تثير نتائج القمة الأميركية-الإفريقية، التي انعقدت في واشنطن خلال الفترة ما بين 13-15 ديسمبر/كانون الأول 2022 بحضور ممثلي 49 دولة من بين 54 دولة إفريقية، العديد من التساؤلات؛ فهي القمة الثانية بعد انقطاع لمدة ثماني سنوات عن القمة الأولى في سنة 2014، كما أنها تأتي بعد فترة فراغ ميزت سياسة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، تجاه القارة، التي أهملها ونعت دولها بـ"القذرة"، وهو الفراغ الذي استغلته قوى منافسة، مثل الصين، لترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، التي عانت دولها من تداعيات أزمات حادة، من أبرزها تأثيرات أزمة كوفيد 19، ثم وطأة الحرب الروسية-الأوكرانية التي وضعت الأمن العالمي على المحك، وعمَّقت من حدة الصراع الدولي بين أميركا وأوروبا، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى.
في هذا السياق، تكشف نتائج قمة واشنطن عن مفارقات؛ فمن جهة أولى، تتماشى تلك النتائج مع أهداف ومضامين الإستراتيجية الأميركية الجديدة في إفريقيا جنوب الصحراء المعلن عنها في أغسطس/آب 2022. ومن جهة ثانية، فإن الالتزام الأميركي تجاه إفريقيا يظل متقلبًا؛ إذ طالما أعلنت الإدارات الديمقراطية عن مبادرات ومشاريع استثمارية واقتصادية منذ سنة 1998، لكن الإدارات الجمهورية لا تلتزم بما هو معلن عنه في الغالب، وتفضل التركيز على أولويات الأمن والغاز، ما يجعل من تلك المبادرات المعلنة متقطعة، والدليل على ذلك الانقطاع المديد بين القمة الأولى والثانية لمدة تزيد على ثماني سنوات.
أدت تلك المفارقات إلى تعميق الشعور بعدم الثقة في الوعود الأميركية، ويبدو أن إدارة بايدن تدرك ذلك، فقد تحدث أكثر من مسؤول أميركي عن الرغبة في استعادة النفوذ من خلال "تضييق فجوة الثقة" بين أميركا ودول القارة، التي تضررت على مدى سنوات بفعل حالة الإحباط المتولدة عن سياسات إدارة ترامب، إلى جانب الرغبة في إظهار قدراتها أمام الصين التي تعد الشريك التجاري الأول للقارة في العالم. وبين الرغبة الأولى والثانية، ثمة حقائق لا يمكن إغفالها، فقد استعملت أميركا القارة لمكافحة الشيوعية طيلة الحرب الباردة، ثم استعملتها لمكافحة الإرهاب خلال العقود الثلاثة الماضية، ويبدو أنها بصدد محاولة استغلال القارة مرة أخرى بدعوى مواجهة الصعود الصيني، لأنه "يمكن أن يكون مزعزعًا للاستقرار". في ضوء كل ذلك، تسعى هذه الورقة إلى أمرين: الأول: تحليل أهداف إدارة الرئيس بايدن من وراء الإستراتيجية الأميركية الجديدة في القارة، أخذًا بعين الاعتبار تقلبات الموقف الأميركي بين القمتين، الأولى والثانية. الأمر الثاني: فحص الادعاءات الأميركية حول التهديد الصيني في إفريقيا وخلفياتها.
أولًا: أهداف إستراتيجية بايدن في إفريقيا: تمتين النفوذ
تسعى إدارة بايدن إلى تمتين النفوذ الأميركي في إفريقيا، من خلال تجاوز سياسة الإهمال والتجاهل التي ميزت سياسة سلفه، دونالد ترامب، تجاه القارة، والذي قدم وعودًا براقة في مبادرة "ازدهار إفريقيا"، لكنه لم يلتزم بها على مستوى الممارسة. ومن نتائج سياسة الإهمال تلك، تراجع النفوذ الأميركي في القارة على أكثر من مستوى؛ دبلوماسيًّا، لم يزر ترامب القارة طيلة فترة رئاسته، ولم يستقبل سوى ثلاثة من رؤسائها، وأهمل تعيين السفراء، في الوقت الذي وصفها بـ"القارة القذرة". عسكريًّا، عمل ترامب على الحد من الوجود العسكري الأميركي في القارة السوداء، بل سحب قوات أميركية من الصومال في يناير/كانون الثاني 2021، كما حاول تخفيض التمويل الأميركي لعمليات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي؛ أما على المستوى الاقتصادي، فقد تراجع حجم التبادل التجاري بين أميركا وإفريقيا من 41 مليار دولار في عام 2018، بعدما كان 100 مليار دولار في عام 2008، وانخفاض حجم الاستثمار الأميركي المباشر في إفريقيا من 50.4 مليار دولار في عام 2017 إلى 43.2 مليار دولار في عام 2019، بانخفاض قدره 14%.
