• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05

كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال خطابه الذي ألقاه في 20 يناير الجاري (2023)، بقاعدة "مون دي مارسان" الجوية، عن ملامح مشروع قانون البرمجة العسكرية للفترة (2024 : 2030) الذي من المنتظر أن يناقشه البرلمان في شهر مارس المقبل، وأهمها زيادة الميزانية العسكرية لفرنسا إلى 400 مليار يورو، مع 13 مليار يورو إضافية في الإيرادات تأتي من مبيعات الأصول، أي إنفاق إجمالي يقدر بـ 413 مليار يورو، ارتفاعًا من 295 مليار يورو في الميزانية السابقة التي سبق إقرارها للفترة (2019 : 2025)، ما يعني زيادة بنسبة 40% في الإنفاق الدفاعي الفرنسي، ووصوله إلى 59 مليار يورو سنويًا حتى نهاية عام 2030، مقابل 42 مليار يورو في الخطة الحالية.

اقتصاد حرب

تعكس ملامح مشروع قانون البرمجة العسكرية الجديد في فرنسا التوجهات الحكومية التي سبق وأعلنها الرئيس الفرنسي، في يونيو 2022، للتكيف مع دخول فرنسا إلى مرحلة "اقتصاد الحرب"، التي تقتضي استعداد صناعة الدفاع الفرنسية لضمان وزيادة إنتاجها استجابة لمتطلبات الحرب المستمرة، حيث طلب ماكرون من وزير القوات المسلحة ورئيس الأركان إعادة تقييم قانون البرمجة العسكرية (2019 : 2025) بهدف تكييف الوسائل مع التهديدات، على خلفية المستجدات التي فرضتها الحرب الأوكرانية، وتصاعد التهديدات، بحيث يتوافق مع الوضع الجيوسياسي الجديد ودخول البلاد في اقتصاد حرب.

 ودعا الرئيس الفرنسي الشركات الدفاعية الفرنسية للمضي قُدمًا في "اقتصاد الحرب" من أجل تعزيز القدرات والصناعات الدفاعية الفرنسية وزيادة معدلات الإنتاج. ولذلك فإن مشروع قانون البرمجة العسكرية الجديد يأتي بهدف تحديث الجيش وتهيئته لمواجهة التحديات والصراعات المستقبلية التي تدرك الإدارة الفرنسية أنها ستكون شديدة الحدة، وتزايد المخاطر الإقليمية بالشكل الذي يستدعي تزايد الجهود الدفاعية للاستعداد لها ومواجهتها عبر زيادة القوة وتعزيز سرعة التحرك تجاه النزاعات المحتملة.

وبينما كانت تهدف ميزانية (2019: 2025) الدفاعية إلى إصلاح القوات المسلحة والبدء في بناء قدرات احتياطية بعد قصور وتراجع في الاستثمار الدفاعي خلال العقود السابقة، وتخفيض الميزانية الدفاعية، فإن مشروع ميزانية (2024: 2030) يعتبر بمثابة برنامج تحول لإعداد الجيش لاحتمال نشوب صراعات شديدة الحدة، والتعامل مع عصر جديد يتسم بـ "تراكم التهديدات" على حد تعبير الرئيس الفرنسي، والاستجابة السريعة لها.

وتُمثّل تلك الميزانية المنتظرة حال إقرارها قفزة ملحوظة في السياسة الدفاعية الفرنسية، مدفوعة بالتداعيات الاستراتيجية للحرب الأوكرانية التي نبهت الإدارة الفرنسية إلى ضرورة إجراء تغييرات في السياسة الدفاعية وحجم ومحاور الإنفاق الدفاعي. فبينما دفعت الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا عام 2015 إلى تحول الحكومة الفرنسية عن سياسة التقشف المالي الدفاعي وعمليات إلغاء الوظائف الدفاعية التي كانت تنتهجها، فإن معدلات الإنفاق ظلت أيضًا في مستويات لا تُرضي بعض قادة الجيش الفرنسي.

