• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقارير

كيف تدافع الهند عن نفوذها وقوتها الناعمة في العالم؟


أخذت الهند موقفاً مختلفاً عن القوى الغربية إزاء الحرب الروسية - الأوكرانية التي اندلعت في فبراير الماضي، فبرغم علاقات نيودلهي الوثيقة مع واشنطن بسبب تنافسها مع جارتها الصين، فلم تفرض عقوبات ضد موسكو التي تعد موردها الرئيسي من الأسلحة والطاقة. وانطلق هذا الموقف الهندي المحايد من المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لهذا البلد. فضلاً عن سياقات محلية، إذ تواجه نيودلهي تصاعداً في القومية الهندوسية، وتوتراً في علاقة رئيس الوزراء ناريندرا مودي مع المسلمين، بالتزامن مع نمو اقتصادي "هش" واستمرار معدلات الفقر في البلاد، وهي كلها عوامل تحد من مساحة للمناورة للهند في إدارة علاقاتها الخارجية.

في هذا السياق، يناقش معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS) أبعاد وتداعيات الموقف الهندي إزاء الحرب الروسية – الأوكرانية في بودكاست يجمع المحلل الاستراتيجي باسكال بونيفاس بالصحفي الفرنسي براديو فرنسا الدولي (RFI)، أوليفيه دي لاج. إذ يحاولان تفسير العلاقات الهندية مع روسيا والقوى الغربية، خاصة فرنسا، فضلاً عن ملامح تنافسها مع بكين، ناهيك عن مساعي الهند لتعزيز قوتها الناعمة.

حياد ومصالح مع روسيا:

تزداد أهمية الهند، كفاعل رئيسي على الساحة الدولية، إذ تسعى القيادة الحالية لنيودلهي إلى تعزيز مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي، لكنها اتخذت موقفاً حيادياً تجاه الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ يدعم القوميون الهندوس وبعض الجامعيين وقلة من السياسيين هذا الموقف منذ أن تبناه مودي. ويرى البعض هذا الموقف امتداداً لسياسة "عدم الانحياز" أو "الحياد الإيجابي" لنهرو منذ الاستقلال في عام 1947، والتي تقوم على مبدأ نبذ الارتباط بأي كتلة من الكتل المتصارعة وحل مشكلات المجتمع الدولي على أساس عدم الانحياز ووفقاً لمبادئ العدالة الدولية بهدف الوصول إلى تحقيق الأمن والسلام العالميين.

لكن الحقيقة أن موقف الحكومة الهندية الحالية قد يختلف عن حقبة نهرو، فسياسة مودي أكثر انفتاحاً، وتقوم على مبدأ بناء تحالفات مع القوى الكبرى وفقاً لما تقتضيه المصلحة الوطنية الهندية، وفي إطار سياسة "المواءمة المتعددة". فقد عبَّر رئيس الوزراء الهندي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في سمرقند في 15 و16 سبتمبر الماضيين، بأن "الوقت لم يكن مناسباً للدخول في حالة حرب"، لكن من دون أن يدين الغزو الروسي لأوكرانيا.

تعزز هذا الموقف المحايد في ظل امتناع الهند عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي، وهو ما قد يفسره التقليد السياسي الهندي بعدم الانحياز وكذلك العلاقات المتشابكة بين موسكو ونيودلهي. فلا تزال تشتري الهند نصف أسلحتها من روسيا، خاصة مع حرص مودي على الحفاظ على قدراته الدفاعية، وبناء علاقة مميزة مع موسكو من خلال مشاركة الجيش الهندي في مناورات "فوستوك" 2022 في الشرق الأقصى الروسي، يضاف لذلك الاعتماد الهندي الكبير على الطاقة الروسية بتكلفة منخفضة لتعزيز اقتصادها، ففي عام 2022، حلت روسيا محل السعودية كأكبر مورد للبلاد من الطاقة.

