تتواصل التحركات الاحتجاجية في إسرائيل ضد الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي تعد الأكثر يمينيةً في تاريخ البلاد؛ حيث ارتفعت دعوات من المعارضة إلى تصعيدها بإضرابات لشل اقتصاد البلاد. وبناء عليه، شهدت تل أبيب سلسلة من التظاهرات العارمة؛ حيث خرج نحو 130 ألف متظاهر لمعارضة الإصلاح القضائي للحكومة الجديدة، في واحدة من أكبر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في العقد الماضي. وأغلق المتظاهرون شوارع رئيسية في تل أبيب، بينما تظاهر آلاف آخرون في القدس وحيفا وبئر السبع بهدف الضغط على حكومة نتنياهو، فيما أصر الأخير على المضي قدماً في إصلاحاته.
والجدير بالإشارة أن الإصلاحات القضائية التي تعتزم حكومة نتنياهو تطبيقها، تشتمل على سن تشريع يسمح للكنيست بإلغاء قرارات المحكمة العليا بأغلبية ضئيلة للغاية تبلغ 61 صوتاً في البرلمان المكون من 120 مقعداً، بالإضافة إلى تشريع يقلب الميزان في لجنة التعيينات القضائية لصالح السياسيين؛ إذ يتمتع القضاة في اللجنة حالياً بحق النقض (الفيتو) على تعيين قضاة المحكمة العليا، بما يخدم مصالح الحكومة الجديدة.
وفي السياق ذاته، يخطط المغتربون الإسرائيليون المعارضون لخطة الحكومة الجديدة الرامية إلى إضعاف السلطة القضائية في البلاد، لسلسلة من التظاهرات في المدن الغربية الكبرى، بما في ذلك نيويورك ولوس أنجلوس وباريس وبرلين وتورنتو؛ وذلك حرصاً على التنديد بـ”خطة نتنياهو ضد الإضرار بالديمقراطية”، ولتعزيز التضامن مع التظاهرات التي اندلعت في الداخل الإسرائيلي.
دوافع الاحتجاج
يواجه نتنياهو، منذ نجاحه في تشكيل الحكومة الجديدة، موجة من الرفض الخارجي؛ فقد تبنى الشتات الإسرائيلي في الخارج مواقف مناوئة للحكومة الجديدة، وهي المواقف التي وصلت إلى حد التخطيط لتنفيذ سلسلة من التظاهرات في أوروبا والولايات المتحدة تضامناً مع التظاهرات الحاشدة التي نُظِّمت في المدن الإسرائيلية. وارتبط هذا التصعيد بعدد من الدوافع الجوهرية المتمثلة فيما يلي:
1. توصيل صوت المتظاهرين الإسرائيليين إلى العالم: يخطط يهود الشتات في الخارج لتوسيع النطاق المكاني للاحتجاجات الإسرائيلية، بحيث يتم نشرها في العديد من المدن الأوروبية الكبرى، مثل برشلونة وبرلين وميونخ وأوسلو وباريس وروما، وكذلك في مدينة سيدني الأسترالية. أما في الولايات المتحدة، فسيتم تنظيم هذه الاحتجاجات في بوسطن ونيويورك وشيكاغو وميامي وسياتل ولوس أنجلوس. علاوة على ذلك، أعلن المغتربون عن تنفيذ مسيرات في كندا التي سينزل الإسرائيليون فيها بشوارع تورنتو وفانكوفر.
2. الدفاع عن مرتكزات الدولة اليهودية: برر المغتربون في الخارج حملتهم المضادة لحكومة نتنياهو بحرصهم على المشاركة في كفاح وقف الانقلاب الذي ينوي عليه ائتلاف الحكومة الإسرائيلية الجديدة؛ إذ أوضح أحد منظمي “الدفاع عن الديمقراطية الإسرائيلية” أن أساس وجود إسرائيل يتعرض للهجوم، داعياً إسرائيليي الشتات من فانكوفر إلى سيدني للمشاركة في الدفاع عن أهم مرتكزات دولة إسرائيل، وهو الديمقراطية؛ لجعل صوتهم مسموعاً في الحرب من أجل الديمقراطية.
3. ضمان حق العودة: يحدد “قانون العودة” المعايير لمن له الحق في الهجرة إلى إسرائيل. وفي الوضع الحالي، يحق لليهود وغير اليهود الذين لديهم جَد يهودي واحد على الأقل، وأزواجهم، الحصول على الجنسية الإسرائيلية، بيد أن غالبية أعضاء الحكومة الجديدة يرغبون في تغيير القانون وزيادة صعوبة حصول غير اليهود على الجنسية؛ ما سيؤثر على ملايين يهود الشتات حول العالم، بما في ذلك من هم في الولايات المتحدة.
