تلعب إسرائيل بصفتها قوة الاحتلال والاستعمار في فلسطين دوراً مؤثرا في حياة الفلسطينيين وفي نضالهم أيضا، خصوصاً أن مجمل العمل السياسي والنضال الفلسطيني موجه ضد إسرائيل ومرتبط بسياساتها بطريقة ما، لكون إسرائيل هي المتحكم بحياة الفلسطينيين، وهي الجانب الأقوى في موازين القوى في هذا الصراع الممتد لعقود. وهذا لا ينفي أن هناك عملاً فلسطينياً مبادراً كان مركزيا في علاقة الأخذ والرد بين الاحتلال الإسرائيلي والعمل النضالي الفلسطيني من حيث تأثيره أيضا، إلّا أن هذه الورقة ستركز على سياسات وأدوار إسرائيل ودورها وتأثيرها على النضال الفلسطيني، خصوصاً أن إسرائيل بشكل واع أو غير مباشر قامت بتحديد بعض منطلقات وردود أفعال الطرف الفلسطيني، وهو مما ستتناوله الورقة في سياق رؤية تراجع تجربة الماضي والمنطلقات الحالية للسياسات الإسرائيلية محل الاهتمام، وإلى أين تتجه في المستقبل. ومن المهم في هذا السياق التأكيد على أنه لا يمكن الحديث عن علاقة سببية ومباشرة بين السياسات الإسرائيلية وشكل وطريقة النضال الفلسطيني، ولكن بنفس الوقت لا يمكن نفي وجود هذا الدور الإسرائيلي وتأثيره في تشكيل شكل الرد والنضال الفلسطيني.
وتؤكد الورقة أن المنطلق والمرجع الأساسي للسياسة الإسرائيلية، كان وما زال هو القوة والإخضاع (وبتسميات زئيف فلاديمير جابوتينسكي "الجدار الحديدي"). وكان يترافق مع سياسات إضافية أخرى، على صعيد فلسطينيي الداخل هي الضبط والسيطرة "والإدماج". وعلى صعيد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة تجلت في الحل السلمي المرحلي مقابل: الهدوء، حفظ "أرض إسرائيل الكاملة" بفرض وقائع على الأرض، الارتباط وفكه ضمن معادلة الأمن بأقل تكلفة، وأخيراً السلام الإقليمي وتحييد القضية الفلسطينية. وكل هذه السياسات منطلقة من ثلاثة ركائز هي أمنية، أيدلوجية ومقياس الربح والخسارة. وهذه السياسات ساهمت وتساهم في ردود أفعال فلسطينية وحددت وتحدد طريق ومسار النضال الفلسطيني.
وإن كانت هذه الورقة ستناقش السياسات الإسرائيلية على صعيد الفلسطينيين في الضفة الغربية، غزة والداخل الفلسطيني (عام 48)، فإنها ستركّز بشكل أكبر على السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل، لكونها كانت سياسات تأسيسية في تعاملها مع الفلسطينيين لأنهم يقبعون تحت حكمها المباشر منذ عام 1948.
جدلية الصراع بين إسرائيل والنضال الفلسطيني
تهدف السياسات الاستعمارية، كما هي في الحالة الإسرائيلية وفي السياق الفلسطيني، إلى الاستفادة من مقدرات وطن الآخرين محل الاستعمار، ونقلها لسكان آخرين وإحلالهم في هذا الوطن بدلا من سكانهم الأصليين. تعمل السياسات الإسرائيلية على تجسيد مفهومها الاستيطاني من خلال الفصل بين مجموعة الشعب الأصلي والمجموعة المهاجرة المستوطنة، مع سياسات تتسم بالحصر والتضييق للأول والتوسعة للأخير، وبالتالي لا تألوا القوى المستعمرة في صنع سياسات لتضمن تفوقها وسيطرتها. هذه السياسات تتخذ أدوات تطبيقية مختلفة ولكن يقع في محورها "التفوق بالقوة". كما تتميز حالة الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين ببعد أيدلوجي وترتبط سياساته بمحفزات دينية وقومية، تتجاوز المكاسب المادية التي تميّزت بها قوى الاستعمار الأخرى، فالحالة الإسرائيلية تسعى لتثبيت قوتها ودورها وسيطرتها، وأحيانا على العكس، تعمل على التخلص من أعباء مسؤوليتها كقوة احتلال عندما تشعر بثقل هذا العبء.
إن حجر الرحى في التعامل الإسرائيلي وبنائه لسياساته، بغض الطرف عن المكوّن الحزبي الذي يدير المؤسسة السياسية الإسرائيلية، هو الأمن، وهذا لا يمنع أن العامل الأيدلوجي هو محدد مركزي خصوصاً عند أقطاب اليمين، وبشكل أخص في الجزئيات ذات البعد الديني أو القومي، مثل: قضية القدس أو الاستيطان في الضفة الغربية. إن بُعد الأمن محل إجماع عند مختلف التيارات الإسرائيلية، وإن اختلفت منطلقاته والنظرة لمآلاته، ويعتمد على القوة العسكرية والقدرة على سحق العدو انطلاقاً من فكرة أن الفلسطينيين لن يرضوا بالاستعمار الذي تقوده الحركة الصهيونية في أرض فلسطين وفق نظرية "الجدار الحديدي"، التي أصّل لها جابوتينسكي، أحد أبرز منظري الصهيونية وأب اليمين الإسرائيلي. وهذا يعني أن النظرة الأمنية لم تكن حكراً على اليمين بل كذلك على اليسار الإسرائيلي، وإن كانت هناك منطلقات إضافية تقود هذا الأخير.
تقوم فكرة جابوتينسكي، وفق مقاله الذي كتبه عام 1923، على أن الفلسطينيين (كأصحاب بلاد أصليين)، لن يرضوا بالوجود الصهيوني في أرض فلسطين، كحال أي شعب تحت الاستعمار، وبالتالي لا يمكن المراهنة على التعامل معهم بالإقناع والمحاورة بل يجب أن يقتنعوا أن إسرائيل قوة لا يمكن هزيمتها، وأن يخضعوا لهذا المنطق. فهو يرى أن العامل الأساسي في تحقيق المشروع الصهيوني لأهدافه، هو إخضاع الفلسطينيين، وعندها فقط يمكن أن يصل العرب والفلسطينيون إلى قناعة أن إسرائيل قوية ولا يمكن هزيمتها، وعندها يمكن التفاوض معهم حول حقوقهم. ولكن وفق آفي شلايم (من المؤرخين الإسرائيليين الجدد)، فإن استخدام القوة وفرضها، كان هو التوجه الدائم للقيادات الإسرائيلية. وإن كان التوجه الإسرائيلي المرحلي وخصوصاً لدى بعض قيادات اليسار، كان نحو قبول تسويات سلمية ولكن على قاعدة إدارة الصراع وتحكيم المصالح الإسرائيلية وفق قاعدة الربح والخسارة من دون تنازلات أيدلوجية، بل مع تثبيت هذه الأخيرة والتأكد من حفظ تفوّق القوة والسيطرة الإسرائيلية.