أتاحت سياسة التجاهل التي اعتمدها ترامب في علاقة أميركا بإفريقيا، الفرصة للصين -وقوى دولية أخرى مثل روسيا والهند وتركيا- لتوسيع نفوذها، وملء الفراغ الأميركي. على سبيل المثال، أظهرت الصين التزامًا قويًّا تجاه إفريقيا. ومنذ سنة 2000، تنعقد القمة الصينية-الإفريقية كل ثلاث سنوات، وفي آخر قمة انعقدت سنة 2018 وعدت الصين إفريقيا باستثمارات تناهز 60 مليار دولار، علمًا بأن الإحصائيات الصينية أشارت إلى أنه خلال الفترة ما بين 2009 و2021 فاق حجم التبادل التجاري بين الطرفين نحو 207 مليارات دولار، بارتفاع سنوي يفوق 37%، فيما بلغ الاستثمار الصيني المباشر 2.59 مليار دولار، بزيادة سنوية تناهز 10%، وقد وجهت بكين 45% من مساعداتها الخارجية -وقيمتها 42 مليار دولار خلال الفترة ما بين 2013 و2018- نحو إفريقيا في شكل منح وقروض بدون فوائد، كما تقوم نحو 200 شركة صينية باستثمار يفوق 1.11 مليار دولار في القطاع الزراعي في 35 دولة إفريقية، في حين تجاوزت الاستثمارات المباشرة لمجموع الشركات الصينية في إفريقيا، وعددها 3500 شركة على الأقل، 43 مليار دولار.
لا شك أن الولايات المتحدة الأميركية تريد اللحاق بالركب الصيني في إفريقيا، وقد أبدى الرئيس بايدن اهتمامًا متزايدًا بالقارة السمراء، ففي ديسمبر/كانون الأول 2021، دعت إدارته، في أول مبادرة لها، إلى قمة افتراضية حول الديمقراطية، استدعيت إليها 18 دولة إفريقية فقط من بين 110 دول عبر العالم. أما في أغسطس/آب 2022، فقد أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، عن إستراتيجية جديدة للولايات المتحدة الأميركية تجاه إفريقيا جنوب الصحراء، تسعى إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية: تعزيز مجتمعات عادلة ومنفتحة، وتشجيع الديمقراطية ورفع التحديات الأمنية، ودعم جهود التعافي الاقتصادي من تأثيرات كوفيد19، ودعم برامج الشراكة في البنية التحتية والاستثمار، وتشجيع مواجهة التغيرات المناخية ودعم النظم البيئية والطاقة الخضراء. وتندرج القمة الأخيرة، التي استدعيت إليها 49 دولة من بين 54 دولة إفريقية، ضمن مساعي إدارة بايدن لتجديد الالتزام الأميركي تجاه إفريقيا، بما تعانيه من تحديات وتمثله من فرص.
وقد أسفرت أشغال القمة الثانية عن نتائج سياسية وأخرى اقتصادية؛ تتمثل النتائج السياسية في الوعود التي قدمها الرئيس الأميركي للقادة الأفارقة، بحيث أكد أن بلاده ستكون "حليفًا أساسيًّا" للقارة، ودعم مبادئ الديمقراطية والحكامة وحقوق الإنسان، وتعزيز دور الاتحاد الإفريقي في بناء السلم والأمن العالميين، من خلال منحه العضوية الدائمة ضمن مجموعة العشرين (G20)، ومقعدًا دائمًا لإفريقيا في مجلس الأمن الدولي، في الوقت الذي عيَّن مبعوثًا أميركيًّا مكلفًا بتنسيق السياسات الأميركية في إفريقيا. وبخصوص النتائج الاقتصادية، فقد تعهدت أميركا بتقديم 55 مليار دولار للقارة في شكل استثمارات وقروض ومساعدات، على مدى السنوات الثلاث المقبلة، والتوقيع على مذكرة تفاهم لإنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم باستثمارات تفوق 3.5 مليارات دولار، علاوة على تمويلات أخرى لعدة مبادرات تتعلق بالشباب والديمقراطية، والأمن الغذائي، والمشاريع الصحية، والتحول الرقمي، ومحو الأمية، والطاقة، والمناخ.
