أثارت مسيرات من أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو الشغب في العاصمة البرازيلية برازيليا في 8 يناير 2023، في مشهد عبثي يلائم تيار اليمين المتطرف الشعبوي المتصاعد في النصف الغربي من العالم.
فقد قرر مئات من أنصار بولسونارو التعبير عن رفضهم لتسلم الرئيس المنتخب لولا دا سيلفا لمقاليد الرئاسة منذ 1 يناير الحالي، من خلال الخروج في مسيرات احتجاج واقتحام لمؤسسات حكومية في خطة محكمة، مرتدين اللونين الأصفر والأخضر، حاملين علم البرازيل رافعين شعار حملة بولسونارو -الرئيس الخاسر في الانتخابات الأخيرة- وهو علم الدولة واسم البرازيل واسم "الله".
وقد كانت هذه كلها إشارات توضح المعنى الحقيقي لليمين المتطرف الشعبوي في البرازيل، ذلك التيار الذي لا يعتبر نفسه تياراً أو حزباً سياسياً يدخل في منافسة سياسية أو يحمل برنامجاً انتخابياً، بل يعتبر نفسه الممثل الوحيد للوطنية باحتكاره علم الدولة، والممثل الوحيد للدين والأخلاق باحتكاره اسم الله.
هذا التيار هو جزء من تيار اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة، القائم على فكرة الاستعلاء ورفض الديمقراطية، بل قبولها فقط للوصول إلى السلطة.
ما حدث في برازيليا يتشابه كثيراً مع ما قام به أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في اقتحام الكابيتول في يناير منذ عامين. والقضية تتلخص في رفض المسار الديمقراطي وفي تبني أفكار شديدة التطرف والتسليم شبه الكامل بنظريات المؤامرة.
الأحد "الحزين"
تحرك أنصار الرئيس السابق بولسونارو منذ الساعات الأولى من يوم الأحد، 8 يناير الجاري، في العاصمة برازيليا لاقتحام المحكمة العليا ومبنى الكونجرس وبعض مقرات الوزارات ومحاصرة القصر الرئاسي. وقد عاد لولا دا سيلفا من زيارته لساوباولو وأعلن حالة الطوارئ وأرسل قوات الحرس الوطني إلى العاصمة لاستعادة النظام. كما أمر بإغلاق وسط العاصمة، بما في ذلك الشارع الرئيسي حيث توجد المباني الحكومية لمدة 24 ساعة.
واستعادت الشرطة السيطرة على المباني بعد ساعات من الاشتباكات مع مثيري الشغب والمتظاهرين. وقد أعلن مسئولوها عن اعتقال 300 شخص وتعهدوا بتعقب المتورطين الآخرين. كما صرح وزير العدل، فلافيو دينو، بأن الحكومة تسعى للحصول على معلومات عن خطط لتنفيذ عمليات إرهابية من قبل مثيري الشغب من أنصار بولسونارو.
وفي صبيحة اليوم التالي، الإثنين 9 يناير، توجهت قوات من الشرطة لمواجهة عدد من المعسكرات أو التجمعات التي شكلها أنصار بولسونارو أمام عدد من ثكنات الجيش في جميع أنحاء البلاد منذ انتخابات أكتوبر الماضي.
ردود فعل متباينة
على الرغم من حقيقة أن الرئيس لولا دا سيلفا يواجه فترة رئاسية شديدة الصعوبة لكونها فترة مبنية على فوز بهامش ضئيل للغاية أمام منافسه اليميني الشعبوي، حيث أنه يحكم بلداً صوت فيه 49.1% من الناخبين ضده، وهو ما يعني حالة استقطاب حاد، إلا أن أحداث الشغب الأخيرة يمكن اعتبارها "هدية مجانية" ودفعة إلى الأمام حصل عليها لولا رئيس تيار اليسار. ذلك أن رد الفعل الداخلي والخارجي كان داعماً له ومناوئاً لخصمه المنتهية ولايته، بل إن تلك الأحداث حولت لولا دا سيلفا في أول أسبوع رئاسي من زعيم لتيار اليسار إلى عنوان لحماية المسار الديمقراطي في البرازيل. في حين وضعت بولسونارو وأنصاره في خانة المناوئين للديمقراطية والخارجين على القانون وعن مسار الديمقراطية في البرازيل.
