ينشغل المحللون الاقتصاديون والسياسيون الآن في جميع أنحاء العالم بتبعات الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على عام 2022، بعد أن كانوا منشغلين بأزمة كوفيد-19 في عامي 2020 و2021. ولقد أصدرت مجلة الإيكونوميست تقريراً بعنوان "مستقبل العالم في 2023" وصفت فيه العالم اليوم بأنه "أكثر اضطراباً بكثير عن ذي قبل بفعل التحولات في سباق التنافس بين القوى العظمى، وتوابع الوباء، والاضطرابات الاقتصادية، والتغيرات المناخية الشديدة، والتغير الاجتماعي والتكنولوجي السريع". فماذا يحمل عام 2023 إذن لآسيا؟
ما بعد التعافي:
في خضم التقلبات الاقتصادية العالمية، تمثل آسيا بارقة أمل نسبياً، فبعد عامين من التحديات الاقتصادية الناجمة عن الوباء، والتي تصفها وكالة فيتش للتصنيف الائتماني بأنها "أكثر الفترات اضطراباً من الناحية الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية"، تمكنت آسيا النامية من التعافي في عام 2022. وعلى الرغم من التوقعات الدولية بتحسن الأوضاع في عام 2023، فإن مؤشرات بنك التنمية الآسيوي تميل إلى أن معدلات التحسن ستكون أقل قليلاً من المتوقع، حيث بلغت نسبة النمو والتوسع في آسيا 4.2٪ في عام 2022 ومن المرجح أن تزيد هذه النسبة إلى 4.6٪ في عام 2023. وكلا الرقمين أقل قليلاً من معدل النمو والتوسع المقدر سابقاً بنسبتي 4.3٪ و4.9٪ على التوالي.
وهناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذه التوقعات: أولها، استمرار حالات الإصابة بكوفيد-19 واستمرار عمليات الغلق في الصين؛ والسبب الثاني هو تأثير الحرب الروسية الأوكرانية، لا سيما على أسعار النفط وقضايا سلاسل التوريد، والسبب الثالث هو تباطؤ النمو العالمي في ظل التضخم.
وعلى صعيد الاقتصادات الكبرى بالمنطقة الآسيوية، فمن المتوقع أن تكون الصين قد شهدت زيادة في معدل النمو بنسبة 3٪ في عام 2022، مقارنةً بالتوقعات السابقة البالغة 3.3٪. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة في 2023 إلى 4.3٪، وهي أقل من التوقعات الأولية التي بلغت نسبة 4.5٪. كما أنه من المتوقع أن يحقق معدل زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي للهند بنسبة 7٪ في عام 2022 و7.2٪ في عام 2023. ومن المرجح أن تنخفض نسبة توسع كتلة جنوب شرق آسيا إلى 4.7٪ في عام 2023 بعد أن نمت بنسبة 5.5٪ في عام 2022 بفضل زيادة الاستهلاك والسياحة.
وحتى مع هذه التوقعات المعدلة، لا تزال آسيا النامية في طريقها لتحقيق أداء أفضل من المناطق الأخرى على مستوى العالم، سواء من حيث النمو أو التضخم، بيد أن وحدة الاستخبارات الاقتصادية تحذر من أن أسعار الفائدة المرتفعة ستخلق بيئة اقتصادية صعبة في آسيا في عام 2023. ونتيجة لارتفاع مستويات ديون الأسر في دول مثل أستراليا وكوريا الجنوبية، من المرجح أن يتباطأ النمو على نحو كبير.
ومن جانبها تتوقع وحدة الاستخبارات الاقتصادية كذلك أن بطء تحرر الصين من القيود التي فرضتها بسبب كوفيد-19 قد يقودها إلى تبني نهج أقل تصادمية فيما يخص الشؤون الدولية. وبالتالي، من المرجح أن يؤدي أي انخفاض في المخاطر الجيوسياسية إلى تقليل الاضطرابات التي شهدتها الأسواق في عام 2022. ولكن من المتوقع أن يتأثر نمو آسيا بدخول الاتحاد الأوروبي في حالة ركود، علاوة على توقعات تباطؤ الاقتصاد الأمريكي الحاد.
كما حذر المحللون أيضاً من أجواء التقلبات والغموض المحيطة بأسواق النفط والغاز في عام 2023، مع بقاء العلاقات بين المشتري والمورد والسياسات التجارية في دائرة الضوء. وقد يحفز ذلك استمرار المواجهة المستمرة بين أوبك+ والولايات المتحدة حول حصص الإنتاج وتأثيرها على الأسعار، والتي ستؤثر حتماً على الديناميكيات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية في آسيا. ولكن نسب النمو المتوقعة إجمالاً في آسيا تمثل أخباراً مشجعة لمنتجي النفط في الخليج والشرق الأوسط.
