يشهد المجال الجيوسياسي بعض التحولات المتسارعة في ظل الأزمات الطارئة التي تواجهها الدول، والتي تدفعها إلى طرح مقاربات جديدة للتعاطي معها، ناهيك عن صك بعض المفاهيم الجديدة القادرة على تفسير التحولات الجيوسياسية القائمة، وكذلك تحديد مسارات تعامل الدول مع التهديدات الخارجية. وفي هذا السياق، نشر موقع "فورين بوليسي" الاميركي، تقريراً بعنوان "تغير اللغة: ما أبرز المفردات الجيوسياسية الجديدة؟"، لإميلي تامكين، وهو التقرير الذي يتناول عدداً من المفردات الجيوسياسية الجديدة.
مفاهيم جديدة
يشير التقرير إلى عدد من المفاهيم الرئيسية تتمثل فيما يلي:
1– التحول التاريخي: استخدم المستشار الألماني أولاف شولتز مصطلح "تحول الزمن"، خلال خطاب ألقاه في أواخر فبراير الماضي، لوصف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا والعواقب التي ستتبعه؛ فلقد كان شولتز ينذر بما يمكن أن يكون تحولاً في السياسة الألمانية؛ حيث ستزيد برلين الإنفاق العسكري، وتُعلِّق التصديق على خط أنابيب نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب من روسيا عارضته أوكرانيا لفترة طويلة. في الأشهر التي تلت ذلك، تساءل المراقبون إذا ما كانت السياسة الألمانية قد تغيرت كثيراً بالفعل، ولكن كما أوضح مقال في هذا الصدد، أعلن شولتز عن اتجاه جديد لألمانيا، ثم تباطأ في إحداث تقدم يُذكر.
2– مساندة الأصدقاء: تصف صحيفة "نيويورك تايمز" الاميركية مصطلح "مساندة الأصدقاء" بأنه ممارسة لنقل سلاسل التوريد إلى البلدان التي يكون فيها خطر الاضطراب الناجم عن الفوضى السياسية منخفضاً، في حين تصفه بلومبرغ بأنه يُشجع الشركات على تحويل التصنيع بعيداً عن الدول الاستبدادية ونحو الحلفاء. بشكل عام، انتشر ذلك المصطلح بصورة كبيرة منذ بداية جائحة كورونا، ولكن مع استمرار الولايات المتحدة والصين في الانفصال – خاصةً فيما يتعلق بالتكنولوجيا – فليس من المُستبعَد أن يصبح أكثر شيوعاً في القطاع الخاص أيضاً.
3– الردع المتكامل: يبدو أن الردع المتكامل يقع في قلب استراتيجية الدفاع الوطني التي طال انتظارها لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ حيث يعتبر الردع المتكامل – وفقاً لساشا بيكر نائبة وكيل وزارة الدفاع الأمريكية للسياسة – بمنزلة إطار للعمل عبر مجالات الحرب والصراعات المختلفة مع أدوات القوة المختلفة، وكذلك جنباً إلى جنب مع الحلفاء والشركاء. وعلى الرغم من أن بعض الخبراء قد صدقوا على ذلك، فإنه هناك آخرون نظروا إلى تلك السياسة على أنها تُعد تذكيراً مفيداً بضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة نظرة أكثر شمولية للنزاعات، بالإضافة إلى مناهج كيفية حلها.
4– تهديد السرعة: يعود مصطلح "تهديد السرعة" إلى عام 2021 على الأقل؛ عندما ذكره وزير الدفاع الأمريكي الآن لويد أوستن في جلسات الاستماع الخاصة بترشيحه؛ حيث يأتي تهديد السرعة من منافس يحرز تقدماً نحو القدرة على تحدي الدفاع الأمريكي. ولقد اكتسب ذلك المصطلح زخماً طوال عام 2022، نظراً لاستمرار العديد من الإدارات والمؤسسات الأمريكية في استخدامه لوصف علاقة الصين بالولايات المتحدة.
5– تعددية الأزمات: لقد نشر الكاتب آدم توز، بصحيفة "فورين بوليسي" الاميركية، مقالاً يشير إلى تفاعل واندماج العديد من التهديدات في آن واحد، فيما يمكن تسميته "الأزمة المتعددة أو تعدد الأزمات المتزامنة"؛ حيث تتضمن الأزمة المتعددة، وفقاً لـ"توز"، مخاطر متعددة ومركبة عندما يصطدم بعضها ببعض، يمكن أن تؤدي إلى تصعيد الأمور؛ ما يخلق تهديدات أكبر من أي خطر فردي تشكله أزمة فردية. بعبارة أخرى، فإنها ليست مجرد موقف تواجه فيه أزمات متعددة، بل "حالة يكون فيها الكل أكثر خطورة من مجموع الأجزاء". يبدو أن عام 2022 هو خير مثال على تلك الحالة.
6– الغسيل الرياضي: في سبيل تحسين الصورة السيئة، قد يستضيف فرد أو جماعة أو شركة أو دولة، حدثاً رياضياً، أو شراء أو رعاية فرق رياضية، أو حتى المشاركة في الرياضة نفسها، فيما يمكن تسميتها استراتيجية "الغسيل الرياضي"؛ إذ تعتبر هذه الاستراتيجية إحدى الآليات التي تستخدمها الدول لتعزيز قوتها الناعمة وحضورها على الساحة العالمية.
ختاماً، بالرغم من طبيعة المشكلات والتحديات التي تواجهها الدول خلال السنوات الأخيرة، والتي تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد والتشابك، فإن المفاهيم المطروحة ربما تقدم مدخلاً ما لفهم ديناميات العلاقات بين الدول؛ فمن جهة أولى، تستدعي هذه المفاهيم حالة الصراع الأوكراني، وكيف يدفع بعض القوى الدولية، مثل ألمانيا، إلى إعادة التفكير في سياساتها الخارجية، ومحاولة إعادة صياغة دورها الخارجي والخروج من أسر القيود التي فُرضت عليها عقب الحرب العالمية الثانية. ومن جهة ثانية، تستدعي بعض هذه المفاهيم حالة التنافس على قيادة النظام الدولي بين الولايات المتحدة والصين، وانعكاساتها على سياسة واشنطن الخارجية. ومن جهة ثالثة، تحاول بعض المفاهيم – وبالأخص مفهوم الغسيل الرياضي – إلقاء الضوء على سياسات بعض الدول لتعزيز قوتها الناعمة وترميم صورتها الخارجية في مواجهة الانتقادات الحادة.