احتياج هندي غربي متبادل:

برغم المساعي الحثيثة التي بذلها الغرب لتغيير موقف الهند، رفض مودي إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، واكتفى بدعوة الطرفين إلى "العودة إلى طاولة المفاوضات" من دون تسمية المعتدي كي لا يثير غضب أي من طرفي النزاع، أي الولايات المتحدة والغرب عموماً من جهة، وروسيا من جهة ثانية. بالتالي، فشل الغرب في دفع نيودلهي للانضمام إلى العقوبات الدولية ضد موسكو، فقد كان الأوروبيون والأمريكيون يأملون، مع الحرب في أوكرانيا، في إقناع مودي بالنأي بنفسه عن روسيا، مورد السلاح الرئيسي وحليفه التاريخي.

مع ذلك، فالملحوظ أن الهند لم تدعم روسيا كلياً فقد أعربت عن بعض التحفظات أثناء قمة سمرقند - المذكورة سلفاً - على التحركات الروسية. وتبدو نيودلهي غير مستعدة لخسارة القوى الغربية في ضوء الاحتياج المتبادل لمواجهة الصين. ففي مواقف رسمية أخرى، انتقدت الهند روسيا جراء تهديدها الأمن الغذائي والاقتصادي للعالم النامي. وفي أغسطس الماضي، صوتت الهند ضد روسيا للمرة الأولى في سياق المسألة الأوكرانية، وأيدت اقتراح دعوة الرئيس زيلينسكي إلى مخاطبة مجلس الأمن عبر الفيديو.

وفي سياق علاقتها مع القوى الغربية، ترتبط الهند بعلاقات خاصة مع فرنسا تقوم على المصالح المشتركة، فهناك عقود طائرات رافال منذ 2016، فضلاً عن الزيارات الدورية بين البلدين لتعزيز العلاقات مع نيودلهي باعتبارها قوة رئيسية في جنوب آسيا. كذا، أصبحت منطقة المحيطين الهندي والهادئ من المجالات ذات الأولوية للعمل الدولي لفرنسا، حيث لا تزال الأخيرة تشعر بالغضب إزاء اتفاقية "أوكوس" AUKUS بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، التي كلفتها صفقة غواصات ضخمة واستبعادها من مناطق استراتيجية رئيسية. وتشكل نيودلهي وباريس اليوم محوراً مشتركاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فالهند تعد حليفاً استراتيجياً لفرنسا في منطقة المحيطين، حيث ترغب باريس في تقديم غواصات نووية للهند في مساعيها لتعزيز قوتها الدفاعية طبقاً لسياسة مودي.

محورية الهند في التنافس العالمي:

يأتي تمسك الهند بالحفاظ على علاقتها بروسيا انطلاقاً من رغبتها الملحة في منح موسكو بعض البدائل لتحجيم علاقات مع الصين. إذ تتنازع الهند والصين على الحدود في منطقة "لاداخ" الواقعة شمال جبال الهيمالايا منذ يونيو 2020. وساهمت هذه الأزمة في تعزيز تقارب نيودلهي مع بلدان عديدة لتقوية موقفها إزاء بكين، كالولايات المتحدة من خلال اتفافية أوكوس مع المملكة المتحدة وأستراليا في سبتمبر 2021 والتحالف الرباعي المعروف بالـ "Quad" مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان. فضلاً عن اشتراكها في مناورات عسكرية بحرية مع هذه التحالفات والتي تشكل قلقاً لبكين. وتبدو واشنطن متفهمة لموقف الهند تجاه روسيا، بيد أنه لا يوجد ما يضمن استمرارها في ذلك، وسيتعين على الهند حسم سياستها الخارجية.