إذ شهد عام 2017 استقالة رئيس أركان الجيش الفرنسي، بيير دو فيلييه، من منصبه، بعد خلاف حاد مع الرئيس إيمانويل ماكرون، حول خفض الميزانية الدفاعية إلى الحد الذي دفعه إلى اعتبار إنه لم يعد بإمكانه ضمان قوة الدفاع الضرورية من أجل حماية فرنسا، حيث جرى حينها خفض ميزانية الإنفاق العسكري لعام 2017 بمبلغ 850 مليون يورو، معظمه من ميزانية شراء المعدات. ووفقاً لحديث وزير القوات المسلحة الفرنسية، سيباستيان ليكورنو، في جلسة استماع أمام لجنة الدفاع بالجمعية الوطنية الفرنسية، في أكتوبر 2022، فإن حكومته تخطط لإنفاق 2 مليار يورو في عام 2023 بزيادة قدرها 500 مليون يورو عن عام 2022، لتصل نسبة زيادة الميزانية الدفاعية الفرنسية في عام 2023 مقارنة بعام 2019 إلى 60٪.

وبالإضافة إلى هواجس الأمن الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، فإن زيادة الإنفاق العسكري الفرنسي يستهدف تعزيز قدرة الجيش الفرنسي على حماية المصالح الفرنسية خارج القارة الأوروبية أيضًا، وخاصة في منطقة "آسيا – المحيط الهادئ"، وتوجيه ضربات للأطراف التي قد تستهدف المصالح الفرنسية هناك، وعلى رأسها الصين، وذلك فضلاً عن عوامل محلية مثل الهجمات الإرهابية، حيث تشغل الأوضاع المحلية جانبًا هامًا من أولويات الإنفاق الدفاعي الفرنسي في ظل استعداد باريس لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية 2024.

مستهدفات الإنفاق

تهدف الإدارة الفرنسية من قانون البرمجة العسكرية وزيادة الإنفاق الدفاعي إلى تلبية عدد من المستهدفات، منها إقامة دورات إنتاج مُثلى لتلبية احتياجات القوات المسلحة أو للاستجابة لاحتياجات الشركاء الأوروبيين مثل أوكرانيا. فضلاً عن مضاعفة عدد جنود الاحتياط البالغ، وتعزيز الاستعدادات الدفاعية للجيش الفرنسي، وكذلك مضاعفة ميزانية الاستخبارات العسكرية ومديرية الاستخبارات والأمن الدفاعي بنسبة 60% بهدف استباق الصراعات العسكرية، وشن حروب استباقية إذا اقتضت الظروف، وكذلك رفع كفاءة دورها المتعلق بالتوقع وتعزيز جاهزية البلاد للتهديدات غير المتوقعة وجمع المعلومات الاستخبارية، خاصةً أن رئيس الاستخبارات العسكرية الفرنسية، الجنرال إريك فيدو، أُقيل من منصبه، في مارس 2022، على خلفية فشله في توقع الحرب الروسية على أوكرانيا، وعدم تقديم إفادات وافية، والافتقار إلى التمكُّن من الأدوات الاستخبارية.

كما سيستهدف زيادة الإنفاق العسكري تعزيز أنظمة الدفاع الجوي والأمن السيبراني وزيادة أسطول الطائرات بدون طيار. وتعزيز مخزون الذخيرة وزيادة الدبابات والطائرات المقاتلة، وتحديث البنية التحتية العسكرية، وتعزيز وتحديث قدرات الردع النووي الذي ستنفق عليه باريس خلال العام الجاري نحو 5.6 مليار يورو. إذ يعتبر ماكرون أن الردع النووي هو ما يجعل فرنسا مختلفة عن العديد من الدول الأوروبية الأخرى، وأن الحرب الأوكرانية تعيد التأكيد على أهمية هذا العامل. كما تشمل أولويات الإنفاق المعلنة تعزيز وتحديث قدرات وأنظمة الفرقاطات الفرنسية، وبناء حاملة الطائرات الفرنسية الجديدة "PANG"، وزيادة الاستثمارات التقنية والتكنولوجية الدفاعية، ودمج قدرات الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي بشكل أفضل. وكذلك الاستثمار في التقنيات البحرية لدعم أقاليم ما وراء البحار، في ظل قناعة فرنسية بأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ من المحتمل أن تكون مسرح الصراع القادم.