لكن تبدو وعود إدارة بايدن متواضعة مقارنة بالتحديات التي تواجه القارة، فضلًا عن أنها لن تكفي حتى لتلبية الاحتياجات الأساسية المتزايدة لـ 54 دولة إفريقية؛ ذلك أن 55 مليار دولار تعني مليار دولار فقط لكل دولة على مدى ثلاث سنوات، علمًا بأن مسطرة اعتماد تلك المساعدات لم تكتمل، ولا تزال تتطلب موافقة الكونغرس الذي يقوده الحزب الجمهوري، كما لا توجد ضمانات على استمرارية تمويل وتنفيذ المبادرات المعلنة في حالة تغيرت الإدارة الأميركية وعاد ترامب أو شبيه له إلى الرئاسة الأميركية. ولعل الدليل الأقوى على ذلك أن الإستراتيجية الجديدة لا تدعو إلى إطلاق مبادرات أو برامج تنموية جديدة، بل تعيد تسليط الضوء فقط على مبادرات كانت موجودة من قبل، مثل مبادرة "ازدهار إفريقيا" و"طاقة إفريقيا" و"إطعام المستقبل"، وتسعى إدارة بايدن إلى إعادة تنشيطها لتكون فعالة ومنتجة أكثر في واقع الأفارقة.
ثانيًا: شيطنة الوجود الصيني
خلال أشغال القمة الأميركية-الإفريقية، جاء التحذير الأميركي صراحة من تنامي النفوذ الصيني في القارة، باعتباره "تهديدًا للاستقرار"، كما ادعى ذلك وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن. لا يتعلق الأمر بخطاب جديد خاص بهذه القمة، بل بجزء من إستراتيجية أميركية شاملة تسعى إلى تقويض الصعود الصيني في إفريقيا والعالم، باعتبارها منافسًا بل تهديدًا للقيادة الأميركية للعالم، وهو معطى بات معلومًا، وتؤكد عليه وثائق رسمية أميركية مثل إستراتيجية الأمن القومي للإدارات الثلاث الأخيرة: إدارة باراك أوباما، وإدارة دونالد ترامب، ثم إدارة جو بايدن، مثلما تؤكد عليه كتابات أكاديميين أميركيين، أمثال جون ميرشايمر، المنظِّر الرئيسي لـ"حتمية التنافس" الأميركي-الصيني.
لا شك أن الغرب، سواء الأوروبي أو الأميركي، قد جعل من شيطنة الوجود الصيني في إفريقيا قضية مركزية في خطابه السياسي والإعلامي، مستعملًا حُججًا أساسية مفادها أن الصين تغرق الدول الإفريقية فيما تسميه الديون، التي تستعملها للسيطرة على الموجودات والأصول من موانئ ومطارات وحقول نفط وأراضي للزراعة، وهو ما ترى فيه القوى الغربية استعمارًا صينيًّا جديدًا لإفريقيا، والنموذج البارز لهذه السياسة الصينية، ما بات يسمى بـ"نموذج أنغولا" القائم على القروض مقابل الموارد أو "فخ الديون".
لكن، لا يبدو الخطاب السياسي الغربي حول "فخ الديون" الصينية لإفريقيا جادًّا وموضوعيًّا، فقد كشف تقرير صادر عن مؤسسة "عدالة الديون Debt Justice" البريطانية، يستند إلى بيانات البنك الدولي، أن 12% فقط من الديون الخارجية للحكومات الإفريقية مستحقَّة لمقرضين صينيين، مقارنة بـ35% مستحقة لمقرضين من القطاع الخاص الغربي، بحيث إن الديون التي تملكها بنوك غربية ومديرو أصول وتجار نفط تبلغ ثلاثة أضعاف تلك التي قدمتها الصين حتى الآن لإفريقيا، والأدهى من ذلك أن الديون الغربية تعود على مقرضيها بضعفَي الفائدة مقارنة مع الفوائد التي يحصل عليها المقرضون الصينيون.
