منذ يوم 24 يناير الماضي، أُقيل عدد كبير من المسؤولين الأوكرانيين الكبار، وسط فضائح فساد متنامية مرتبطة باستمرار الحرب الأوكرانية؛ وذلك في أكبر تغيير للحكومة الأوكرانية منذ بدء العملية العسكرية الروسية. وفي سلسلة من الخطابات العامة، أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى عزم إدارته اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للقضاء على الفساد داخل البلاد؛ حيث إن هذه التغييرات ستُعطي حكومة كييف فرصة لإثبات حسن نيتها واستعدادها لإظهار الشفافية، اللذَين يُعدَّان مبدأَين أساسيَّين لشروط استمرار المُساعَدات الغربية أثناء هذه اللحظة الحرجة من الحرب، لا سيما أنها خطوة ضرورية نحو طريق انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، حتى إن كان المغادرون من كبار المسؤولين الحكوميين المُقرَّبين من السيد زيلينسكي.
حملة موسعة
أحاطت حملة مكافحة الفساد التي أعلن عنها الرئيس الأوكراني مجموعة من الأبعاد الرئيسية، منها:
1– الإطاحة بشخصيات رفيعة المستوى: شهدت هذه الحملة إقالة العديد من المسؤولين الأوكرانيين الكبار، بل إن بعضهم يقعون في الدائرة المقربة من زيلينسكي؛ وذلك على الرغم من عدم تقديم الأخير أيَّ سبب لمُعظَم هذه الحالات، بيد أن هذا التعديل يأتي بعد سلسلة من مزاعم الفساد العام. وقد تضمَّنت الحملة إقالة خمسة رؤساء إقليميين، هم رؤساء أقاليم كييف وخيرسون وزاباروجيا وسومي ودنيبرو، ناهيك عن إقالة ستة من كبار المسؤولين في كييف.
هذا بجانب استقالة نائب وزير الدفاع الأوكراني فياتشيسلاف شابوفالوف، بعد مزاعم شراء وزارة الدفاع الأوكرانية مواد غذائية للجنود بأسعار مُبالَغ فيها، كما تمَّ القبض على نائب وزير البنية التحتية الأوكراني فاسيل لوزينسكي وهو يتلقَّى رشوة بقيمة 400 ألف دولار؛ لتسهيل استيراد مولدات إلى أوكرانيا وقت الحرب في سبتمبر الماضي.
2– تشديد القبضة لمنع تفاقم ظاهرة الفساد: وقَّع “زيلينسكي” مرسوماً يمنع مُوظَّفي الدولة من مغادرة البلاد إلا في مهام حكومية رسمية؛ وذلك رداً على ذهاب نائب المدعي العام الأوكراني أوليكسي سيمونينكو، في عطلة إلى إسبانيا في أواخر ديسمبر الماضي، في سيارة مرسيدس يملكها رجل أعمال أوكراني بارز؛ حيث أوضح “زيلينسكي” أنه لن يتمكَّن المسؤولون بعد الآن من السفر إلى الخارج لقضاء عطلة. وإذا كانوا يريدون ذلك، فسيأخذون إجازات خارج الخدمة المدنية؛ أي بعد أن يتم إقالتهم. ولا يمكن إغفال أن هذا المرسوم يعكس محاولة الرئيس الأوكراني تحسين صورته أمام الدول الغربية، وتأكيد حرصه على مكافحة الفساد.
3– استدعاء الإرث الممتد لظاهرة الفساد في أوكرانيا: تعد اتهامات الفساد المكشوف عنها صغيرةً مقارنةً بفضائح الحكومات الأوكرانية السابقة، التي اتُّهم بعضها بسرقة المليارات من الأموال العامة؛ فعلى سبيل المثال، اتُّهم الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش بسرقة المليارات من الدولة قبل أن يفر إلى روسيا وسط احتجاجات حاشدة ضده في الشوارع عام 2014. اللافت هنا أيضاً أن العقود الماضية شهدت تشكيل بنية سياسية واقتصادية مُحفِّزة لاستشراء الفساد داخل أوكرانيا، ومع اندلاع الحرب، حاولت بعض العناصر المتورطة في قضايا فساد التخلص من سمعتها السلبية وإعادة تقديم نفسها؛ فبعض المحسوبين على الأوليجاركية الذين كانوا مُلاحَقين بتهم الفساد في السنوات الماضية، استُضِيفوا في وسائل الإعلام الغربية، وقُدِّموا كرجال أعمال وطنيين. علاوةً على ذلك، قدَّم البرلمان الأوكراني مشروع قانون يسمح بإعفاء المتورطين في قضايا فساد من المسؤولية الجنائية، إذا قدَّموا تعويضات مالية تساعد البلاد في حربها الحالية.