وتأمل الحكومة الفرنسية في أن تؤدي زيادة الإنفاق العسكري إلى تعزيز قدرة القوات المسلحة، وتقليل حدة الانتقادات الموجهة لها فيما يتعلق بقدرتها على التعامل مع الأوضاع المضطربة في القارة الأوروبية. وفي هذا الإطار، سبق وأشار تقرير برلماني فرنسي في فبراير 2022 إلى عدم امتلاك القوات المسلحة الفرنسية للوسائل اللازمة لخوض حرب على مستوى مرتفع من الكثافة والحدة مثل الحرب الأوكرانية، وهو ما يتوافق مع ما ذكره رئيس أركان الجيوش الفرنسية السابق، بيير دو فيلييه، في كتابه الصادر في نوفمبر 2022، بعنوان "كلمات الشرف"، حيث اعتبر أن ميزانية الدفاع الفرنسية تفتقر إلى الموارد بالشكل الذي يجعل القوات المسلحة الفرنسية غير قادرة على خوض حروب شديدة الكثافة والحدة مثل الحرب الأوكرانية، ما يجعل الجيش الفرنسي في حاجة إلى زيادة الميزانية الدفاعية، من أجل تحديثه وإعادة تأهيل أفراده وتحديث وزيادة المعدات والأسلحة وقطع الغيار والذخيرة.

 كما تتوافق بشكل ما أيضًا مع تصريحات وزير القوات المسلحة الفرنسية، سيباستيان ليكورنو، في نوفمبر الماضي، التي اعترف فيها بأنه من المستحيل على القوات المسلحة الفرنسية المشاركة في عمليات عسكرية واسعة النطاق، مرجعًا ذلك إلى أن القوات المسلحة الفرنسية الحديثة لم تتشكل بغرض المشاركة في عمليات عسكرية واسعة النطاق بشكل رئيسي، خاصة في مرحلة ما بعد حل حلف وراسو، فضلًا عن معاناتها منذ فترة طويلة من نقص التمويل.

توجه أوروبي

لا يعتبر زيادة الإنفاق الدفاعي محض توجه فرنسي فقط، بل يعتبر توجهًا إقليميًا أوروبيًا بشكل خاص، بالنظر إلى أن الحرب الأوكرانية بوصفها الدافع الرئيسي لزيادة الإنفاق الدفاعي الفرنسي، تمثل الأمر ذاته بالنسبة للدول الأوروبية الأخرى، فضلًا عن أن زيادة الإنفاق العسكري يمكن اعتباره كذلك توجهًا عالميًا يتجاوز حتى الإطار الأوروبي، بالنظر إلى تداعيات الحرب الأوكرانية في القارة الأوروبية من حهة، والتوترات في مناطق أخرى مثل "الإندو-باسيفيك"، من جهة أخرى، حيث أعلن عدد من الدول غير الأوروبية كالصين واليابان، زيادة الإنفاق العسكري.

وقد اعتبر مسئول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الحرب الأوكرانية يفترض أن تدفع الأوروبيين إلى تعزيز قدراتهم الردعية من أجل منع نشوب الحروب. ووافق القادة الأوروبيين في قمة الاتحاد الأوروبي، التي انعقدت في مارس 2022، على زيادة إنفاقهم الدفاعي بشكل كبير من أجل زيادة قدرة الدول الأعضاء على التصرف بشكل مستقل، بعدما كانت السياسة الأوروبية تستند تقليديًا على تقليص النفقات العسكرية. وأعلنت فرنسا والسويد بلجيكا والدنمارك وإيطاليا والسويد ورومانيا زيادة الإنفاق الدفاعي بحيث يتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي، والتي كان دول حلف الناتو اتفقت على بلوغها بحلول عام 2024، وذلك كأثر مباشر للحرب الأوكرانية.

وقررت برلين خلال عام 2022 تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش وسد ما يعانيه من نقص، وبلوغ تلك النسبة. كما قررت الدنمارك تخصيص 940 مليون يورو إضافية لقواتها المسلحة خلال عامي 2022 و2023. وكذلك أعلن حلف الناتو، في ديسمبر 2022، تخصيص 1.96 مليار دولار للميزانية العسكرية لعام 2023، بنسبة زيادة 25.8% عن ميزانية عام 2022.

ورغم تقليص النفقات الحكومية البريطانية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، فإن الميزانية الدفاعية نجت من تلك التخفيضات، بل وسيتم زيادتها خلال العام المالي 2023-2024 بنحو 1.4 مليار جنيه استرليني لتصل إلى 50 مليار جنيه استرليني، لمواكبة معدلات التضخم، ولقناعة القادة العسكريين البريطانيين بضرورة زيادة الميزانية الدفاعية لمواصلة دعم كييف وزيادة مخزون الأسلحة البريطاني، وتطوير القوة البحرية والجوية والترسانة النووية، وتحديث الجيش البريطاني في وجه "الخطر الروسي"، على حد تعبير رئيس الأركان البريطاني، الأدميرال توني راداكين، الذي أكد أن توجه واشنطن نحو منطقة "آسيا والمحيط الهادي"، سيدفع الدول الأوروبية لزيادة ميزانياتها العسكرية خلال السنوات العشر المقبلة بنحو 300 مليار دولار من أجل ضمان الأمن الأوروبي.