تكشف تلك المؤشرات لماذا لم يعد الخطاب الغربي المشيطِن للصين أو روسيا أو غيرهما يلقى التأييد المتوقع من لدن القادة والنخب الإفريقية، التي باتت تُنصت أكثر لمصالحها الحيوية، وقد أظهرت مواقف دول القارة من الحرب الروسية-الأوكرانية هذا المعطى بشكل بارز؛ حيث اختارت 26 دولة إفريقية، من أصل 54 دولة، الغياب أو الامتناع أو رفض مشروع القرار الذي قدمته أميركا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في فبراير/شباط 2022، قصد إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه أدى إلى انقسام واضح في المواقف بين الدول الإفريقية؛ ما أشعر أميركا وأوروبا بالقلق وخيبة الأمل، خصوصًا أنه أظهر بوضوح لا لبس فيه حجم تنامي النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا، وتأثيره على المواقف السياسية لدول القارة في المنتديات السياسية الدولية، وهي القارة التي كانت إلى عهد قريب تنساق وراء الأميركيين دون تردد.
من المؤكد أن النفوذ الصيني في إفريقيا في حالة تقدم مطرد، لكن لا يعني ذلك أن النفوذ الغربي في تراجع. ما هو واضح أن الغرب طالما اعتبر إفريقيا ساحته الخاصة، ويبدو أنه بات يشعر بالزحام الشديد والمنافسة الجدية من لدن قوى دولية صاعدة مثل الصين وتركيا وروسيا؛ ما يسمح للدول الإفريقية بحد أدنى من المناورة والقيام بحسابات عقلانية، أي إمكانية الاختيار بين العروض التي تقدمها القوى الكبرى، ومدى ملائمتها للمصالح الإستراتيجية الإفريقية، وهي المستجدات التي قد تدفع الغرب، تحديدًا، إلى مراجعة سياسة الإملاءات التي كان ينهجها تجاه القادة الأفارقة.
خاتمة
تشير مخرجات القمة الأميركية-الإفريقية إلى معالم تحول في السياسة الأميركية تجاه إفريقيا، وهو ما يؤكده الخطاب السياسي الصادر عن إدارة بايدن، التي عبَّرت عن التزامها بالتخلي عن سياسة الإملاءات تجاه إفريقيا، وتغيير مقاربتها من التركيز على حماية المصالح الأميركية إلى تقاسم المسؤوليات والمصالح، بحيث وعد بايدن في خطابه أثناء القمة بأن تكون أميركا حليفًا أساسيًّا لإفريقيا. لكن الإشكال أن الممارسة لا تعكس التحول المأمول، خصوصًا أن الإستراتيجية الأميركية لم تقدم أشياء جديدة، بقدر ما أعادت التركيز على المبادرات والمشاريع التي كانت قائمة، لكنها نتائجها ظلت محدودة التأثير في الواقع السياسي والاقتصادي الإفريقي.
من الواضح أن أميركا تفضل الاستمرار في التعامل مع قوى إقليمية حليفة لها، باعتبارها مفتاحًا للقارة، بما تتوفر عليه من موارد وفرص. ففي إفريقيا تحديدًا، تمارس أميركا القيادة العالمية بالتعاون مع القوى الحليفة لها، لكي تستطيع جني الفرص والمكاسب، دون السقوط في المشاكل التي تثقل القارة حتى الآن عن الانطلاق نحو العالمية. ويمكن القول: إن أميركا طالما ركزت، خلال العقدين الماضيين، على أولويات محددة: تأمين النفط وخطوط التجارة البحرية، ثم محاربة الإرهاب باعتباره ورقة للدخول إلى البيت الداخلي للدول الإفريقية. ومنذ العقد الأخير تحديدًا، أضافت الإدارات الأميركية التهديد الصيني إلى قائمة أجنداتها الإفريقية، وإنْ عبْر شعارات الازدهار والديمقراطية والشباب والتغير المناخي والطاقي.
وخلاصة القول: إن الإستراتيجية الأميركية الجديدة بقدر ما تركز على دعم التعاون وبناء شراكات طويلة الأمد مع إفريقيا؛ ما يجعلها نقطة تحول في السياسة الأميركية التي ركزت طيلة العقود الماضية على حماية مصالحها أكثر من تعزيز المصالح الإفريقية، بقدر ما يجب التريث في استنتاج أي خلاصات بشأنها، وانتظار مزيد من الوقت لنرى مدى جدية الإدارات الأميركية في تنفيذ إستراتيجيتها الجديدة، خصوصًا أنه من المرجح أن يكون ذلك بطيئًا جدًّا، لأن تغيير ممارسات عتيقة سيتطلب كثيرًا من الوقت ناهيك عن أنه عمل صعب.