وقّعت إريتريا، في 10 يناير الجاري (2023)، مذكرة تفاهم مع روسيا تنص على ربط مدينة مصوع الإريترية الساحلية مع قاعدة البحر الأسود البحرية سيفاستوبول، وذلك وفق ما صرح به بيتروس تسيغاي، السفير الإريتري لدى موسكو، لوكالة ريا نوفوستي الروسية.
ويتيح هذا الاتفاق لموسكو استغلال ميناء مصوع الإريتري تمهيدًا لإقامة قاعدة عسكرية روسية جديدة في البحر الأحمر بالقرب من مضيق باب المندب، وهي خطوة لطالما سعت إليها الحكومة الروسية بشكل حثيث خلال السنوات الأخيرة بهدف إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية هناك، بالرغم من أنها قد تجاهلت طلبًا من الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في أبريل 2021 باستغلال ميناء عصب كقاعدة عسكرية لها.
كما يعكس الاتفاق تطورات التقارب الإريتري-الروسي خلال السنوات الأخيرة، وهو ما تجلى في تبادل مسئولي البلدين الزيارات الرسمية، حتى أن هناك تقارير تشير إلى إمكانية مشاركة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في القمة الروسية-الأفريقية المزمع عقدها في يوليو 2023 بمدينة بطرسبرج الروسية. إلى جانب تطابق المواقف بين البلدين تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما برز في الدعم الإريتري القوي لموسكو في الأمم المتحدة على خلفية الأزمة الروسية-الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022، حيث صوتت أسمرة في مارس 2022 ضد قرارات الأمم المتحدة التي تدين موسكو بسبب حربها على أوكرانيا.
في المقابل، قد تشهد سياسة الرئيس أفورقي بعض التحولات الاستراتيجية تماشيًّا مع التطورات الضاغطة على المستويين الإقليمي والدولي، والتي تجعله بحاجة إلى حليف دولي بمثابة حائط صد لمواجهة الضغوط الأمريكية والأوروبية عليه، لا سيما في ضوء تصاعد التوتر في علاقاته مع واشنطن بسبب تورط القوات الإريترية في حرب تيجراي، والتي برزت بشكل واضح في تجاهل واشنطن دعوة أفورقي لحضور قمة الأمريكية-الأفريقية التي انعقدت في ديسمبر الماضي (2022).
وعقب توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي أنهى القتال في شمال إثيوبيا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي تمهيدًا لتحقيق السلام، وفي ظل عدم ثقة أفورقي في تجريد الجبهة من قوتها العسكرية بشكل كامل ونهائي، واحتمالية استجابة النظام الإثيوبي للضغوط الأمريكية والإغراءات في بعض الأحيان بتحسين العلاقات معها في مقابل تخلي أديس أبابا عن أفورقي ومطالبة قواته بالانسحاب من الأراضي الإثيوبية؛ قد يجد أفورقي نفسه وحيدًا أمام جبهة تيجراي التي يخشى انتقامها بسبب تورط قواته في الحرب ضدها، خاصة أنه يدرك مخاطر طموحات جبهة تيجراي منذ سبعينيات القرن الماضي في إقامة دولة تيجراي الكبرى التي تمتد حدودها حتى البحر الأحمر، وهو ما يعني الإطاحة بنظام أفورقي في إريتريا، الأمر الذي قد يبرر اندفاعه لاستقطاب حليف دولي مناهض للغرب مثل روسيا بهدف حماية نظامه الحاكم في البلاد.
دوافع روسية
يمكن الإشارة إلى أبرز الأسباب التي دفعت موسكو لتوقيع الاتفاق مع أسمرة على النحو التالي:
1. التموضع الإريتري الاستراتيجي في القرن الأفريقي: يعد موقع إريتريا بمثابة نقطة عبور مهمة في المنطقة كونها تطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يعتبر أحد أهم الممرات المائية في العالم. وبالتالي، يعزز الحضور الروسي في إريتريا مساعي موسكو للتغلغل نحو العمق الأفريقي في شرق ووسط وجنوب القارة، كما يضمن لها التأثير في معادلة أمن البحر الأحمر بما ينعكس على تعظيم نفوذها في الشرق الأفريقي.
2. تعزيز مكانة روسيا إقليميًّا ودوليًّا: تحاول موسكو من خلال تحركاتها على الساحة الأفريقية بما في ذلك إريتريا إعادة تأكيد مكانتها على خريطة القوى الكبرى في العالم، إضافة إلى تخفيف حدة العزلة الدولية المفروضة عليها من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عقب ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014، والتي تفاقمت عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022. وهي بذلك تتحدى الغرب بقدرتها على توسيع تحالفاتها في العديد من المناطق الاستراتيجية بالعالم لا سيما أفريقيا، وأنها لا تتأثر بتلك الضغوط عليها.