أما في مجال البيئة، فإن إنشاء صندوق تعويضات "الخسائر والأضرار" المناخية الناتج عن مؤتمر COP27 المناخي سلط الضوء على مخاوف الدول النامية خاصة في آسيا التي تشهد عدة اضطرابات ناتجة عن التغيرات المناخية، وهو الأمر الذي يتوقع أن يحظى بمزيد من الاهتمام في مؤتمر COP28 الذي ستستضيفه الإمارات العربية المتحدة في عام 2023.
مخاطر سياسية:
على الرغم من أن السيناريو الاقتصادي الآسيوي مبشر نسبياً، فالمشهد السياسي أقل تبشيراً، خاصة أنه من المقرر إجراء عدة انتخابات في مجموعة من دول المنطقة في عام 2023. ويتضح ذلك في الآتي:
1- أوضاع سياسية مقلقة في الجنوب الشرقي لآسيا: على الجانب الآخر، تحذر وحدة الاستخبارات الاقتصادية من مخاطر عدم وضوح الأوضاع السياسية في جنوب شرق آسيا مع التبعات التي شهدتها ماليزيا في أعقاب انتخابات 2022. وتزداد المخاوف بشأن تايلندا، حيث يبدو أن حزب رئيس الوزراء السابق، ثاكسين شيناواترا، مستعد للعودة للساحة بقوة، فابنته بايثونجتان، هي من أهم المتنافسين على منصب رئيس الوزراء المقبل، غير أن الخلاف المحتمل مع الجيش قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية ومأزق سياسي. أما في كمبوديا، فلقد ورّث رئيس وزراء المملكة، هون سين، منصبه لابنه هون مانيت – الذي تلقى تعليمه في الغرب – بعد أن تولى الأول السلطة لمدة 36 عاماً، مما يمثل تحولاً في الأجيال ينذر بتغييرات كبيرة في البلاد.
وتنتظر إندونيسيا هي الأخرى الانتخابات الرئاسية في عام 2024، وعليها أن تحدد مرشحيها الرئاسيين بحلول أكتوبر 2023. ويُعتبر حاكم جاوة، غانجار برانوو، هو المرشح الأقوى، يليه وزير الدفاع برابوو سوبيانتو وحاكم جاكرتا السابق أنيس باسويدان. ولقد أعرب المحللون عن تفاؤل حذر وسط تزايد مؤشرات القومية والطائفية في أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا.
2- تراجع شعبية رؤساء الشرق: وعلى صعيد شرق آسيا، فبعد أن حقق شينزو آبي الاستقرار السياسي في اليابان لمدة سنوات، إما بصفته رئيساً للوزراء أو بصفته شخصية رئيسية محركة لسياسات البلاد، جاءت وفاته بعصر جديد من السياسات في المجالين السياسي والاقتصادي. أما رئيس الوزراء فوميو كيشيدا فهو يخوض معركة هائلة لدعم أرقام شعبيته وشعبية حزبه وسط الكثير من الجدل والتضخم. وبمقدور الحزمة الاقتصادية البالغة 200 مليار دولار أن تخفف بعض الضغط، لكن التحول الكبير في الإنفاق الياباني نحو مجال الدفاع – الذي تضاعف من 1٪ إلى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي – قد يؤدي إلى ضغوط مالية أخرى، بما في ذلك زيادة الضرائب على الشركات. ومن المقرر أيضاً أن تستضيف اليابان قمة مجموعة السبع المقبلة، وقد تشهد البلاد اقتراعاً مبكراً بناءً على مدى شعبية رئيس الوزراء كيشيدا.
وقد يواجه رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، تحديات سياسية في عام 2023، مما قد يؤثر على اقتصاد البلاد، وذلك بسبب استمرار اختبار كوريا الشمالية للصواريخ، وصعوبة البيئة الاقتصادية وتداعيات التدافع الذي أودى بحياة حوالي 150 شخصاً في كوريا الجنوبية.
3- تصاعد المنافسة السياسية بالجنوب: باكستان هي الأخرى على أعتاب انتخابات بعد الأحداث الدرامية الهائلة التي شهدتها في عام 2022، ومنها قبول مقترح من البرلمان لسحب الثقة من رئيس الوزراء عمران خان، وتعرضه لمحاولة اغتيال، بالإضافة إلى إطاحته من السلطة على يد شهباز شريف، شقيق رئيس الوزراء السابق نواز شريف. أضف إلى ذلك أن احتداد المنافسة بين العديد من الأحزاب السياسية قد يمثل عدداً من التحديات أمام بلد منقسم ذي اقتصاد راكد. ومن المقرر أيضاً أن تبدأ الانتخابات في بنغلاديش، التي تعد واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، وسوف تتكشف حينها فرص حكومة الشيخة حسينة واجد التي تولت الحكم منذ عام 2009.