وقد يستدعي تمويل زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، سواء جاء من حصيلة زيادات ضريبية أو قروض أو بالاقتطاع من نسب الإنفاق على قطاعات مدنية حيوية أخرى مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، معارضة بعض القطاعات والنشطاء باعتبار الأموال التي ستنفق على قطاع الدفاع تُزاحم حصص الإنفاق على قطاعات وبرامج أخرى ترتبط بشكل مباشر بالاحتياجات اليومية للمواطنين، وأن زيادة الإنفاق الدفاعي قد تعني إجراء تخفيضات في برامج أخرى على المدى الطويل، بالتوازي مع ميل السياسيين الأوروبيين إلى الاستثمار في الصحة والضمان الاجتماعي أكثر من الأمن والقطاع العسكري، خاصة في ظل تداعيات جائحة كورونا. فضلاً عن أن زيادة الإنفاق الدفاعي سيضغط على الأوضاع الاقتصادية السيئة في ظل المعاناة من أزمات اقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم وتكلفة المعيشة. ولكن من جهة أخرى، أصبح الرأي العام الأوروبي عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ثم مع صدمة الحرب الروسية على أوكرانيا، أكثر قناعة بأهمية زيادة الإنفاق الدفاعي لتعزيز قدرة الدول الأوروبية على مواجهة التهديدات العسكرية والأمنية المحتملة، وبات أكثر تقبلًا لإعطاء الاعتبارات الأمنية أولوية متقدمة، خاصةً أن سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من جهة، وتصاعد التنافس الأمريكي-الصيني من جهة أخرى، يثيران شكوك الأوروبيين بشأن درجة وحدود التزام الولايات المتحدة بضمان الأمن الأوروبي، ومدى إمكانية الاعتماد على واشنطن في أداء هذا الدور.

وقد نشرت "ماكينزي" تحليلًا بالسيناريوهات حول الإنفاق الدفاعي الأوروبي الحالي والمتوقع من 2021 إلى 2026. وخلصت إلى أنه لو لم تندلع الحرب الأوكرانية وما جلبته من تزايد المخاوف الأمنية الأوروبية، فإن الإنفاق الدفاعي الأوروبي كان سيرتفع أيضًا من 296 مليار يورو في عام 2021 إلى 337 مليار يورو في عام 2026، بزيادة قدرها 14%. ووضعت سيناريوهين أقصى وأدنى لزيادة الإنفاق المدفوعة بتأثيرات الحرب، فكحد أدنى توقعت "ماكينزي" زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بنسبة 53٪ خلال نفس الفترة ليصل إلى 453 مليار يورو، كأثر مباشر للحرب على التمويل العسكري. أما السيناريو المرتفع، الذي يفترض استجابة تمويلية كبيرة للحرب، فيتمثل في أن يرتفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال نفس الفترة بنسبة 65% ليصل إلى 488 مليار يورو.

ختامًا، تشهد فرنسا كغيرها من الدول الأوروبية تحولاً من سنوات "عائد السلام" التي انخفضت فيها الميزانيات الدفاعية مقابل تعزيز الإنفاق على البرامج الأخرى، باعتبار أن الصراع العسكري الكبير في القارة قد أصبح شيئًا من الماضي، إلى سنوات "اقتصاد الحرب"، تحت وطأة صدمة الحرب الأوكرانية، ما يعني زيادة الإنفاق العسكري خلال السنوات المقبلة للاستعداد للصراعات والتهديدات والحروب المحتملة داخل القارة الأوروبية، بشكل رئيسي، وكذلك في مناطق النفوذ الفرنسي الأخرى خارج القارة. ولكن على الجانب الآخر، تفرض الأبعاد الاقتصادية تحديات على الميزانية الدفاعية الفرنسية، منها ما يتعلق بالتآكل الجزئي أو الكلي للزيادات المنتظرة حال استمرار معدلات التضخم في الارتفاع، وكذلك الضغط على الميزانية الفرنسية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، وارتفاع الدين العام الفرنسي.