3. تأمين المصالح الروسية الاستراتيجية في المنطقة: يبلغ حجم الصادرات الروسية النفطية حوالي 24% من إجمالي حركة النفط المتجهة جنوبًا إلى البحر الأحمر مرورًا بقناة السويس ومضيق باب المندب. ومن ثم، تسعى موسكو لحماية شحناتها التجارية والنفطية وتعزيز صادراتها نحو المنطقة. كما يمكن لموسكو الترويج لصادراتها التسليحية في منطقة القرن الأفريقي التي يُنظر إليها بأنها منطقة مضطربة أمنيًّا، وذلك باعتبارها موردًا رئيسيًا للأسلحة في أفريقيا، حيث يتم بيع 13% من الأسلحة الروسية إليها.
4. مراقبة تحركات المنافسين الاستراتيجيين في المنطقة: يعزز الحضور العسكري في إريتريا قدرة الروس على جمع المزيد من المعلومات الاستخباراتية حول حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، إضافة إلى مراقبة السفن الأمريكية والصينية في منطقة المحيط الهندي. وربما تفكر موسكو في وقت لاحق في إرسال عناصر من قوات فاغنر للتمركز في إريتريا بحجة حماية نظام الرئيس أفورقي لتوسيع حضورها ونفوذها في المنطقة كما هو الحال في أفريقيا الوسطى ومالي.
5. السيطرة على النقاط الاستراتيجية في المنطقة: تدرك موسكو أن تمركزها وفرض سيطرتها على بعض المضائق المائية الاستراتيجية بما في ذلك مضيق باب المندب يمكن أن تمثل ورقة ضغط مهمة لمساومة الولايات المتحدة والغرب في بعض الملفات الشائكة بينهما مثل ملف أوكرانيا. كما تمنحها القدرة على التأثير بحكم القرب الجغرافي من بعض المناطق الاستراتيجية في الجوار الجغرافي مثل المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وليبيا، إلى جانب إمكانية الربط مع قاعدتها العسكرية في ميناء طرطوس بسوريا.
6. تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة: يمثل وصول الروس إلى البحر الأحمر فرصة لتعزيز تجارتها مع دول القرن الأفريقي بما في ذلك إريتريا وإمكانية التمدد لتنشيط الصفقات التجارية مع دول وسط أفريقيا. وبوصفها لاعبًا عالميًا ولديها مصلحة اقتصادية في قطاع الطاقة بأفريقيا؛ قد تخوض موسكو سباق التنافس على الاستكشافات النفطية في القرن الأفريقي والتي تشير تقديرات إلى استحواذ بعض دولها مثل الصومال وإثيوبيا على مخزون هائل من احتياطي النفط والغاز الطبيعي.
7. موازنة النفوذ الدولي في المنطقة: وذلك في ظل تكالب القوى الدولية على القرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى تحجيم النفوذ الروسي في أفريقيا إلى جانب الصيني، مثلما ورد في استراتيجيتها الجديدة تجاه القارة التي أطلقتها في أغسطس 2022. لذلك، تسعى موسكو إلى توسيع هامش المناورة مع القوى الدولية إلى أفريقيا بما في ذلك القرن الأفريقي والساحل والصحراء لتخفيف حدة الضغوط الأمريكية والغربية عليها في أزمة شرق أوروبا.
8. حزام روسي حول مناطق نفوذ موسكو: يبدو أن موسكو تهتم بتوسيع تحالفاتها في أفريقيا، وذلك من خلال نسج شبكة إقليمية تمتد من منطقة القرن الأفريقي مرورًا بالسودان ووصولًا إلى الساحل والصحراء وغرب أفريقيا. وتمثل إريتريا مرتكزًا أساسيًّا للوجود الروسي في القرن الأفريقي، ويمكن أن تصبح بوابة استراتيجية للروس للتمدد إلى بعض دول المنطقة مثل إثيوبيا وجيبوتي والصومال إلى جانب أوغندا في منطقة البحيرات العظمى، وهو ما يعزز السياسة الروسية التوسعية في القارة الأفريقية.
مكاسب إريترية
يمكن لإريتريا الحصول على جملة من المكاسب الاستراتيجية من اتفاقها مع روسيا، ويتمثل أبرزها في:
1. تخفيف حدة العزلة الدولية: تعرضت أسمرة خلال العام الماضي لعقوبات أمريكية بسبب اتهامها بالتورط في الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي شمال إثيوبيا. كما تتعرض باستمرار لاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة، إلا أن موسكو قد صوتت في ديسمبر 2021 ضد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بفتح تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في الحرب الإثيوبية. ومن هنا، تستفيد إريتريا من الدعم الروسي وخاصة الفيتو الروسي في التصدي للعقوبات الأممية ضد أسمرة في مجال حقوق الإنسان والسياسات الإقليمية في القرن الأفريقي.