ومن المتوقع أن تستفيد الهند من قيام الشركات والدول بتقليل اعتمادها على الصين. ومن المتوقع كذلك أن تأتي سلسلة من الصفقات والاستثمارات الاقتصادية التي قامت بها الهند بثمارها في عام 2023، مما قد يصب في مصلحة الحزب الحاكم بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي في الانتخابات البرلمانية لعام 2024. وبفضل استضافة الهند قمة مجموعة العشرين، ستحظى القضايا التي تهم جنوب الكرة الأرضية بمزيد من الاهتمام.
ومن المتوقع أن الخلاف الحدودي بين الهند والصين، والتوتر الأيديولوجي بين الهند وباكستان، سيشغل انتباه الدول المعنية والمجتمع الدولي خلال العام القادم، ولكن من غير المرجح أن تخرج هذه الأمور عن السيطرة.
4- ترقب آسيوي حذر للحرب الصينية الأمريكية: على صعيد السياسة الخارجية، من المرجح أن تؤدي عودة زيارات الرئيس الصيني شي جين بينغ الخارجية خلال عام 2022 إلى تعزيز الدبلوماسية خلال عام 2023. ومن المرجح أن تكون الصين حذرة في دعمها لروسيا على الرغم من خلافات الصين مع الولايات المتحدة. وقد يؤدي الاجتماع الودي غير المتوقع بين الرئيس شي والرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منع المزيد من التدهور في العلاقات الثنائية على الرغم من خلافاتهما بشأن تايوان. ولكن سيظل التوتر محتداً بينهما حول القضايا المتعلقة بالتكنولوجيا وأشباه الموصلات والمعادن المكررة والعناصر المعدنية، فضلاً عن المواد المطلوبة لانتقال الطاقة المستدام وتغير المناخ في العموم.
وترى شركة الاستشارات العالمية Control Risks أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين هي أكبر المخاطر الجيوسياسية في عام 2023. وتشعر دول جنوب شرق آسيا بالقلق من أن أي مواجهة بين الولايات المتحدة والصين ستؤثر عليها تأثيراً كبيراً على الرغم من استبعاد أغلب التقييمات لنشوب صراع بين القوتين.
وسيكون من المثير للاهتمام متابعة إلى متى سينتهي تحالف الولايات المتحدة واليابان وكوريا وتايوان الرباعي المسمى (Chip4) ضد الصين، والذي يتمحور حول ضوابط التصدير وسلاسل التوريد، لا سيما أشباه الموصلات. إن نجاح مثل هذه التحالفات وغيرها مثل (I2U2) الذي يجمع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة) قد يحدد طبيعة الشراكات الجديدة الجيواقتصادية والجيوسياسية المصغرة التي تتوسط كلاً من الجهود الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف.
في الختام، وفقاً لتوقعات إيان بريمر، رئيس شركة اوراسيا جروب EuroAsia Group للمخاطر السياسية، فإن الجغرافيا السياسية في المستقبل لن تستند إلى نظام عالمي واحد، بل على أنظمة متعددة ومتعايشة، في ظل وجود جهات فاعلة مختلفة تقوم بدور القائد لإدارة مختلف أنواع التحديات". ويذكر بريمر في تقييمه "إلى أين نتجه في عام 2023؟" أن الولايات المتحدة هي من ستقود نظام الأمن العالمي، وسيعتمد النظام الاقتصادي العالمي على أداء الصين، وستتولى شركات التكنولوجيا العملاقة قيادة النظام الرقمي العالمي، في الوقت الذي يتسم فيه نظام المناخ العالمي بأنه "متعدد الأقطاب والأطراف" بالفعل.
وستصبح دول آسيوية عديدة – لا سيما تلك المؤهلة لتكون قوى وسطى– من بين تلك الجهات الفاعلة التي تقدم حلولاً لمشكلات عالمية متنوعة. ومن المرجح أن يشهد النظام (أو بالأحرى عدم النظام) العالمي الجديد الناشئ المزيد من صور التعاون، والتي ستسيطر عليها قضايا نقل المعرفة الاقتصادية والتكنولوجية، وليس قضايا التحالفات السياسية والأمنية، وهو ما سيسهم في تقدم آسيا المستمر.