دولياً، ندد كثير من رؤساء دول أمريكا اللاتينية بأحداث الشغب. إذ قال الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إن "الفاشية قررت القيام بانقلاب". وكذلك أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه يدين "الاعتداء على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في البرازيل"، في حين قال المستشار الألماني أولاف شولتز "الهجوم على الديمقراطية ... لا يمكن التسامح معه". هذا إلى جانب مواقف روسيا والصين وبريطانيا وتركيا الداعمة للرئيس دا سيلفا باعتباره ممثلاً للمسار الديمقراطي.
وعلى المستوى المحلي، وبعد ساعات من أحداث الشغب، أقالت المحكمة العليا حاكم العاصمة برازيليا، إيبانييس روشا، من منصبه، حيث اتهمه القاضي ألكسندر دي مورايس بالفشل في منع أعمال الشغب والتزامه "الصمت المؤلم" في مواجهة الهجوم، رغم اعتذار روشا عن أحداث يوم الأحد.
كذلك أقيل أندرسون توريس، رئيس الأمن في برازيليا ووزير العدل السابق في عهد الرئيس السابق جاير بولسونارو. كما حددت السلطات الحافلات التي نقلت المتظاهرين من باقي أنحاء البلاد، وتحاول معرفة من دفع ثمنها.
وقد أطلق لولا لقب "غزاة الكونجرس" على المتظاهرين ومثيري الشغب. وعلى الرغم من أن الرئيس السابق بولسونارو قد أعلن من ولاية فلوريدا الأمريكية رفضه لأحداث يوم الأحد، إلا أنه أصبح أمام الرأي العام البرازيلي والعالمي مسئولاً بدرجة ما عن أحداث الشغب، وذلك لعدد من الأسباب، منها، رفضه الاعتراف بنتيجة الانتخابات منذ أكتوبر الماضي، ورفضه تسليم شارة الرئاسة لخلفه الرئيس دا سيلفا يوم استلامه السلطة كما هو معتاد في المراسم البرازيلية، فضلاً عن سفره خارج البلاد أثناء مراسم تسليم السلطة، وهو ما اعتبره المحللون إشارات ضمنية لتحريك أنصاره للتعبير العنيف عن رفض تسليم السلطة للرئيس دا سيلفا.
وتلخيصاً لهذا المشهد، فإن لولا دا سيلفا يبدأ فترة رئاسته متسلحاً بإدانة دولية للتيار المعارض له، بل ووصماً للمعارضة بانتهاك الديمقراطية والقانون، وهو وصم مدعوم بصور ومقاطع فيديو وإدانات رسمية دولية وإقليمية ومحلية، حتى من كثير ممن صوتوا ضده في الانتخابات الأخيرة. فضلاً عن ذلك، فإن ثمة شبهات بالتواطؤ بدأت تطول مسئولين حكوميين وأمنيين بل وبولسونارو نفسه، إلى جانب مئات من مثيري الشغب من أنصاره، على نحو سيطلق يد لولا دا سيلفا لمحاصرة ومعاقبة ليس فقط مثيري الشغب ولكن دوائر أوسع من المعارضة في إطار حماية القانون والأمن والمسار الديمقراطي في مجمله.
تحديات في مواجهة لولا
يبقى السؤال: كيف سيواجه لولا دا سيلفا كل هذه المشكلات في فترة رئاسته الثالثة؟. مما لا شك فيه أن لولا، ذلك الزعيم صاحب الشعبية الجارفة منذ توليه الرئاسة لأول مرة في يناير 2003 وحتى نهاية فترته الثانية في نهاية 2010، لم يعد هو ذاته لولا، الرئيس الحالي ذو الـ77 عاماً والمثقل بالسجن لمدة 18 شهر والاتهام بالفساد رغم سقوط التهمة.
فقد استطاع لولا- المناضل العمالي والزعيم اليساري- أن يحكم البرازيل في فترة حرجة (2003-2010) مدعوماً بثقة الناس وأيضاً مقدرات اقتصادية كبيرة بسبب طفرة ارتفاع أسعار المواد الخام، فضلاً عن كوادر مثقفة وخبرات سياسية واقتصادية كبيرة في حزب العمال، مما مكنه من صناعة "معجزات" اقتصادية وسياسية كبرى نقلت البرازيل من ركود اقتصادي وديون كبيرة إلى خامس أقوى اقتصاد في العالم، وإلى قطب سياسي صاعد يشارك في تشكيل البريكس والتكتلات الاقتصادية الإقليمية المهمة بل والطموح للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.