هذه السياسات التي كانت مؤسسة للمشروع الصهيوني، لا يمكن قراءتها بمعزل عن الواقع الفلسطيني وتأثيرها فيه، ولا يجب الافتراض أنها معزولة عن تطورات السياق والأحداث والرؤى للطرف الآخر، فقد شكّلت طبيعة النضال الفلسطيني وتطوراته حالة تحد للسلطات الإسرائيلية التي ظن بعض سياسييها أن الهزيمة والقوة العسكرية الكبيرة التي استخدمتها وتستخدمها إسرائيل، ستهزم الفلسطينيين ضمن سياسة الإخضاع بالقوة، وهذه السياسة رافقت العمل السياسي الإسرائيلي لسنوات، لتتبدل بسياسة فرض الواقع، حتى تصل إلى الاحتواء والانفصال، وفقاً للسياقات المختلفة.
بالمقابل فإن موقف القوى الفلسطينية وعلاقتها بالسياسات والخطوات التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية، سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو داخل الخط الأخضر، هي علاقة تبادلية. بمعنى أنها ضمن فعل ورد فعل لتسير في حلقة دائرية يحاول كل فريق أن يكسب فيها نقاطاً في سبيل تعزيز وضعه في هذا الصراع الصفري.
فلسطينيو الداخل بين فكي التشريعات وحكم الواقع
شكل الفلسطينيون الذين استطاعوا البقاء في أرضهم عقب النكبة، أي في "الدولة" التي أسستها "إسرائيل"، تحدياً لها، وتحديدا من حيث إيجاد السياسات المناسبة في تعاملها معهم. ولتنطلق بسياسات أمنية تعتبرهم في الأساس خطرا أمنيا، ومن ثم لتتطور وفقاً لتطور الأحداث المحلية والإقليمية.
وفي هذا السياق يمكن قراءة السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل من خلال ثلاث محطات مركزية:
الأولى الحكم العسكري وسياسة الضبط.
الثانية من خلال سياسة السيطرة ويمكن رؤية تجلياتها في وثيقة كينغ.
الثالثة من خلال سياسة الاحتواء بإدخالهم في الكنيست (إلى حد معين) والحكومة.
هذه السياسات بمراحلها المختلفة اتسمت بالتداخل ضمن محطات زمانية مختلفة، واستخدمتها إسرائيل، وما تزال، بشكل متزامن.
المحطة الأولى، الحكم العسكري وخيار الصمود الصامت: عقب النكبة وإعلان دولة إسرائيل فرضت السلطات الإسرائيلية حكماً عسكرياً على الفلسطينيين داخل الخط الاخضر، وكان يعني بشكل غير مباشر تجريم الفلسطيني داخل الخط الأخضر والتعامل معه بشكل أمني عسكري، ما يجعله موضع شك وتهديد دائم والتعامل معه بأدوات قمعية كان من محصلتها مجزرة كفر قاسم التي حدثت عام 1956، والتي جاءت نتيجة سياسات سلطوية تتعامل بيد أمنية من حديد مع فلسطينيي الداخل. هذه السياسة ارتبطت بسياسة التخويف وسياسة "الجدار الحديدي" التي ترُجمت بالملاحقة والعقاب لمن ينادي بالقضية الفلسطينية، بهدف بث الرعب في صفوف فلسطينيي الداخل وقطعهم عن امتدادهم الهوياتي، وبنفس الوقت تدجين هويتهم ولو بالقوة. ليتبع ذلك رد فعل فلسطيني معارض للسياسات الإسرائيلية في الأُطر الضيقة أو اقتصاره على التعبير عن مشاعر السخط والغضب، فيما كان آخرون يعملون تحت السقف السياسي المتاح وحتى التعامل مع الأحزاب الصهيونية في سبيل تحقيق بعض الأمور للناس، وفق قاعدة التعامل مع القوة السياسية القائمة بحكم الأمر الواقع.
هذه السياسة الإسرائيلية، إضافة لوعي الفلسطينيين في الداخل بمحدودية قدراتهم وخيارهم الذاتي، قادتهم لاعتماد النهج السلمي وعدم استخدام الخيار العسكري في مواجهة السلطة في "إسرائيل"، ومع ذلك فإن هذا لم يشفع لهم من استمرار السياسة الأمنية ضدهم وفي مواجهة بعض أنواع العمل السياسي الفلسطيني المنظم وضد مظاهراتهم الشعبية، وليستمر جوهر تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين في الداخل ضمن مقاربات أمنية وسياسة التخويف.
الضبط والسيطرة، من وثيقة كيننغ وحتى قانون القومية: مع قرار السلطات الإسرائيلية إنهاء حكمها العسكري على فلسطينيي الداخل عام 1966، تحوّلت إسرائيل لسياسة ضبط وسيطرة أكثر تقدماً باستخدام أدوات سياسية وقانونية لضبط نضال الفلسطينيين وللحد مما يمكن أن يحققوه ولتقييدهم سياسيا في الميدان. وبالتزامن مع انتهاء الحكم العسكري تحوّلت السياسة الإسرائيلية بشكل أوسع نحو مصادرة الأراضي وتقييد العمل السياسي مع فضاء عام يفترض أن يكون ديموقراطياً وبعيداً عن الحكم العسكري. وهو ما تحقق من خلال وثيقة كيننغ التي سبقت يوم الأرض عام 76، وتُرجمت بسياسات إسرائيلية تجاه فلسطينيي الداخل، وقد شملت المستوى السياسي والمدني والاقتصادي. ومن ذلك التوصية بزيادة الاستيطان اليهودي في الجليل والتضييق الاقتصادي على الفلسطينيين هناك، والتوسع في السيطرة وفي مصادرة أراضي العرب. أما على صعيد الشق السياسي فكان العمل بتوجيه سياسي صهيوني على السماح بطرح حزب سياسي عربي (مثل قائمة التقدم والتنمية وقائمة المشاركة والأخوة) ليكون رديفا للأحزاب الصهيونية وليكون حزباً مسيطراً عليه وموجها في خطابه السياسي. وعلى العموم تعددت السياسات الإسرائيلية هذه، من الفصل إلى عدم المساواة والسيطرة، وأخذت حيزاً كبيراً في تعامل السلطات الإسرائيلية مع فلسطينيي الداخل.
أما ردة فعل الفلسطينيين فتُرجمت بعدة سياقات، إذ لسنوات كان التنظيم السياسي للفلسطينيين في الداخل محدوداً وحذراً، لتأتي سياسات مصادرة الأراضي والقبضة الحديدية الأمنية الإسرائيلية بنتائج عكسية في اتجاهين. الأول التنظيم السياسي للفلسطينيين في الداخل، فكان ذلك من خلال بناء لجان مثل لجنة الطلاب الجامعيين العرب ولجنة الأراضي ومن ثم لجنة المتابعة العليا، في دليل على أن التنظم السياسي للفلسطينيين في الداخل جاء رداً على السياسات الإسرائيلية التي حاولت النيل من وجودهم وتفتيت هويتهم وانتمائهم الوطني، خصوصاً أن ذلك تزامن مع زيادة الوعي السياسي في صفوف فلسطينيي الداخل بعد نكسة عام 1967 واحتلال إسرائيل لباقي أراضي فلسطين التاريخية.