على الجانب الآخر، أوضح نتنياهو، في مقابلة مع برنامج “Meet the Press” على قناة NBC، أنه لن يسمح بتغيير القوانين، لكن صفقة الائتلاف التي وقَّعها، تتضمن اتفاقاً على تشكيل لجنة لمراجعتها، بيد أنه بموجب هذا الاتفاق يمكن إلغاء بند “الحفيد” في قانون العودة. إضافة إلى ذلك، يستعد التحالف – الذي يعمل بالفعل على إلغاء تمويل اليهودية غير الأرثوذكسية – لإزالة الحق في الهجرة من غير الأرثوذكس المتحولين إلى اليهودية؛ ما سيؤثر بدوره على مئات الآلاف من العائلات اليهودية في جميع أنحاء العالم، خاصةً الموجودين في أمريكا الشمالية وبريطانيا اللتَين تضمان أعداداً كبيرة من غير الأرثوذكس.
4. دعم استمرار الاحتجاجات الداخلية: يسعى الإسرائيليون في الشتات لدعم الاحتجاجات الداخلية في إسرائيل؛ حتى لا يشعر الداخل بعدم وجود دعم خارجي إليها؛ وذلك بهدف جني أكبر النتائج الإيجابية من الحكومة الجديدة، التي تواجه منذ أيامها الأولى احتجاجات واسعة من قبل المعارضة؛ وذلك على اعتبار أن هذه الحكومة هي الأكثر يمينيةً على الإطلاق منذ عام 1948، وهو ما ظهر جلياً على خلفية التظاهرات التي شهدتها تل أبيب يوم أداء نتنياهو وحكومته اليمين الدستورية أمام الكنيست، واستقالة السفيرة الإسرائيلية لدى باريس يائيل جيرمان، التي اتهمت نتنياهو وحكومته بانتهاك مبادئ إسرائيل القائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؛ وذلك نتيجة ضم الحكومة ممثلين عن أحزاب متطرفة في مبادئها وسياستها وتشريعاتها. كما أعرب أكثر من 100 من السفراء الإسرائيليين المتقاعدين ومسؤولي وزارة الخارجية، عن مخاوفهم بشأن سياسات الحكومة الجديدة التي ستلحق الضرر بالعلاقات الخارجية لإسرائيل ومكانتها الدولية ومصالحها الأساسية في الخارج.
تداعيات محتملة
إن توسع انتشار الاحتجاجات الداخلية والخارجية ضد حكومة نتنياهو قد ينتج عنها تداعيات محتملة؛ من أبرزها:
1. التكريس لصورة سلبية للحكومة الإسرائيلية خارجياً: تفضي التحركات المضادة للحكومة الإسرائيلية في الخارج إلى التكريس لصورة سلبية لهذه الحكومة؛ فعلى سبيل المثال، حذر آبي فوكسمان الرئيس السابق لرابطة مكافحة التشهير والمُدافِع القوي عن إسرائيل منذ فترة طويلة، أنه لن يكون قادراً على دعم إسرائيل غير الديمقراطية، إذا غيَّر نتنياهو طبيعة الديمقراطية في إسرائيل؛ لأن تلك الخطوة سينتج عنها تغير طبيعة دعم إسرائيل في الولايات المتحدة، وبالتأكيد سيتغير دعم الجالية اليهودية الأمريكية، وربما يتغير دعم المجتمع العام والحكومة الأمريكية، خاصةً أن واشنطن هي الداعم الأول عالمياً لأهداف إسرائيل. والدليل على ذلك أنها أول دولة اعترفت بالقدس عاصمةً للدولة اليهودية في عام 2020، وبناءً عليه نقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس.
2. إكساب الخطاب الأمريكي الرسمي الناقد لنتنياهو المزيد من الزخم: يُتوقع أن تؤدي تحركات الشتات في الخارج إلى إكساب الخطاب الأمريكي الرسمي الناقد لسياسات حكومة نتنياهو، المزيد من الزخم؛ ففي الآونة الأخيرة عبر عدد من المسؤولين الأمريكيين عن انتقادهم سياسات حكومة نتنياهو؛ إذ كشف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أثناء زيارته الأخيرة لإسرائيل في يناير الماضي، عن استياء واشنطن من سياسات الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً فيما يتعلق بالإصلاحات القضائية، وذكر أن الولايات المتحدة مستمرة في “دعم المبادئ والمؤسسات الديمقراطية، والحفاظ على حقوق الإنسان، وعلى نظام قانوني متساوٍ للجميع، وحقوق الأقليات، وسيادة القانون، وحرية الاتصال والحفاظ على مجتمع مدني قوي في إسرائيل”. اللافت أن هذه التصريحات قُوبلت بموقف حاد من نتنياهو الذي رفض – بحسب تقارير إعلامية – تصريحات بلينكن، واعتبر – في حديث مع أعضاء حزب الليكود – أن هذه التصريحات كانت "تدخلاً صارخاً وواضحاً وغير ضروري وغبي".
