أثار انتشار متحور أوميكرون في الصين بنهاية العام الماضي مخاوف الدول والخبراء على حد سواء، الذين كانوا يُمنُّون النفس بأن يكون عام 2023 هو عام عودة النشاط الاقتصادي إلى مُعدَّلاته قبل انتشار الجائحة. ومن عوامل القلق المتزايد من انتشار متحور الفيروس السرعة التي يمكن أن ينتشر بها في دولة مثل الصين التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار شخص، غير مُحصَّنين بالشكل الكافي باللقاحات اللازمة، فضلاً عن التشكك في مدى امتلاك بكين أدوات الرعاية الصحية اللازمة لعلاج موجة العدوى المتوقع أن تصيب أكثر من مليون شخص بحسب بعض التقديرات.
هذا وإن كانت التقديرات الطبية الأولية ترجح أن هذه الموجة سريعة الانتشار، إلا أن الآراء قد اختلفت حول مدى تسببها في أعراض قاتلة مثل موجة الانتشار الأصلية، وهو ما يُنصح معه باتباع الإجراءات الاحترازية اللازمة لحين التعافي من الأعراض. وفي السياق ذاته، من الجدير بالاهتمام رصد أهم التداعيات التي قد يخلفها انتشار هذا المتحور الجديد على الصعيد الداخلي في الصين، فضلاً عن الآثار العالمية الأخرى التي قد يُرتِّبها، على ضوء أن تداعيات انتشار فيروس كورونا كانت العامل الأهم في تشكيل السياسات الداخلية والخارجية خلال العامين المنصرمين.
تحديات داخلية
تنطوي الموجة الجديدة لفيروس كورونا على ضغوط داخلية محتملة على الصين، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1– تصاعد الضغوط على قطاع الصحة في الصين: اعتمدت الصين في سياسة “صفر كوفيد” التي اتبعتها أثناء انتشار الجائحة خلال العامين السابقين، على القيود الكبيرة التي فرضتها على النشاط الاقتصادي، وحركة المواطنين أكثر من حملات التوعية والتوسع في إعطاء اللقاحات لكافة المواطنين.
وفي ظل صعوبة التنبؤ بوضع القطاع الصحي في الصين من جراء انتشار المتحور الجديد للفيروس نظراً إلى التعتيم المعلوماتي السائد، فإن الخبراء استطاعوا استخلاص بعض التقديرات قياساً على تجارب الدول الأخرى التي انفتحت بعد تطبيق سياسة “زيرو كوفيد” الشبيهة؛ فقد توقعت شركة Airfinity – وهي شركة مقرها المملكة المتحدة ومتخصصة في تحليل البيانات في علوم الحياة – حدوث 1.7 مليون حالة إصابة شديدة أو وفاة بحلول أبريل في الصين من جراء انتشار المتحور المشار إليه، مع ترجيح عدم جسامة الأعراض مثل الفيروس الأصلي؛ وذلك قياساً على نموذج هونج كونج، التي شهدت انفجاراً سريعاً للمرض ومعدلات الإصابة في أوائل عام 2022 عندما وصل متحور omicron إلى البلاد.
وتتشابه حالة هونج كونج مع الصين من حيث إن معدلات التطعيم منخفضة، فضلاً عن تطبيقها سياسة “صفر كوفيد”، ومع ذلك لم تكن قادرة على احتواء انتشار أوميكرون. وبالإضافة إلى التوقعات السابقة، قام معهد القياسات الصحية والتقييم (IHME) بجامعة جورج واشنطن بوضع نموذج لتفشي المرض وتوقع حدوث 300.000 حالة إصابة شديدة الأعراض في الصين بحلول الأول من أبريل، وقد يصل هذا الرقم إلى 1.25 مليون بحلول نهاية العام.
2– تفاقم المشكلات الاقتصادية وتزايد الخسائر: مع أنباء انتشار المتحور أوميكرون في الصين، بأنواعه الفرعية المتعددة، شهدت البورصة الصينية خسائر معتبرة، كما شهدت بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية اختلالات متسارعة؛ وذلك نتيجة الخوف المصاحب لهذه الظاهرة. لذلك من المتوقع أن تعيد الحكومة الصينية بعض القيود المفروضة على حركة النشاط الاقتصادي، وهو ما ينبئ بمواصلة تباطؤ معدلات النمو خلال الربع الأول من العام الحالي لتُحقق 2% على أفضل تقدير، وربما يستمر هذا الاتجاه إذا ما استمرت حالات الإصابة عند معدلات مرتفعة (قد لا تحقق الصين النمو الاقتصادي المستهدف بـ3% مع نهاية العام).