الجانب الثاني كان من خلال الغضب والنضال الشعبي والمظاهرات التي تُرجمت بيوم الأرض عام 76 والتي استشهد على إثرها 6 شهداء من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، لتخط معالم تحوّل في نضال الفلسطينيين في الداخل الذي كان يعتريه نوع من التوجس إثر النكبة، وليصبح توجهاً مقارعاً للسياسات الإسرائيلية وإن كانت أدواته سلمية تترجم بالتظاهرات ورفع الصوت وأقصاه استخدام الحجارة لمجابهة الآلة الأمنية الإسرائيلية. ولمواجهة هذا التطور الفلسطيني "تطلب" من إسرائيل استدعاء جيشها للدخول إلى القرى والبلدات العربية وكأنه تطور في المقابل، لكنه عسكري.
كانت سياسية "الضبط والسيطرة" الإسرائيلية تهدف إلى ضبط إيقاع المسموح فيه سياسياً عند الفلسطينيين من خلال ربطه بالأجندة الصهيونية، لتعزيز استيطان الجليل ومصادرة أراضي الفلسطينيين. وهذه السياسة تصب بدورها لصالح أخرى تتمثل بزيادة الأغلبية اليهودية ومنع تمركز سكاني للفلسطينيين، ناهيك عن مركزية السيطرة على الأرض في الوعي الصهيوني.
هذه السياسة من التضييق لم تكن مقتصرة على سنوات السبعينات والثمانينات، بل امتدت حتى السنوات الأخيرة من خلال سياسات تمييزية في مختلف مناحي الحياة، من معدّلات الفقر التي تعتبر أعلى في صفوف فلسطينيي الداخل مقابل المواطنين اليهود وتصل لنسبة 45%، ناهيك عن سياسات مصادرة الأراضي وسياسات هدم البيوت والتضييق على الفلسطينيين في النقب ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم وقراهم. وامتدت سياسات الضبط والسيطرة والمتابعة والتعقب للفلسطينيين في الداخل لتشمل العمل السياسي، من تلك السياسية الممتدة والمستمرة حظر الحركة الإسلامية عام 2015 كعقاب للعمل السياسي الفلسطيني الذي يقارع المشروع الصهيوني في القضايا المركزية خصوصاً في القدس، وسن قانون القومية الذي يجعل الحيز الديموقراطي الذي تقول به إسرائيل هامشياً، ويشرع لتأصيل دونية المواطنة للفلسطينيين في الداخل، هذا ناهيك عن عشرات القوانين العنصرية التي شرعتها السلطات الإسرائيلية، والتي تسعى لمعاقبة الفلسطينيين في الداخل وضبط دورهم ونضالهم وكبح نضالهم.
كانت سياسات الضبط والمراقبة تهدف بشكل أساسي لعزل فلسطينيي الداخل عن النضال الفلسطيني العام، وأن لا يكونوا عنصراً فاعلاً في القضية الفلسطينية من خلال تخويفهم بالمراقبة وضبط عملهم السياسي بل وحتى إضعاف معنوياتهم الوطنية.
هذه السياسات انعكست على نضال فلسطينيي الداخل وبات تركيزهم على قضاياهم الخاصة أكبر، خصوصاً قضايا الأرض والمسكن، لجعلها في صلب اهتماماتهم النضالية. ومع أن الفلسطينيين في الداخل لا يملكون أدوات كثيرة لمواجهة السياسات الإسرائيلية بحكم سيطرة الأخيرة، فإنهم انتهجوا سياسة النفس الطويل والنضال الجماهيري والقانوني في سبيل مجابهة السياسات الإسرائيلية في هذا السياق. وإن كانت وثيقة كيننغ شكّلت نقطة فاصلة في سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الداخل، فإنها استمرت وأُعيد استخدامها بأدوات محدّثة في فترات مختلفة، ولكن بقي الهدف هو السيطرة وضبط نضال الفلسطينيين في الداخل.
سياسة الاحتواء، أوسلو ودخول الائتلاف الحكومي: إضافة لسياسات "الضبط والسيطرة" بالقوة التي استخدمتها السلطات الإسرائيلية لإخضاع فلسطينيي الداخل، فإنها أعطتهم مساحة سياسية، ذلك أن وجودهم ونشاطهم السياسي كان مفروضاً عليها من جهة، ومحدودا لهم من جهة أخرى؛ فهو مفروض على إسرائيل كي تستمر في ادعاءها أنها ديموقراطية، ولأنها لم تعد تستطيع تجاهل وجود تنظم سياسي للفلسطينيين في الداخل، وهو محدود لأنهم لم يكونوا شريكاً شرعياً كاملاً في صنع القرار السياسي، حفاظا –من قبل إسرائيل- على يهودية الدولة وتخوفا من انتظام فلسطينيي الداخل سياسا على أساس وطني. وبذلك فقد كانت السياسات الإسرائيلية تجاه المشاركة السياسية لفلسطينيي الداخل مضبوطة، فمنعت حركات مثل "حركة الأرض" (1958) وغيرها من المشاركة في الكنيست، وضيقت على بعضها وألجمت عملها السياسي خارج الكنيست مثل حركة أبناء البلد، كما سمحت لأخرى بالعمل السياسي في مراحل زمانية مختلفة، إذ فرضت متغيرات كل مرحلة على إسرائيل تعاملا مختلفا مع العمل السياسي لفلسطينيي الداخل. فالسماح لفلسطينيي الداخل بالمشاركة السياسية وخصوصاً في الكنيست الإسرائيلي جاء للتنفيس السياسي وضبط العمل السياسي الفلسطيني في إسرائيل.
وقد وجد بعض السياسيين الإسرائيليين في مشاركة العرب بالسياسية أداة "للتدجين" أو ورقة قابلة للاستغلال والتوظيف السياسي سواء في التعامل مع الخارج أو مع ما تفرضه إكراهات الاصطفافات السياسة الإسرائيلية. ورغم هذا لا يمكن عزو العمل والمشاركة السياسية للأحزاب العربية في الداخل لأجندات إسرائيلية، فقد كانت قوى سياسية عربية "تفرض" دورها السياسي الفلسطيني لذاته، وذلك بسبب قوة انتظامها وقدرتها على المناورة ضمن الهامش الذي وضعته السلطات الإسرائيلية، وثقة عدد من الناس بها، وهذا ترجم بعملها السياسي وبمشاركة بعضها في الكنيست ضمن هدف تسعى من خلاله لحمل قضايا الناس والتأثير هناك وفقا لرؤيتها.
رغم حالة الإقصاء السياسي وحتى الملاحقة السياسية للعمل الوطني الفلسطيني في الداخل، كانت مرحلة أوسلو مرحلة فارقة في تحوّل العمل السياسي لفلسطينيي الداخل، خصوصاً أولئك الذين يشاركون في الكنيست الإسرائيلي. فقد قامت حكومة إسحاق رابين (1992-1995) بالاعتماد على أحزاب عربية (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحزب العربي الديموقراطي) بدعم استقرار حكومتها، وقد سميت هذه الأحزاب في سياق هذه العملية: "الجسم المانع". قام هذا الجسم حينها بدعم حكومة رابين التي كان لديها أقل من 60 مقعداً، وكان الهدف الأساسي للجسم ولرابين هو تمرير اتفاقية أوسلو بين السلطات الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتكون سابقة في تاريخ العمل البرلماني الإسرائيلي. هذا التوجه الذي قاده رابين كان ضمن سياسة تمرير أهداف سياسية مركزية لحزب العمل في حينه، وكان إعطاء المجال للصوت العربي مسعى لتوظيفه للأهداف السياسية للحزب الحاكم حينها، من دون أي معنى سياسي مرتبط بتغيير تعريف إسرائيل لذاتها ولمعنى المواطنة فيها.