4– شروط أوروبية لتعزيز فاعلية مكتب مكافحة الفساد: تمَّ طرح ملف تعزيز فاعلية مكتب مكافحة الفساد ضمن ثمار جهود كييف في الاستجابة لمطالبات الاتحاد الأوروبي من أجل التصدي للكسب غير المشروع، حتى يتم إعطاء أوكرانيا وضع المُرشَّح للانضمام إلى التكتل؛ إذ حدد التكتل ضرورة تعيين مدير جديد للمكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا، وهي وكالة إنفاذ قانون مكافحة الكسب غير المشروع الرئيسية في البلاد، وتم إنشاؤها منذ عام 2015.
بناءً على ذلك، يرى النائب الأول لرئيس اللجنة البرلمانية لسياسة مكافحة الفساد في أوكرانيا ياروسلاف يورتشيشين، أن التعديلات الأخيرة تسعى جزئياً لإثبات أن كييف ترى أن اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفساد، عنصر أساسي في اندماجها الغربي؛ إذ لا يمكن لأوكرانيا أن تكسب الحرب ضد روسيا إلا وهي عضو في تحالف عريض مناهض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولديه مطلب كبير بعدم التسامح مطلقاً عندما يتعلق الأمر بالفساد.
5– إعلان كييف عن خطط مؤسسية لدعم الشفافية: عندما بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في عام 2022، علَّقت كييف مؤقتاً متطلبات الشفافية بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي. ولكن في الأشهر التالية، عاد الإعلان عن النفقات المدنية، مع استمرار سرية النفقات العسكرية؛ وذلك نتيجة مطالبة بعض المراقبين بمزيد من الشفافية في زمن الحرب؛ إذ أوضح رئيس وكالة مكافحة الفساد الأوكرانية عن خطة الحكومة لتبني استراتيجية لمكافحة الفساد مدتها ثلاث سنوات، من شأنها أن تضع متطلبات تدقيق إضافية على مشاريع التعافي وإعادة البناء ما بعد الحرب، كما أنه على الأحزاب السياسية استئناف تقديم إقراراتها المالية، بجانب إعادة التسجيل الإلزامي لهويات ودخول المسؤولين – الذي تم تعليقه العام الماضي بسبب مخاوف من استهداف القوات الروسية لهم – بعد تشديد مقتضيات الأمن الإلكتروني لضمان بقاء السجلات سريةً.
دوافع الحملة
ثمة عدة أسباب قد دفعت زيلينسكي إلى التفكير في إجراء هذه الحملة في وقت استثنائي تمر به الحرب الأوكرانية مؤخراً، ولعل أبرز هذه الأسباب ما يلي:
1– ضمان استمرار الدعم الغربي لكييف: كان الفساد قضية شائكة للصحفيين والنشطاء الأوكرانيين منذ بدء الحرب؛ إذ كانوا قلقين من احتمالية تضرر الدعم الدولي لجهود بلادهم الحربية؛ حيث ألقت قضية الفساد في الأجهزة الحكومية الأوكرانية بظلالها على مناقشات المسؤولين الأمريكيين، خوفاً من أن تكون المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة عرضة لعمليات الاختلاس؛ ففي الولايات المتحدة، تساءل بعض الجمهوريين علناً إذا ما كان ينبغي للبلاد الاستمرار في تمويل أوكرانيا بنفس مستويات العام الماضي أم لا، كما دعا البعض الآخر منهم إلى مزيد من الإشراف والتدقيق على المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، من خلال تعيين مفتش عام مخصص فقط لمراقبة المساعدات الأوكرانية، على غرار المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان.
هذا وتسعى أوكرانيا للحصول على مزيد من المساعدات العسكرية من الغرب، خاصة بعد أن استعادت كييف مؤخراً مساحات من الأراضي التي خسرتها في وقت مبكر من العملية العسكرية الروسية، في حين تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بضخ المليارات لدعم الاقتصاد الأوكراني، إلى جانب توفير المساعدة العسكرية. لقد جاء التغيير في الوقت الذي تضغط فيه أوكرانيا بشدة على الدول الغربية لتوفير الأسلحة المتطورة؛ فمع اقتراب الحرب من عام واحد، لا توجد قضية أكثر أهمية لاستمرار بقاء أوكرانيا من تدفق المساعدات العسكرية من الغرب، التي وصلت حتى الآن إلى نحو 40 مليار دولار، وسط دعوات في الكونجرس الأمريكي إلى مراجعة كيفية استخدام هذه المساعدات، التي يرى البعض أنها مفرطة ويجب تقييدها.