يُضاف إلى ما تقدم بداية تأثر حركة السياحة والتنقل من الصين وإليها بانتشار المتحور؛ حيث بدأت اليابان وكوريا على سبيل المثال تفرض بعض القيود المرتبطة بالسفر إلى الصين لأغراض التجارة أو السياحة، وهو ما يتوقع معه تأثر حركة التجارة والسياحة مع دول الجوار، حتى إن كان هذا التأثر غير جوهري في الوقت الراهن.
3– احتمالية تزايد الضغوط السياسية على النظام الحاكم: خلال فترة انتشار الجائحة الرئيسية عامي 2019 و2020 ثم فترة إنتاج وتوزيع اللقاحات خلال عامي 2021 و2022، كانت الأدوات الإعلامية لنظام شي جين بينج كثيراً ما تدفع بأن نظام الحزب الواحد، المتبع في الصين، هو الأقدر على إدارة خطر انتشار الجائحة والحفاظ على مواطنيه من المخاطر الصحية التي يفرضها؛ وذلك استناداً إلى مركزية اتخاذ القرارات في وضع صحي حرج، فضلاً عن قدرته الأكبر على فرض السيطرة على حركة المواطنين لتحجيم انتشار المرض، ناهيك عن تمكُّنه من اتخاذ قرارات تحويل اعتمادات إضافية للقطاع الصحي دون الحاجة إلى دخول لعبة سياسية قد تؤدي إلى تعطيل هذه القرارات بناءً على مصالح حزبية ضيقة.
ورغم نجاح شي جين بينج في الحصول على ولاية رئاسية ثالثة خلال المؤتمر الوطني الأخير للحزب الشيوعي، فإن انتشار المتحور من جديد في الصين بمعدلات قياسية، قد فتح الباب أمام الانتقادات الداخلية والشكوك على المستوى الشعبي إزاء مصداقية الرواية التي يروجها النظام الشيوعي الصيني، حتى إن لم تتجسد هذه الشكوك في صورة احتجاجات أو تظاهرات كظواهر غير معتادة الحدوث في الصين.
مع ذلك، يهتم نظام شي جين بينج بقياس توجُّهات الرأي العام، ويسعى لترويضه لصالح أهداف الحزب؛ وذلك بإثارة بعض المسائل ذات الاتفاق العام، مثل قضية تايوان، لإلهاء الرأي العام الداخلي عن التحديات الحقيقية التي تواجه الصين، مثل قدرة الحكومة على التصدي للمتحور الفيروسي أو تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي.
4– التأثير السلبي على سلاسل إمداد قطاع التكنولوجيا: لا يمكن إغفال أن عودة انتشار فيروس كورونا في الصين ينعكس سلباً على أداء سلاسل إمداد قطاع التكنولوجيا، وخصوصاً أن القطاع يعاني بالفعل من أزمات حادة ظهرت ملامحها مع التقارير التي تحدثت في الآونة الأخيرة عن إخطار شركة Apple الأمريكية عمالها بضرورة تقليل الإنتاج من الـ”إير بودز” والـ”ماك بوك” خلال الربع الأول في عام 2023 نتيجةً لتراجع معدلات الطلب في الصين وتزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا. علاوة على ذلك، فإن شركات التكنولوجيا في الصين باتت تعاني من توفير العمال لاستكمال معدلات الإنتاج، في ظل استقالة العديد منهم لتجنب الإصابة بفيروس كورونا، وهو ما دفع بعض الشركات إلى مضاعفة الأجور من أجل استقطاب أكبر قدر من العمال؛ فعلى سبيل المثال، عرضت شركة فوكسون (إحدى أهم الشركات في صناعة الأيفون)، زيادة قدرها نحو ألفَي دولار من أجل استقطاب الموظفين لاستكمال أعمالها في الصين.
الآثار الدولية
لا تقتصر تداعيات موجة كوفيد الجديدة على الداخل الصيني، لكنها تستدعي أيضاً عدداً من الآثار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للصين وعلاقاتها بالقوى الأخرى، ويمكن تناول أهم هذه الإشكاليات فيما يلي:
1– توفير ورقة ضغط قد تستخدمها الدول الغربية: في الوقت الذي قد تستغل فيه الحكومة الصينية انتشار المتحور الجديد لإلهاء الرأي العام الداخلي عن تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي واستخدامه ذريعةً حال عدم تحقيق تحسُّن في هذه المعدلات خلال عام 2023، فإن الدول الغربية أيضاً قد تستخدمه ورقة ضغط على بكين في الوقت المناسب؛ فمن وجهة نظر هذه الدول، فإن انتشار المتحور في الصين بكثافة يثبت عدم فاعلية اللقاحات الصينية في الوقاية من هذا النوع من الفيروسات من جانب، كما يثبت عدم تفوق النظام الشيوعي في إدارة هذا النوع من الأزمات حسبما كان يروج داخلياً في الصين من جانب آخر.