بنفس الوقت، ومع واقع ما بعد مرحلة أوسلو، ومع شعور الفلسطينيين في الداخل أنهم تركوا لشأنهم، تطور الخطاب السياسي في صفوفهم وتطورت مشاركتهم السياسية لتضم أحزابا أخرى للمشاركة في الكنيست، مثل حزب التجمع، والقائمة العربية الموحدة، والحركة العربية للتغيير، وليكون هناك توجه متزايد من قبل بعض السياسيين للعمل من خلال الكنيست كما جسدته هذه الأحزاب.
وشكلت تجربة "الجسم المانع" في التسعينيات دافعا للقائمة العربية الموحدة كي تكررها مرة أخرى، فشاركت في التوليفة الحكومية والائتلاف الحاكم خلال عامي 2021-2022، وذلك قبل عودة بنيامين نتنياهو مع الإئتلاف الجديد مؤخرا إلى الحكم.
وساهمت هاتان التجربتان رغم المدة الزمنية التي فصلت بينهما، في التأثير على أجندة العمل السياسي الفلسطيني، حيث أخذ يتصاعد التوجه السياسي والمدني في خطاب فلسطينيي الداخل، الذي ينادي بالمساواة والقضايا المدنية وتحصيل الحقوق والمطالب الحياتية، وقد يشهد هذا التوجه تراجعا نسبيا من حين لآخر تبعا للأحداث السياسية المختلفة واستحقاقاتها. في حين أن الخطاب الآخر، الذي يطرح أجندات وطنية وهوياتية، بقي موجودا وربما يتصاعد أحيانا.
وبالعودة للسنوات الأخيرة، فقد مثّلت مشاركة القائمة الموحدة في الحكومة الإسرائيلية السادسة والثلاثين، مرحلة مهمة في إعادة تجربة المشاركة السياسية في الحكومة الإسرائيلية ولكن بانخراط أكبر من خلال الانضمام للتوليفة الحكومية وليس فقط دعمها من الخارج كما كان الحال مع الجسم المانع. وهذا يتوافق مع مساعي بعض السياسيين الإسرائيليين لإدماج فلسطينيي الداخل، وإن كان ذلك يترافق مع صراعات وعدم اتفاق بين الأُطر الحزبية الإسرائيلية المختلفة وذلك ارتباطاً بمصالحها الانتخابية ورؤيتها السياسية. وهذا الإدماج مرتبط بثلاثة مقومات: أولا: محاولة جر الخطاب السياسي العربي في الداخل إلى الخطاب المقبول إسرائيلياً إلى حد ما، المتنكّر لسياق النضال الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، ليكون خطاب الداخل مقتصراً على التعاطف المحدود. ثانيا: تسعى إسرائيل من خلال سياساتها إلى تقسيم فلسطينيي الداخل، إلى أصحاب خطاب "متطرف" وخطاب معتدل، مع حرصها على عدم تبنيهم الخطاب الوطني الفلسطيني، وكذلك إبعادهم عن أي فعل مناصر لمقاومة سياسات الاحتلال الإسرائيلي. ثالثا وأخيراً التشديد على الأمور المطلبية الخدماتية بعيدا عن الخطاب السياسي المنبثق من المواطنة أو من كون الفلسطينيين في الداخل أصحاب الوطن. علماً أن هذا التوجه الإسرائيلي كان أيضأً ضمن إكراهات سياسية داخلية إسرائيلية.
المكونات السابقة للخطاب المقبول إسرائيلياً انعكس على سياسات "الإدماج" بالحلبة السياسية، وحتى على سياسات إسرائيل في التعامل مع العمل السياسي العربي في الداخل، لتقوم إسرائيل من خلالها بالفرز والتمييز بين ما هو تطرف واعتدال وفقاً لهذه السياسات، ولتقرر طبيعة المواقف ومستويات الخطاب الذي يمكن أن تقبل به، بل وحتى تساهم في صياغته ضمن سياسة العصا والجزرة. فالملتزم بهذا الخطاب يصبح أكثر تأثيراً (وإن بأمور محدودة) والآخر ملاحق، مع التأكيد على أنه لا يوجد إجماع صهيوني على ذلك وهناك اختلافات حزبية حوله، وذلك كجزء من الانقسامات السياسية وتراشق الاتهامات وكسب المواقف للأحزاب المختلفة.
هذه السياسات الإسرائيلية تجاه فلسطينيي الداخل على مستوى المشاركة السياسية، ترافقت مع سياسات إدماج للفلسطينيين في الداخل وتركّز على القبول الفردي ورفض الجماعية وللمطالب المبنية على أساس جمعي أو المنطلقة من انتماء هوياتي فلسطيني، وتهدف لعزل فلسطينيي الداخل عن هويتهم الفلسطينية بمعناها التطبيقي والعملي، أي منعهم من الاندماج مع المشروع الوطني الفلسطيني والنضال العام للفلسطينيين، ليركّز الفلسطيني في الداخل على أمور مطلبية وحياتية ومعيشية في الداخل.
وهذه السياسات الثلاث (التخويف، والضبط والسيطرة، والاحتواء) لا سيما ببعض أبعادها لا تزال قائمة. ولا يمكن إغفال بعض المؤشرات التي تشكك بفعالية هذه السياسات من حين إلى آخر، كما كان الأمر لفلسطينيي الداخل مع هبة الكرامة الأخيرة عام 2021، واستمرار تمسكهم بهويتهم الفلسطينية الجامعة، ولكن بالمقابل هناك مؤشرات على نجاح بعضها نسبيا وإن بسياق "مصلحة فلسطينيي الداخل" كما يرى أصحابها، حيث يتعزز عدد المؤيدين للتوجه السياسي المركّز على الأمور المطلبية الداخلية، كما تُرجم بنتائج الانتخابات الأخيرة عام 2022.
ومن المهم التنويه أيضا أن سياسة التخويف الإسرائيلية لا تزال مستمرة، من ذلك ملاحقة العمل السياسي الفلسطيني المناهض للتوجهات الإسرائيلية ومحاولة تجريم نضال الفلسطينيين ووضعهم ضمن خانة الخطر الأمني، كما فعل نتنياهو خلال السنوات الماضية إبان حكمه، بل وحتى ربط نضالهم بالإرهاب. كما اتهم نتنياهو نفسه قيادات سياسية في الداخل بالإرهاب والاستفزاز. وبالتالي هذه الأدوات الأمنية والعسكرية واستخدام القوة كان وما زال حاضراً.
الضفة الغربية وغزة، اللاسلام واللادولة
كان احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة حدثاً مفصلياً في الحركة الوطنية الفلسطينية وفي القضية الفلسطينية ككل، وأيضًا كان حدثاً مؤسساً في التاريخ الإسرائيلي، لارتباطه باحتلال أرض يؤمن اليهود بأن لها مكانة تاريخية ودينية. وبنفس الوقت بات واضحاً أن السلطات الإسرائيلية تقوم باحتلال جلي بحكم المواثيق والقرارات الدولية، كما أنها باتت تحكم ثقلا سكانيا عربيا فلسطينيا كبيرا لم تكن تحبذه.