3. عرقلة دور المنظمات اليهودية الأمريكية في حشد الدعم: لقد امتدت المخاوف من سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة إلى منظمات يهودية في الولايات المتحدة، وهي المنظمات التي تشكل العمود الفقري للمجتمع المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة؛ ففي اجتماع بالسفارة الإسرائيلية في واشنطن، حضره ممثلون عن العديد من هذه المنظمات، أعربوا عن تخوفهم من أن السياسات المتوقعة للحكومة الإسرائيلية الجديدة يمكن أن تجعل عمل المنظمات اليهودية الأمريكية لحشد الدعم لإسرائيل أكثر صعوبةً، باعتبار أن واحداً من المخاوف يتعلق بالتعددية الدينية والتغييرات المحتملة على قانون العودة الإسرائيلي وقانون التحول اليهودي، الذي يمكن أن يؤثر سلباً على الجالية اليهودية في واشنطن. والجدير ذكره أن قادة اليهود في الولايات المتحدة، الذين يعتبرون مصدراً رئيسياً للمعونات المالية لإسرائيل، نقلوا تحذيراً شديداً للحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة، بشأن أي خطوات عنصرية ومتطرفة محتملة.
4. تبني الحكومة الإسرائيلية سياسات لاستمالة الشتات: على خلفية الإحباط المتزايد من إسرائيليي الشتات تجاه توجهات الحكومة الإسرائيلية الجديدة، قام وزير شؤون الشتات الإسرائيلي عميشاي شيكلي، بزيارة إلى الولايات المتحدة بنهاية شهر يناير الماضي، وأوضح هناك أنه يُقدِّر مشاعر اليهود الأمريكيين، وأنهم لا يزالون بحاجة إلى أن تسمعهم حكومتهم في إسرائيل، وقد حاول استمالتهم إليه من خلال تأكيده أن الدولة اليهودية ليس لديها سفراء أفضل من الجاليات اليهودية في الشتات، باعتبار أن أصواتهم مهمة جداً، ومن ثم قد تلعب تلك الكلمات دوراً في تهدئة مخاوف اليهود الأمريكيين بشأن مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية.
هذا وقد استغل شيكلي هذه الفرصة أيضاً ليلقي باللوم على حكومة رئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد؛ لما سببته من أضرار جسيمة بالعلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، والعلاقات بين إسرائيل والشتات. واعتبر “شيكلي” المعارضة الإسرائيلية ووسائل الإعلام السبب الرئيسي في توصيل رسائل خاطئة عن القيادة الجديدة للدولة اليهودية، وهي الرسائل التي تؤثر بدورها بشكل كبير على اليهود في الشتات.
5. إضعاف روابط التواصل بين إسرائيل والشتات: لأول مرة على الإطلاق، يبدو أن إسرائيل على وشك أن تكون لها حكومة تتبنى سياسات تُخاطِر بالعلاقات بين أكبر مجتمعَين يهوديَّين في التاريخ: الإسرائيلي والأمريكي. وبالرغم من محاولة الحكومة تهدئة التوترات مع الجاليات الإسرائيلية في الخارج، فإن استمرارها في السياسات التي أعلنت عنها سيُفضي إلى تصاعد حدة الاستياء في صفوف الشتات، وهو ما يزيد احتمالية إضعاف روابط الاتصال بين المؤسسات الرسمية الإسرائيلية والشتات، وربما يدفع نحو قطعها.
خلاصة القول: إن التحركات التي يتبناها الشتات الإسرائيلي في الخارج قد تشكل ضغوطاً مضاعفةً على حكومة نتنياهو؛ فهذه التحركات تبعث رسالة سلبية عن الحكومة الإسرائيلية في الخارج، وتشير إلى أنها لا تحظى بالدعم الشعبي داخلياً وخارجياً. علاوة على ذلك، فإن تحركات الشتات ربما تستدعي ضغوطاً خارجيةً على حكومة نتنياهو؛ لأنها تعطي الخطاب الغربي الناقد للحكومة الإسرائيلية بعض المحفزات الرئيسية.