كل ذلك تآكل تدريجياً عقب خروجه من الرئاسة، ووصول نائبته ديلما روسيف للرئاسة. ولأسباب عديدة، تراجعت شعبية حزب العمال وتيار اليسار كله بل وأيضاً تيار يمين الوسط بسبب المشكلات الاقتصادية وصدمة قضايا الفساد الكبرى التي طالت معظم السياسيين من التيارين اليسار واليمين على حد سواء وكافة المؤسسات الرسمية في الدولة.
كل تلك الأسباب وغيرها مهدت الطريق أمام بولسونارو للفوز بالانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2018. كان فوز بولسونارو ممثل اليمين المتطرف الشعبوي تعبيراً عن غضب البرازيليين من الأحزاب السياسية التقليدية من اليمين واليسار على حد سواء.
لكن أداء بولسونارو الشعبوي وخاصة في التعامل مع جائحة كوفيد- 19، والتي اعتبرها كذبة ومؤامرة ومن ثم رفض اتخاذ أي إجراءات احترازية مما أدى إلى إصابات وصلت إلى 36.5 مليون إصابة ووفيات وصلت إلى 695 ألف حالة وفاة، إلى جانب حدوث إخفاقات اقتصادية كبرى وتجاوزات في حق الأقليات والبيئة وغيرها من القضايا، كل ذلك قلل من فرصه في الحصول على فترة رئاسة ثانية – كما هو معتاد في البرازيل – ومن هنا كانت الفرصة متاحة أمام لولا دا سيلفا رغم كل ما سبق قوله في حق تراجع شعبيته وشعبية حزب العمال، للفوز بهامش بسيط بفترة رئاسية ثالثة، لكن مع الأخذ في الاعتبار أنها فترة شديدة الصعوبة لاستعادة "شيء" من الثقة في تيار اليسار بل والمسار السياسي التقليدي في البرازيل.
على ضوء ذلك، يمكن القول إن لولا دا سيلفا أمامه تحديات كبرى، فعليه أولاً أن يثبت من جديد أن الديمقراطية هي المسار القانوني السليم لحصول المواطن البرازيلي على حقوقه وأمنه. ويفترض أن يثبت ثانياً أن برنامج حزب العمال وتيار اليسار هو المسار السياسي الأفضل لحصول المواطن البرازيلي على الخدمات من التعليم والصحة والغذاء بصورة أكثر عدالة.
ويقتضي منصبه ثالثاً أن يثبت أنه كرئيس وحكومته الائتلافية قادرين على حل الأزمات الاقتصادية وتوفير فرص عمل للشباب وحل مشاكل الأمن والفساد – رغم كونه مداناً سابقاً في قضايا الفساد. وعليه رابعاً الانتقال من كل هذه الكبوات الداخلية لاستعادة الثقة والشعبية والسمعة للخروج مرة أخرى إقليمياً ودولياً للنقطة التي أوصل إليها البرازيل في 2010 قبل مغادرته منصب الرئيس بعد ولايتين تستحق أن تدرس كقصة نجاح لرئيس بدأ مناضلاً عمالياً وانتهى رئيساً لخامس أقوى اقتصاد في العالم.
فهل يقدم لنا لولا "العجوز" الآن قصة نجاح جديدة مع كل هذه العثرات؟، وهل يستطيع أن يقدم إجابة أو حلول لهذه التحديات الأربعة الكبرى؟، وهل سيكون هذا المشهد العبثي الذي نتابعه منذ الأحد "الحزين" قبلة حياة لفترة رئاسة لولا دا سيلفا الثالثة؟، وهل يتحول لولا إلى "محارب" لقوى الخرافة ومعارضى الديمقراطية واليمين الشعبوي المتطرف غير العقلاني؟
من المؤكد أن الأيام القادمة ستحمل الكثير من التفاصيل المهمة في رابع أكبر ديمقراطية في العالم.