وللتعامل مع التحديات التي واجهتها لكونها قوة احتلال ولكونها دولة تمييز عنصري بسبب منطلقاتها الأيدلوجية وسياساتها، قامت السلطات الإسرائيلية بسياسات متعددة تجاه الفلسطينيين، أبرزها:
"سلام" مقابل هدوء: شكّلت أوسلو نقطة فارقة في سياق القضية الفلسطينية وفي سياق السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وبالتالي شكّلت مرحلة تحوّل في النضال الفلسطيني، لا سيما وقد أصبحت عملية السلام تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. فبعدما كانت السياسية الإسرائيلية عدم التنازل عن أي أرض محتلة والإيمان بأحقيتهم في الأراضي التي احتلوها عام 67، تبدّلت السياسة الإسرائيلية لترضى بمبدأ السلام، إلا أن المبدأ الثاني القاضي بتسليم الأرض لم يتم بشكل كامل وبقيت السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لا يمكن قراءة حالة أوسلو والسياسة التي انتهجتها السلطات الإسرائيلية من دون مراجعة الواقع قبلها، فقد تميّزت مرحلة ما قبل أوسلو بمقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة كجزء من مقاومة وحالة رفض فلسطيني شامل لاحتلال إسرائيل كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر وفقاً للرؤية الفلسطينية، هذه الرؤية التي آمنت بضرورة مقاومة الاحتلال بكل الوسائل ولم تعترف بإسرائيل أبداً. جاءت أوسلو لتؤسس واقعا فلسطينيا جديدا يبدأ باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل ونبذ "العنف" وغيرهما من البنود التي أعادت تشكيل النضال الفلسطيني نفسه.
وبهذا كانت اتفاقية أوسلو جزءاً من نهج إسرائيلي يسعى "للهدوء" وإلى التخلص من تداعيات المقاومة الفلسطينية التي جعلت الإسرائيليين يعيشون في دائرة من عدم الأمن، وكذلك للتخفّف من أعباء مسؤولياتها كقوة احتلال والتخلص من عبء إدارة حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وهو الذي أثقل كاهل السلطات الإسرائيلية. سعى اليسار الإسرائيلي من خلال هذا التوجه لموازنة يحافظ من خلالها على مصالح إسرائيل وأمنها وبنفس الوقت يمنع قيام دولة ثنائية القومية مقابل إعطاء الفلسطينيين حالة حكم ذاتي. وهذا لا يعني بالضرورة تنازل إسرائيل عن بعض المناطق المركزية في الوعي اليهودي في الضفة الغربية ولا عن قضايا مركزية مثل القدس.
أعطت أوسلو السلطة الفلسطينية إدارة شؤون الفلسطينيين، فيما حفظت إسرائيل لنفسها الأمن من خلال التنسيق الأمني مع السلطات الفلسطينية ونبذ الأخيرة العمل المسلّح في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، لذلك فإن أوسلو إسرائيليا تعني تحولا في السياسة الإسرائيلية للوصول إلى حالة "هدوء وسلام" ، وإن كان غير كامل إلا أنه بالقطع يحقق بعض الأهداف الإسرائيلية وبالمقابل لا يحقق المصالح والأهداف الفلسطينية، والأهم أنه ساهم في تخلي بعض الفلسطينيين عن المطلب الأساسي أي عن تحرير "كل فلسطين التاريخية" والاكتفاء ببعضها، وجعل الصراع الفلسطيني الفلسطيني حول الكفاح المسلّح حاضراً وموجهاً لعلاقة الفلسطينيين مع بعضهم.
كان التوجه الإسرائيلي في أوسلو يهدف إلى قطع الطريق على استمرار مقاومة الاحتلال وعدم الاعتراف بإسرائيل، وهو ما لم يتم تحقيقه بشكل كامل. فقد رفض هذا الاتفاق عدد كبير من الفلسطينيين واستمر العمل الفلسطيني المقاوم للاحتلال، بل وازداد حدة من خلال عدد من العمليات ضد أهداف في العمق الإسرائيلي، وبالتالي لم يجلب أوسلو الأمن المتوقع للإسرائيليين.
أثّر أوسلو على النضال الفلسطيني من خلال الشرخ الذي أحدثه في الحركة الوطنية الفلسطينية وطبيعة المقاومة الفلسطينية، ويتجلى ذلك في اختلاف نهجين، نهج يرضى بعملية سلام وشروطها وآخر رافض لها مما أثر على وحدة النضال الفلسطيني، ومن تداعيات ذلك الانقسام الحاصل بين الضفة وغزة.
صعود اليمين من الاستيطان إلى أرض إسرائيل الكاملة: إن صعود اليمين أي حزب الليكود للسلطة في إسرائيل عام 1977 كان معناه التوسّع في سياسة الاستيطان وتعزيز الإيمان بما يسمى أرض إسرائيل الكاملة، كما أثّر على القضايا المركزية في الصراع، ليرفع قضية الاستيطان إلى أعلى السلّم. بدأت حركة الاستيطان بعد نكسة عام 1967 بالاستيطان في مناطق معينة ومحددة في الضفة الغربية وغزة، وكانت هذه السياسة تقبل بشكل أو بآخر بإمكانية وجود كيان فلسطيني أو فدرالية في مناطق معينة من تلك التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وفق خطة ألون. مع صعود اليمين الذي يؤمن بما يسمى أرض إسرائيل الكاملة نُسف هذا التوجه وانتهى، وبالتالي شكّلت حالة صعود اليمين تحدياً للنضال الفلسطيني، مع ضرورة التنويه أن هذا لا يعني بالضرورة أن حزب العمل واليسار الإسرائيلي التقليدي لم يكن مساهماً في تعزيز الاحتلال، ولكن هناك أهمية خاصة لصعود اليمين إلى السلطة وارتبطت بثلاثة مسائل أساسية: أولا، تعزيز الإيمان الأيدلوجي القومي ولاحقاً الديني، كما نراه اليوم من خلال تيارات الصهيونية الدينية. ثانيا: جر النقاش السياسي الإسرائيلي إلى مربع اليمين الذي فرض أجندة أكثر حدة وأكثر تطلعا لتكريس الاحتلال واستعمال القوة في مواجهة القضية الفلسطينية. ثالثا، العقائد القومية والدينية تدعو إلى ما يؤدي تعميق الصراع وتشرعن استخدام القوة، كما يظهر من صعود تيار الصهيونية الدينية ذو الخلفية الكاهانية مؤخراً، والذي يؤمن بإعطاء الحرية لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي لاستخدام القوة بإفراط، ويؤمن بوجوب فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى مع ما يمكن أن يجّره هذا من تفجّر للصراع، ناهيك عن إيمانه بالتوسع الاستيطاني والضم.
ترجم صعود اليمين للسلطة في إسرائيل بازدياد وتصاعد حدة العنف ضد الفلسطينيين كما تجلى خلال الحروب التي شنت في السنوات الأخيرة على غزة، وبرفض أي حق للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وفق حل الدولتين والسعي الدائم لزيادة الاستيطان والضم في الضفة الغربية والتنصل من أي عملية سلمية.
