي. وعلى الأرجح أن زخم هذه الزيارة سوف يظهر في العام الجديد من خلال الاتصالات بين الطرفين لتنفيذ الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي أُبرِمت خلال الزيارة، وسوف تكون الأولوية في هذا الشأن للموضوعات المتعلقة بتنمية التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا، وسوف يسعى الجانب العربي للاستفادة من تطور العلاقات الوثيقة مع بكين واستعدادها لتوثيقها في إطار "مبادرة الحزام والطريق". وسوف يتحقق ذلك في سياق تأكيد الدول العربية على مصالحها الوطنية ورغبتها في التواصل مع أكثر من قُطب دولي، وتوسيع مجال حريتها في السياسة الخارجية.
وفي المقابل، سوف تكون الصين حريصة على هذا التوجه لدعم وجودها في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وأنها تستطيع تطوير علاقاتها مع هذه الدول بالرغم من التحفظ الأمريكي. وبالتأكيد، فإن هذا التقارب الصيني - العربي لا يريح واشنطن، وسوف تسعى إلى تعويقه بكل السُبل المُتاحة لديها بما فيها تخويف الدول العربية من استخدام التكنولوجيا الصينية في مجال الاتصالات باعتباره تهديداً لأمنها القومي، والتحذير من مغبة الاقتراض الواسع من بكين، والتهديد بممارسة الضغوط السياسية المباشرة.
ومن المتوقع أن يشهد عام 2023 في بكين والعواصم العربية، البحث في تطبيق ما تم الاتفاق عليه خلال زيارة الزيارة الرئيس الصيني، والتي ظهرت في البيان السعودي - الصيني المشترك، وفي الأولويات التي حددها الرئيس شي في خطابيه، سواء في قمة مجلس التعاون الخليجي أو قمة الدول العربية.
ومن ناحية أخرى، تربط الصين بإيران اتفاقية للشراكة الاستراتيجية في عام 2017، ومن المرجح أن تستمر العلاقات الوثيقة بين البلدين بشكل مضطرد في العام الجديد. أما إسرائيل، فمن المتوقع ألا تكون راضية عما نص عليه البيان الصيني - العربي المشترك، والذي أشار إلى مركزية القضية الفلسطينية وأن حلها يكون على أساس مبدأ الدولتين، وبطلان الممارسات الإسرائيلية الرامية لتغيير الوضع في القدس، وعدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وإن كان ليس من المُتصور أن يؤدي ذلك إلى تغيير في العلاقات النوعية بين الصين وإسرائيل.