2– دعم خطوات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي: منذ الإطاحة بالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، سعت أوكرانيا لإظهار التقدم في ملف مكافحة الفساد للاقتراب من الغرب، وفتحت مكتباً لمكافحة الفساد بمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي؛ إذ تعد مسألة مكافحة الفساد أمراً أساسياً لطموح أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل؛ فعندما وافقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على منح وضع المرشح لأوكرانيا في يونيو الماضي، كلفت الحكومة بتدبير مكاتبها لمكافحة الفساد؛ حيث ستقدم المفوضية الأوروبية تقريراً عن التقدم الذي أحرزته أوكرانيا في القضاء على الفساد في الخريف المقبل، بما يمهد الطريق للمناقشات بين الدول الأعضاء حول إذا ما كانت البلاد مستعدة لبدء محادثات الانضمام مع الكتلة، كما ربطت بروكسل بعض مساعداتها المالية لأوكرانيا بخطوات معالجتها للفساد.
3– تحسين صورة النظام الأوكراني خارجياً: من المعروف عالمياً أن أوكرانيا أكثر دول العالم فساداً؛ فوفقاً لتقرير عام 2021 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تعد أوكرانيا ثاني أكثر الدول فساداً في أوروبا بعد روسيا، كما احتلت المرتبة الـ122 من بين 180 دولة. وعلى الرغم من إشادة المنظمة ببعض الخطوات التي اتخذتها حكومة زيلينسكي في السنوات الأخيرة، قالت إنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، خاصة أن الحرب الأوكرانية ضد الفساد قد توقفت ووقفت في طريق مسدود، نتيجة انشغال كييف بحربها مع موسكو.
لذلك تعد قرارات السيد زيلينسكي الأخيرة تأكيداً لأهمية الحفاظ على صورة نظيفة، سواء بالنسبة للمواطنين الأوكرانيين، الذين يموتون بالآلاف على الخطوط الأمامية ويتحملون المصاعب الاقتصادية، وللحكومات الغربية التي تقدم لأوكرانيا مساعدات بمليارات الدولارات على الرغم من اقتصاداتهم المتأثرة بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
4– الحفاظ على دعم القاعدة الشعبية: سبق أن وعد “زيلينسكي” أثناء حملته الانتخابية بتخليص الحكومة من الفساد، وهو ما كان أحد الأسباب وراء صعوده السريع إلى السلطة في عام 2019. وبعد موجة التغييرات واعتقالات الفساد، تعهد زيلينسكي مجدداً بعزمه على اتباع نهج عدم التسامح مع الفساد مطلقاً، باعتباره أبرز المشكلات التي ابتليت بها أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991.
وفي هذا الإطار، أظهر استطلاع نشر من قبل معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع، في يناير 2023، أن 84% يثقون بحكم زيلينسكي؛ وذلك ارتفاعاً من 27% في العام السابق. كما حظي الرئيس، الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، بإشادة واسعة في الداخل والخارج لقيادته خلال الحرب، ومن ثم لن يرغب في تقويض هذه السلطة على خلفية الاستياء الموجه إليه ولمسؤوليه بسبب شبهات الفساد التي تحيط بحكومته.
5– تهيئة بيئة إعادة إعمار أوكرانيا: انكمش الاقتصاد الأوكراني بمقدار الثلث خلال عام 2022؛ لذلك تعتمد كييف بشكل كبير على المساعدات المالية الغربية، بيد أن المانحين الدوليين، مثل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، يطالبون مراراً وتكراراً بمزيد من الشفافية والحوكمة؛ حيث يتوقع محافظ البنك المركزي الأوكراني أندريه بيشني، حصول بلاده على نحو 29 مليار دولار من واشنطن وبروكسل خلال عام 2023، كمساعدات فورية للميزانية وحدها، ناهيك عن احتمالية وصول المبلغ الإجمالي للمساعدات الغربية (المالية والعسكرية وغيرها) لأوكرانيا 100 مليار دولار في 2023، بينها أكثر من 40 مليار دولار لقواتها المسلحة فقط. ومن ثم فإن تحسن مؤشرات الفساد في أوكرانيا تعد شرطاً أساسياً لاستمرار هذه التدفقات من الشركاء الغربيين لضمان عدم اختلاسها وإهدارها؛ من أجل تهيئة البيئة اللازمة لهم لمساعدة أوكرانيا خلال مرحلة إعادة الإعمار فيما بعد الحرب.
خلاصة القول: يعكس هذا النشاط حرباً موازية تخوضها كييف ضد قضايا الكسب غير المشروع الرفيع المستوى؛ ففي خضم الحرب، ربما يكون من المفهوم أن هذه القضايا لم تكن على رأس جدول الأعمال، لكن لكي تفوز أوكرانيا، يجب أن تحافظ على الدعم المحلي والأجنبي؛ حيث تعد مكافحة الفساد أمراً حاسماً أيضاً في جهود كييف لبناء تحالف مع أوروبا في سعيها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي سبق أن أوصى أوكرانيا بزيادة تعزيز مكافحة الفساد، لا سيما على مستوى عالٍ، من خلال تحقيقات استباقية وفعالة، وسجل حافل بالمحاكمات والإدانات.