2. حماية النظام الحاكم: تضمن إريتريا الحصول على الرعاية الروسية والحماية السياسية للنظام الحاكم لا سيما في ظل التحولات الاستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، إضافة إلى تحولات الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي وما آلت إليه عقب عامين من القتال، خاصة أن أفورقي يصر على إقصاء الجبهة من المشهد السياسي الإثيوبي نهائيًّا. وفي نفس الوقت يتخوف من انتقامها الذي قد يطيح بنظامه في البلاد.
3. التزود بالسلاح الروسي: ترغب أسمرة في تأمين الوصول إلى المزيد من الأسلحة الروسية المتطورة، باعتبار أن روسيا تعد أحد أكبر موردي الأسلحة إلى الدول الأفريقية. وتقوم موسكو ببيع أسلحة إلى أسمرة خلال الفترة الماضية، ففي مايو 2022 تسلم النظام الإريتري من موسكو ثماني طائرات بدون طيار لدعم الجيش الإريتري.
4. دخول حلبة التنافس الإقليمي في مجال الموانئ البحرية: تمتلك إريتريا ميناءين استراتيجيين على البحر الأحمر هما عصب ومصوع، إلا أنهما يفتقدان التطوير منذ سنوات إلى جانب سوء البنية التحتية في البلاد وعدم توافر الربط السككي مع دول الجوار. ومع ذلك، يمكن أن يمثل الحضور الروسي في مصوع فرصة لتطوير ورفع كفاءة الميناء والبنية التحتية المرتبطة به، مما قد يسمح بدخول أسمرة في منافسة إقليمية مع بعض دول المنطقة مثل جيبوتي لاستقطاب المزيد من الفرص الاستثمارية والشركات الدولية في العديد من المجالات.
تداعيات محتملة
تحمل هذه الخطوة الروسية عددًا من التداعيات المحتملة على أكثر من مستوى، وذلك على النحو التالي:
1. إريتريا: ربما تعيد أسمرة تقديم نفسها للقوى الدولية الفاعلة في المنطقة باعتبارها وجهة استراتيجية بهدف استقطاب المستثمرين الأجانب وإنعاش الاقتصاد الإريتري المتدهور منذ سنوات. وإن كان ذلك شريطة أن يمضي النظام الإريتري قدمًا نحو تغيير سياساته على الصعيدين الداخلي والخارجي التي ورطته في العديد من الأزمات منذ استقلال إريتريا في عام 1993. وقد يترتب على ذلك خروجها من العزلة الدولية المفروضة عليها منذ سنوات.
2. دول القرن الأفريقي: يعزز الحضور الروسي تزاحم المنطقة بالعديد من القوى الدولية، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة سلاح ذي حدين بالنسبة لها. فمن ناحية، قد تستفيد دول المنطقة من هذا التنافس عن طريق ضخ المزيد من الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية والمالية إليها. ومن ناحية أخرى، قد يترتب على تكالب القوى نحو القرن الأفريقي تنامي عسكرة المنطقة مما يعزز حالة عدم الاستقرار الإقليمي هناك.
3. روسيا: قد تبني موسكو على تمركزها في إريتريا بالتمدد نحو العمق الأفريقي، والدفع نحو تعزيز علاقاتها مع دول القرن الأفريقي والبحيرات العظمى. إضافة إلى محاولة بناء قواعد عسكرية أخرى في دول المنطقة مثل جيبوتي والسودان وإقليم أرض الصومال. لكنها قد تصطدم في نفس الوقت باحتكاك متزايد مع القوى الدولية المنافسة لها مثل الولايات المتحدة والصين وفرنسا، مما قد يعزز التنافس الدولي في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
4. الولايات المتحدة الأمريكية: ربما تجد واشنطن صعوبة في إجبار إريتريا على التراجع أو تعليق اتفاقها مع موسكو، كما فعلت مع السودان في العام الماضي، وذلك بسبب أيديولوجية أفورقي المعادية لواشنطن منذ سنوات مضت. وقد يدفعها ذلك إلى المزيد من الإجراءات العقابية لأسمرة والدفع نحو تمديد عزلتها الدولية خلال الفترة المقبلة، وربما تضغط على أديس أبابا للتخلي عن أفورقي وإطلاق يد جبهة تحرير تيجراي لمحاولة إسقاط النظام الإريتري بعد تسوية الصراع الإثيوبي بشكل نهائي. وإن كان ذلك لا يصب في مصلحة أمن واستقرار القرن الأفريقي.
وإجمالًا، من المتوقع أن يشهد عام 2023 تنافسًا محتدمًا بين القوى الدولية الفاعلة في منطقة القرن الأفريقي باعتبارها ساحة لتصفية الحسابات بالوكالة في ضوء السياق الدولي المضطرب نتيجة الأزمات الدولية التي دفعت تلك القوى المتناحرة للمساومة بأوراق ضغط مختلفة في مناطق استراتيجية أخرى مثل أفريقيا، وهو الأمر الذي قد يفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في القارة بما في ذلك القرن الأفريقي.