الأمن بأقل تكلفة، من الارتباط ونقضه إلى الحصار: تنتهج إسرائيل سياسة فك الارتباط حينا، وتقوم بتوثيق الارتباط بالفلسطينيين (من خلال التنسيق الأمني) حينا، وتعتمد سياسة الحصار حينا آخر، وهذه التوجهات باعثها حفظ الأمن الإسرائيلي بأقل تكلفة، وهو ما كان من خلال أوسلو وترافق مع بداية سنوات العقد الأول من القرن الحالي بفك الارتباط عن غزة (الانسحاب من غزة) وحتى حصارها.
في حين كان بناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية تأصيلاً لفك الارتباط. هذه السياسة تعني أن إسرائيل تسعى لتطبيق سياسة تخفف من خلالها عن كاهلها عبء وجودها المباشر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإدارة الصراع مع الفلسطينيين بشكل يخفف عليها من العبء العسكري والخسائر، فكان الانسحاب من غزة بعدما أصبح القطاع يشكّل عبئاً سكانياً وأمنياً إسرائيلياً. وهذا التوجه يتبدى من خلال الهُدن التي تعقدها سلطات الاحتلال مع الفصائل الفلسطينية ضمن معادلة عدم التصادم المكلّف وحفظ وجود سلطة في غزة تخفف عبء الاحتلال المباشر له. وترافق أيضا مع معاقبة القطاع والحفاظ على سيطرة إسرائيلية عليه من خلال الحصار الاقتصادي.
بالطبع إن فك الارتباط في غزة غير بشكل كبير شكل نضال الفلسطينيين هناك، فقد ساهم في تطوير الفصائل الفلسطينية لقدراتها القتالية بشكل كبير وساهم في التعزيز من قدراتها الصاروخية، ليشكّل ذلك تحوّلا كبيرا في طبيعة الصراع. ولكن بنفس الوقت ساعد ذلك إسرائيل على عزل القطاع عن العالم الخارجي من خلال الحصار الخانق عليه. هذه السياسة الإسرائيلية ترافقت مع إدراك الإسرائيليين أن هناك سلطة في غزة، وهذه السلطة ستكون حذرة في تعاملها وفي مقاومتها للاحتلال الإسرائيلي مراعاة لمسؤوليتها عن السكّان الذين تحكمهم، هذا من جانب. ومن جانب آخر، جعل هذا الأمر القوة العسكرية الصاعدة في قطاع غزة حذرة في استخدامها لمقدراتها العسكرية.
أما السياسة في الضفة الغربية فكانت ضبط الأمن من خلال التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية هناك. مع هذا الواقع كان الرد الفلسطيني الرسمي والشعبي بأشكال نضالية مختلفة، قسم منها مرتبط بالمقاومة الشعبية "السلمية" (وهذا ما تريده السلطة الفلسطينية لرفضها استخدام القوة)، وآخر يستخدم القوة من خلال عمليات فردية أو من مجموعات تتجاوز الأطر التنظيمية.
السلام الإقليمي وتجميد الصراع
انتهجت السلطات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة مساراً جديداً بات حجر الزاوية في تعامل الإسرائيليين مع الملف الفلسطيني ألا وهو سياسية تحييد القضية الفلسطينية من خلال السلام الإقليمي، الذي ترجم باتفاقيات التطبيع التي عقدتها السلطات الإسرائيلية مع عدد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان والمغرب.
باتت هذه السياسة الإسرائيلية مهمة في تحديد نضال الفلسطينيين، لكونه يعتمد على حاضنة عربية تعزز قوته وتربط أي تقدم لتطبيع العلاقات مع السلطات الإسرائيلية بحل القضية الفلسطينية. إلّا أنه ومنذ سنوات باتت القيادة الإسرائيلية تتجه لخطاب مؤداه أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام، وتعزز لديها أن لا حل قريبا للقضية الفلسطينية، وبالتالي باتت تلجأ لخيار السلام الإقليمي، الذي يقوم أساساً على وضع القضية الفلسطينية جانباً والتقدم بمسارات تطبيع تقف على رأسها المصالح الاقتصادية، وتحويل العداء العربي والإقليمي من إسرائيل لإيران، مع نظرة إسرائيلية أن هناك توجها رسمياً عربياً بات يرى القضية الفلسطينية عبئاً عليه.
هذا النهج الإسرائيلي يرى فيه اليمين الإسرائيلي استمرارا لسياسة جابوتينسكي لإخضاع العرب، وأن اتفاقيات السلام هذه تتم بفضل القوة الإسرائيلية لا الضعف. وهذه السياسة وفق ما قال بنيامين نتنياهو ذاته، ترى الفلسطينيين عنصراً هامشياً في معادلة الشرق الأوسط، وأن اتفاقاً مع باقي الدول العربية يمكن أن يقود لسلام "معقول" مع الفلسطينيين. بمعنى أن سياسة إسرائيل هي بتحييد القضية الفلسطينية وإضعافها وبالتالي إخضاع الفلسطينيين لحلول مناسبة لإسرائيل. هذه الاتفاقيات وإن راهنت عليها إسرائيل، فقد لا تؤدي بالضرورة إلى تراجع رفض إسرائيل في المنطقة، وهي تتم مع الأنظمة مع العلم أن الشعوب في العالم العربي ترفض هذا التطبيع، وتساند القضية الفلسطينية. وبالتالي يواجه النضال الفلسطيني حالات التطبيع بحاضنته الشعبية العربية، ولكن يبقى التحدي إقناع الأنظمة العربية برفض هذا التطبيع.
هل هناك سياسة إسرائيلية واحدة، وماذا يحدد السياسة الإسرائيلية؟
في قراءة لمحطات مختلفة في السياسة الإسرائيلية وخصوصاً تلك المرتبطة بالقضية الفلسطينية، يمكن تتبع عوامل مركزية أثّرت على صياغة سياساتها وساهمت في تحديدها:
المحدد الأول: الأيدلوجي، وهنا نتحدث عن العقيدة السياسية للنخب الحاكمة وثقلها الشعبي، ففي صفوف اليمين الإسرائيلي التقليدي نتحدث عن يمين أيدلوجي يؤمن بإسرائيل الكبرى وسياساته هذه تقلّص احتمال حل القضية الفلسطينية. هذا اليمين، وإن كان يمكن أن يناور في خياراته تبعاً للواقع السياسي والضغوطات، ولكن البعد الأيدلوجي الأساسي هو منع قيام أي دولة فلسطينية ذات سيادة واستخدام خيار القوة في مجابهة الفلسطينيين. بالإضافة لليمين الإيدلوجي بمعناه القومي، هناك اليمين القومي الديني، وهذا أكثر راديكالية في مواقفه لارتباطه بخلفيات دينية تعزز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، ويؤمن ببناء الهيكل وغير ذلك من المضامين التي تجعله يؤجج الصراع ويتخذ سياسات تجعل من الصعب على الفلسطينيين اتخاذ سياسات مهادنة معها، وتؤثر على الإطارين الشعبي والرسمي الفلسطيني وشكل نضالهم. هذا البعد الأيدلوجي صاغ التوجه الإسرائيلي في نهاية السبعينات والثمانينات فكانت نتائج سياساته حرب لبنان (1982) والانتفاضة الأولى (1987)، ومجمل الحروب في غزة في العشرية الثانية من عام 2000. وهذا اليمين يعود مجدداً للسلطة وفي جعبته خطط متعددة يمكن أن تؤجج الصراع من جديد.