وتتسم العلاقة بين الهند والصين بطابع تنافسي معقد، إذ حظرت نيودلهي تطبيقات صينية شهيرة مثل "تيك توك" في الهند، كما أٌبعدت شركات الاتصالات الصينية من شبكة الـ "جي 5" (الجيل الخامس) الهندية. كذلك لم يلتق مودي بشكل ثنائي بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، على هامش قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في سبتمبر الماضي، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي لا يجتمع فيها قادة البلدين على هامش القمة، ناهيك عن رفض الهند الانضمام إلى اتفاقية "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ". مع ذلك، فإن البلدين تحتفظان بعلاقات تعاونية بين الخصوم، على صعيد التبادلات التجارية الثنائية وإن كانت معدلات نمو تجارة الهند مع الصين قد انخفضت بنحو 15% خلال العام الماضي، كما أنهما يتعاونان في منتديات البريكس ومجموعة العشرين.

القوة الهندية الناعمة:

في سياق متصل، ناقش البودكاست أيضاً دور القوة الناعمة للهند في تعزيز دبلوماسيتها الخارجية في عهد مودي، وفي هذا الإطار هناك العديد من الأدوات المرتبطة بالقوة الناعمة الهندية، ويمكن عرض أبرزها على النحو الآتي:

- الأفلام: جذبت صناعة السينما الهندية المشاهدين في جميع أنحاء العالم، حيث تُقيم بوليوود علاقات قوية مع وزارة الخارجية الهندية، للمساعدة في صياغة السياسة الخارجية للبلاد، وتحسين صورة الهند في الخارج عن طريق تصدير المنتجات الثقافية الهندية، فعلى سبيل المثال، فبعد حرب كارجيل عام 1999، أنتجت الهند وباكستان عِدة أفلام مُشتركة بهدف استعادة السلام والوئام بين البلدين.

- اليوغا: هي أداة رئيسية أخرى للقوة الناعمة الهندية، حيث تتمتع بملايين الممارسين المتحمسين في جميع أنحاء العالم. ففي عام 2014، نجح مودي في الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بيوم 21 يونيو باعتباره اليوم العالمي لليوجا، وذلك لإبراز صورة الهند كدولة مسالمة تمتنع عن العدوان، ويستخدم مودي الدبلوماسية البوذية لتحقيق أهداف سياسته الخارجية الاستراتيجية والاقتصادية، والتي من أهمها موازنة القوة الناعمة الصينية، وتعزيز السياحة الدينية في الهند.

- الشتات الهندي: وهو أحد المحددات الرئيسة لدبلوماسية القوة الناعمة في الهند، حيث يلعب الشتات الهندي دوراً مهماً في تحسين العلاقات الهندية الأمريكية من خلال الضغط على السياسيين الأمريكيين، كما يقدم صورة إيجابية عن نيودلهي للجمهور الأمريكي، كما قدمت تكنولوجيا المعلومات المرتبطة بهذا الشتات في "وادي السلكون"، على سبيل المثال، مساهمتها الخاصة في القوة الناعمة للهند.

منذ عام 2014، عمدت حكومة مودي إلى تخصيص استثمارات كبيرة لتعزيز قدرات الهند في مجال دبلوماسية القوة الناعمة، بما في ذلك زيادة عدد السفارات في الخارج، وإحياء العلاقات مع التجمعات الإقليمية، مثل الآسيان وتكثيف العلاقات الاستراتيجية والثقافية والدبلوماسية والاقتصادية مع دول شرق وجنوب آسيا. وقد تستغرق هذه الجهود بعض الوقت حتى تحقق التطلعات الهندية، وتترجم الشراكات والعلاقات الخارجية إلى فوائد تجارية واستراتيجية.

ختاماً، لا شك أن الهند باتت تمثل عملاقاً كبيراً في النسق الدولي الراهن، بحجمها وسكانها واقتصادها وتأثيرها السياسي والثقافي، لكن هذا لا يعني أنها أصبحت قوة عظمى، حيث لا تزال نيودلهي في طور النمو في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، كما أن محددات القوة الهندية تتسم بدرجة من الهشاشة، وتحتاج إلى مزيد من التحركات لتعزيز قوتها الدولية، فضلاً عن حاجتها إلى الاستمرار في مواءمة علاقاتها الخارجية بما يخدم تطلعات نيودلهي.