2– تجدد الاتهامات الدولية للصين بتبني سياسة التعتيم: جددت الموجة الجديدة لإصابات كورونا، الاتهامات الدولية الموجهة للصين بتبني سياسة التعتيم، وهي الاتهامات التي أطلقت في بدايات انتشار الفيروس في نهاية عام 2019. ودلل على ذلك، تصريحات “مايك رايان” مدير الطوارئ بمنظمة الصحة العالمية في إفادة صحفية، يوم 4 يناير الجاري، التي أشار خلالها إلى أن "الأرقام الحالية التي تقدمها الصين بشأن حالات كورونا لا تمثل الأعداد الحقيقية لحالات دخول المستشفيات ووحدات العناية المركزة، وبخاصة فيما يتعلق بالوفيات".
3– التوسع في الإجراءات الاحترازية ضد المسافرين القادمين من الصين: يفضي الانتشار السريع لفيروس كورونا مجدداً في الصين إلى تبني العديد من الدول إجراءات احترازية مشددة ضد المسافرين القادمين من هناك. صحيح أن بعض مسؤولي الدول الغربية يستبعدون فرض حظر فيما يتعلق بالسفر/ سواء من الصين وإليها أو غيرها من الدول؛ حيث إن هذه الإجراءات سيكون أثرها فقط هو تحجيم هذه السلالة من الانتشار بصورة وقتية رغم انتشار سلالات شبيهة، وقد يكون منها ما هو أخطر في أوروبا والولايات المتحدة والعالم بأسره. ومع ذلك، بدأت بعض الدول – وعلى رأسها الولايات المتحدة والهند وإيطاليا واليابان – تفرض بعض القيود الجزئية، وتشترط الحصول على مسحة سلبية من المسافرين القادمين من الصين قبل الرحلة بـ48 ساعة أياً كانت جنسياتهم.
اللافت أن هذه الإجراءات استدعت رد فعل من قبل بكين؛ حيث انتقدت الخارجية الصينية، في بيان لها يوم 3 يناير الجاري، الإجراءات التي فرضتها عدة دول على دخول الوافدين من الصين بسبب فيروس كورونا، ووصفت بعض الإجراءات بأنها مفرطة وغير مقبولة، كما هددت بالرد بـ "إجراءات مناسبة".
مع هذا، لا يتوقع فرض قيود معتبرة من شأنها التأثير على حركة السفر بصورة حادة، خاصةً أن هذه الدول تسعى جاهدة هي الأخرى إلى استعادة وتيرة النشاط الاقتصادي إلى مستوياته المعهودة، وارتباطها جميعاً بالصين بعلاقات تجارية هامة.
4– إنتاج سياق ممكن للتعاون الدولي: بالرغم من التوترات التي نجمت عن الموجة الجديدة لفيروس كورونا في الصين، فإن هذه الموجة ربما تخلق سياقاً ممكناً للتعاون الدولي، ومع تواتر أنباء انتشار أوميكرون في الصين، بدأت بعض الدول الغربية (مثل الولايات المتحدة وبريطانيا) تعلن عن استعدادها لإرسال جرعات مجانية من اللقاحات الغربية BioNTech للشعب الصيني. وعرض الاتحاد الأوروبي على الصين تقديم لقاحات ومساعدات طبية للمساعدة في مكافحة انتشار فيروس كورونا من أجل تقليل التداعيات السلبية على الاقتصاد، والحفاظ على مصالح الشركات الأوروبية التي توجد في الصين، والعلاقات التجارية المتزايدة بين البلدين، كما تواترت أنباء عن قيام شركة Pfizer الأمريكية بالتعاقد بالفعل مع شركة محلية صينية لتوفير اللقاحات عن طريقها.
الخلاصة: رغم ما يثيره الانتشار الواسع لمتحور كورونا في الصين من مخاوف داخلية وتوقعات بعودة فرض بعض القيود الاحترازية من الحكومة الصينية، وما قد يصاحب ذلك من تأثير على معدلات النمو المستهدفة؛ فإنه لا يُتوقع أن يصاحب ذلك قيود معتبرة على المستوى العالمي، نظراً إلى انتشار المتحور ومشتقاته بالفعل في معظم دول العالم منذ أكثر من عام. ومع هذا، فإن انتشار هذا المتحور سيمثل تحدياً جديداً للحكومة الصينية لإثبات صدق ما كانت تروجه عن نفسها، فضلاً عن تمثيله ورقة ضغط قد تستخدمها الدول الأوروبية على بكين وفقاً لاعتبارات المواءمات السياسية.