المحدد الثاني: عامل الربح والخسارة، هذا العامل كان مهماً في صياغة سياسة إسرائيل وتحديد الخيارات على أجندتها بخصوص القضية الفلسطينية، ويمكن رؤية ذلك من خلال انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وحصل ذلك عندما أصبح القطاع عبئاً على الإسرائيليين، خصوصاً أن القطاع لا يحمل أي معالم تاريخية، أيدلوجية صهيونية أو دينية يهودية في الوعي الجمعي اليهودي لتجعل من استيطانه والبقاء فيه هدفاً أيدلوجياً لذاته. والذي قام بهذه الخطوة في حينه هو شارون وكان معروفاً بتشدده اليميني ورفعه للواء الاستيطان. كما يمكن رؤية حسابات الربح والخسارة من خلال توجه إسرائيل للخيار التفاوضي بعد الانتفاضة الأولى عام 1987 الذي جاء بعد إدراك القيادة الإسرائيلية وخصوصاً العمّالية، حزب العمل في حينها، أن الاستمرار
في حالة حرب ونزاع دائمين غير ممكن تحمله من قبل الإسرائيليين. فكانت نتيجة الحسابات أن تحقيق اتفاقية سلام هو الخيار الأمثل وهو ما كان من خلال اتفاقية أوسلو. حسابات الربح والخسارة هذه ساهمت في سياسة إقصاء الرئيس ياسر عرفات عن السلطة، لأنه وفقاً للإسرائيليين لن يكون مفيداً للتطلعات والتوجهات الإسرائيلية إبّان الانتفاضة الثانية (2000).
المحدد الثالث: هو الأمن، يبقى المحدد الأمني عاملاً أساسيا في بناء السلطات الإسرائيلية لسياساتها تجاه الفلسطينيين وكذلك محيطها الإقليمي، ويعود ذلك لعقيدة جابوتينسكي القائلة بالحائط الحديدي. ويرتكز البعد الأمني على ثلاثة محاور: التفوق الأمني، السيطرة الأمنية والاستقرار الأمني. في قراءة لسياسة إسرائيل لسنوات، كان هذا الهاجس هو الذي يرافق القيادات السياسية الإسرائيلية في تقدير خطواتها. وفي السياق الفلسطيني يمكن قراءته في احتلالها للبنان (1982) من أجل القضاء على منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية هناك، لما كانت تشكّله من تحد لمنظومة الأمن الإسرائيلي. في قطاع غزة كان هناك قرار إسرائيلي بحفظ اليد الطولى لإسرائيل هناك، وعززت تفوقها الأمني باستخدام القبة الحديدية وبإطلاقها سلسلة من أنظمة اعتراض الصواريخ التي فاخر بها نتنياهو نفسه، وبنفس الوقت سعّت لحفظ الاستقرار الأمني من خلال اتفاقية الهدنة التي تعقدها مع الفصائل الفلسطينية المختلفة. في الضفة الغربية كانت السيطرة الأمنية هي العامل الأساسي في المحدد الأمني الإسرائيلي، فعلاقة إسرائيل مع السلطة الفلسطينية يحددها التنسيق الأمني الذي تقوم من خلاله السلطة الفلسطينية بمنع أو التبليغ عن أي عمل مسلّح فلسطيني على أهداف إسرائيلية. وبنفس الوقت كانت السيطرة الأمنية الإسرائيلية واضحة من خلال عمليات تقوم بها إسرائيل في المناطق (أ) التي من المفترض أن تكون فيها السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية وفقاً لاتفاقية أوسلو. هذا التطلع والعمل على السيطرة الأمنية والتفوق الأمني والحفاظ على "الاستقرار" الأمني أي عدم وجود أي عمليات أو بؤر مقاومة تشكّل تحدياً للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، يمكن رؤيتها طوال السنوات الماضية وحتى أيامنا هذه في العمليات التي قامت بها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنين، وضد مجموعة عرين الأسود في مدينة نابلس وما إلى ذلك.
المحدد الرابع، الضغط الدولي، حيث يمكن رؤية الجانب الدولي وارتباطه بالسياسات الإسرائيلية في عدة جوانب، منها انكفاء نتنياهو في فترة أوباما وتصريحه بقبول حل الدولتين في خطاب بار إيلان الشهير عام 2009(25) وتراجع الاستيطان في فترات معينة. هذا الضغط الدولي شكّل تحدياً وعاملاً ساهم في تقدير إسرائيل لسياستها، ويمكن رؤية العامل الدولي في الضغوط الدولية التي أسفرت عن سياسات أقل تطرفاً كما حدث في عهد أوباما مثل تجميد الاستيطان، أو أسفرت عن سياسات أكثر حدة وتطرفاً كما حدث إبّان فترة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيث كان التوسع الإسرائيلي في مخططات الاستيطان وضم الأراضي. والبعد الدولي مرتبط كذلك بالمحافل الدولية ودورها وقرارتها التي يمكن أن تشكّل ضغطاً على الإسرائيليين، أو على العكس من ذلك، أي تجعل السلطات الإسرائيلية تستخدم سياسات انتقامية وعقابية مع الفلسطينيين، كما حصل من حجب إسرائيل لمستحقات السلطة الفلسطينية من أموال الضرائب بعد توقيع الأخيرة على اتفاقيات دولية تسمح لها بالتوجه لمحكمة الجنايات الدولية ومقاضاة إسرائيل على جرائم الحرب. هذا الجانب الدولي كذلك مرتبط بالعمل على الصعيد الشعبي والحقوقي في مجابهة إسرائيل وزيادة الالتفاف حول القضية الفلسطينية.
أما في سياق التعامل مع الفلسطينيين في الداخل، فكان هناك عاملان رسما السياسات الإسرائيلية:
العامل الأول: حفظ طابع يهودية الدولة، وحفظ “الحقوق الجماعية" لليهود حصراً من دون أي اعتبار حقيقي للمواطنة، بل ورؤية هوية الفلسطينيين في الداخل ذات البعد الوطني تهديداً لإسرائيل. إن مركزية مفهوم يهودية الدولة والتأكيد على مكانة عرقية أعلى لليهود، يعني تقديم مزايا جماعية لليهود أعلى من سواهم، ويؤسس لنظام إسرائيلي إثنوقراطي يسعى لتوسع وهيمنة عرقية. هذا البعد ترجم ضد الفلسطينيين بسياسات مختلفة، بين الإقصاء السياسي والتضييق السياسي وسن عشرات القوانين العنصرية والتمييزية، مثل قانون القومية وحصر فلسطينيي الداخل في دائرة انتماء إسرائيلية منزوعة المواطنة وبمنطق الرعايا رغم حقيقة وجود انتماءات هوياتية لهم ببعد فلسطيني، عربي وإسلامي. وترافق هذا التوجه في السنوات الأخيرة مع توجه آخر لإدماج فلسطينيي الداخل واحتوائهم على أساس اقتصادي وفردي.
العامل الثاني: هو الاعتبار الأمني، وتحييد ما تراه السلطات الإسرائيلية خطراً أمنياً عليها، ويتشارك فلسطينيو الداخل مع باقي الفلسطينيين بهذا الاعتبار. فقد كان العامل الأمني والقبضة الأمنية سمة واضحة لتعامل السلطات الإسرائيلية مع فلسطينيي الداخل وذلك منذ أيام الحكم العسكري، مروراً بنظام الرقابة والسيطرة الذي عملت عليه السلطات الإسرائيلية وصولا إلى السنوات الأخيرة. ويمكن تتبع ذلك باليد الخفيفة على الزناد في أحداث يوم الأرض عام 76، وهبة الأقصى 2000 وهبة الكرامة 2021. وكذلك في المتابعة الأمنية والاستخبارية للسلطات الإسرائيلية للعمل السياسي الفلسطيني وتجريمه بحجج أمنية وحجج مرتبطة بالتحريض على العنف كما حدث مع الحركة الإسلامية الشمالية وغيرها.
ولغلق الدائرة التي بدأت بها هذه الورقة، عن عقيدة جابوتينسكي التي تقول بالجدار الحديدي وإخضاع العرب؛ يقول جابوتينسكي في نفس المقال إنه من الهذيان الظن بأنه يمكن شراء ذمم العرب بقبولهم بتوجهات الصهيونية مقابل بعض المنافع الاقتصادية أو الاعتبارات الثقافية. وبناء على رؤية جابتوننسكي لا سيما إذا ما اعتنقتها إسرائيل، ستستمر دائرة الصراع في توجه صفري ضمن تصعيد أحياناً وفتور أحياناً أخرى، لأن الشعب الفلسطيني لن يخضع ولن يقبل بالتنازل.
أخيراً وبخصوص مستقبل هذه السياسات، يبدو أن المحدد الأيدلوجي سيلعب دوراً مهما في المرحلة القادمة مع وجود اليمين واليمين القومي الديني في السلطة، وهذا اليمين سيتبنى سياسات احتلالية وتوسعية بشكل أكبر ما لم يكن هناك ضغط دولي لكبحه. ويمكن تلخيص مستقبل الاستراتيجيات المختلفة اتجاه القضية الفلسطينية كما أوردها عاموس يدلين قبل سنوات، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، وكان قد أشار إلى استراتيجيات مختلفة تجاه القضية الفلسطينية منها خياران: سياسة الاستمرار بالأمر الواقع أو اتفاق سلام لا يلبي طموحات الإسرائيليين. ولكنه يرى أيضا أن فرض سياسات وخطوات إسرائيلية على الأرض وفقاً لأهداف إسرائيل القومية، هو الخيار الأفضل ليقودها لموقع أفضل في التفاوض في أي عملية مفاوضات مستقبلية. يبدو أن هذه السياسة ستكون المسيطرة في الفترة القريبة خصوصاً مع وجود تيار يميني أيدلوجي في السلطة. وهذا سيشجع إسرائيل على الاستمرار في تبني "السلام الإقليمي" وربط الاقتصاد الفلسطيني بحالة الأمن الإسرائيلي، من خلال سياسات تربط الحالة اليومية للفلسطينيين ووضعهم المعيشي، بالاستقرار الأمني والسياسي لإسرائيل، وذلك في سياق سياسة العصا والجزرة التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية في تعاملها مع الفلسطينيين، فيكون تشديد الحصار الاقتصادي ضريبة أي فعل فلسطيني مسلّح تقوم به الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة أو الضفة الغربية ضد الاحتلال، فيما تكون التسهيلات الاقتصادية هي "الهدية" الإسرائيلية في حال استقر الوضع الأمني لها. وهذا لا يعني تراجع سياسات الضم والاستيطان خاصة مع استمرار صعود اليمين ورؤاه في السلطة ولدى الجمهور الإسرائيلي.
هذه السياسات الإسرائيلية وإن نجحت في جوانب فإنها فشلت في أخرى، ويبدو أن هامش التأثير الإسرائيلي وفي تبنيه لسياسة دون أخرى، يبدو معقداً في مقاربة الواقع الفلسطيني المعقد أو مواجهة حالات المقاومة الفلسطينية المختلفة، حيث هناك فلسطينو الداخل، فلسطينيو الضفة الغربية، فلسطينو غزة، وهكذا تبعاً لطبيعة حضور إسرائيل في كل منها والهامش الذي تعمل به. ففي سياق فلسطينيي الداخل، هناك إكراهات تجعل السياسات الإسرائيلية مضبوطة بالسياق السياسي والهامش المدني الذي تريد إسرائيل أن لا تتجاوزه لكي لا تتفجر الأمور في وجهها داخليا وكي لا تجلب على نفسها نقداً دولياً. فيما في غزة، تخضع السياسات الإسرائيلية لإكراهات الأمن وتخشى من تفجّر حروب متتالية هناك وتكون لها تبعاتها على المجتمع الإسرائيلي. فيما في سياق الضفة الغربية تبقى السياسات الإسرائيلية مضبوطة برغبتها في عدم تفجّر الأمور هناك، ولعدم إرادتها تحمل عبء الاحتلال المباشر مرة أخرى، ناهيك عن خشيتها من الردود الدولية. وبالتالي فالمحدد الإسرائيلي وإن كان ما زال يلعب دوراً في اختيار الفلسطينيين لنضالهم، فإنه بقدر ما هو محدد فهو أيضا يخضع لعوامل بنيوية، مصلحية، واقعية ودولية.
والخلاصة أن المحدد الإسرائيلي عامل مهم في صياغة النضال الفلسطيني، ويبدو أن هذه السياسات الإسرائيلية التي استخدمتها إسرائيل لسنوات في تعاملها مع الفلسطينيين ستستمر ما دامت ترى أنها ناجعة، إلّا أن الدائرة المفرغة من عدم وجود حل للقضية الفلسطينية وحقيقية استمرار النضال الفلسطيني وعدم خضوعه الكامل للسياسات الإسرائيلية، ستشكّل حالة تحد للسياسات الإسرائيلية ويمكن أن تتطور إلى حالة انفجار واسع لن تستطيع إسرائيل بالضرورة ضبطه.
وبالتالي فإن النضال الفلسطيني سيستمر رغم المحدد الإسرائيلي وسياسات إسرائيل، ليكون مناوراً ضمن متغيرات الواقع القائم وترهل الحالة الفلسطينية، وستكون تحولاته كلها مبنية على حقيقة أن الصراع له جوانبه الهوياتية والأيدلوجية والرمزية إلى جانب المعركة من أجل الأرض. وستتعزز هذه الجوانب في الصراع، في ظل التحولات التي يشهدها المجتمع والسلطة الإسرائيلية والتي تميل لليمين واليمين الفاشي بشكل واضح في السنوات الأخيرة. وهذا اليمين لن يرضى بالتخلي عن الأراضي المحتلة عام 1967 وهو يحمل معتقدات توراتية وقومية تمس بهوية وعقيدة الفلسطينيين، ما سيطيل من أمد الصراع ليبقى الترجيح في معاركه وفقاً لمعادلة النقاط، إلى أن تتغير المعادلات والموازين القائمة المحلية والإقليمية والدولية، وتؤسس لمعادلة جديدة.
إن السياسات الإسرائيلية تلعب دورا محددا للنضال الفلسطيني، وهذه العلاقة المتشابكة بين النضال الفلسطيني والسياسات الإسرائيلية ستستمر وستبقى قائمة وفيها أخذ ورد في ظل استمرار الصراع أو ما سيشهده من اتفاقيات وهدن.