حاولت إندونيسيا خلال السنوات الأخيرة الاستفادة من المتغيرات الجيوسياسية العالمية، وخصوصاً مع الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به الدولة؛ ففي خضم التنافس القائم بين بكين وواشنطن، وكذلك التداعيات الناجمة عن الحرب الأوكرانية، سعت جاكرتا إلى تقديم نفسها فاعلاً محايداً يستهدف التقريب بين القوى المتنافسة. وظهر ذلك – على سبيل المثال – مع محاولات إندونيسيا الوساطة في الحرب الأوكرانية. اللافت أن هذه المعطيات كانت لها بعد اقتصادي هام؛ حيث طمحت إندونيسيا إلى استقطاب استثمارات خارجية، غربية في الأساس، في ظل سياسات التطوير الاقتصادي التي تبنَّتها خلال السنوات الماضية.
أبعاد التطور
عملت إندونيسيا على تبني عدد من السياسات والاستراتيجيات التنموية القصيرة والطويلة المدى بهدف تسريع تحويلها إلى مركز صناعي عالمي يجذب المستثمرين من جميع القطاعات للعمل في البلاد. وقد ركزت هذه السياسات على عدد من المحاور جاءت على النحو التالي:
1. الاهتمام بتطوير المناطق الاقتصادية الخاصة: وضعت الحكومة الإندونيسية تطوير المناطق الاقتصادية الخاصة في البلاد في مقدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها في القريب العاجل؛ وذلك بهدف جذب أكثر من 50 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي، وتوظيف أكثر من 28 ألف عامل على مدى العقد المقبل.
ومنذ بداية عام 2022، سعت البلاد إلى تطوير تسعة عشر منطقة اقتصادية خاصة، منها اثنتا عشرة منطقة قيد التشغيل. وتحتضن هذه المناطق الاقتصادية الخاصة عدداً من الأنشطة المختارة تتراوح بين الخدمات اللوجستية، والشحن والتصدير، بالإضافة إلى تطوير الصناعات التكنولوجية والصحية والتعليمية، وهو ما يجعلها موضع اهتمام كثير من المستثمرين والمصنعين الأجانب الذين يبحثون عن موطئ قدم جديد لهم في القارة الآسيوية بعيداً عن الصين التي تدخلت الحرب التجارية والتكنولوجية بينها وبين الولايات المتحدة فصلاً جديداً من شأنه أن يهدد استقرار أعمال هذه الشركات في الداخل الصيني، ويجعلها عرضةً للعقوبات الأمريكية، ناهيك عن ارتفاع أجور العمال الصينيين بالمقارنة بينهم وبين نظرائهم من دول الجوار الآسيوي.
2. تطوير ورفع كفاءة البنية التحتية: لقد سعت جاكرتا، خلال السنوات الماضية، إلى تبني سياسات مكثفة لتطوير ورفع كفاءة البنية التحتية؛ فالمناطق الاقتصادية الخاصة بإندونيسيا تتسم بعدد من الخصائص تجعلها أكثر جاذبيةً للمستثمرين الأجانب. وتدعم هذه المناطقَ بنيةٌ تحتيةٌ متكاملةٌ؛ من طرق سريعة وأنظمة صرف وإنترنت عالي السرعة وأنظمة اتصالات وموانئ ومطارات.
وأعلنت الحكومة الإندونيسية عن خطتها لاستثمار نحو 430 مليار دولار في البنية التحتية في الفترة من 2020 حتى 2024، وهو يمثل زيادة بنسبة 20% عن معدل الإنفاق على البنية التحتية خلال الفترة من 2015 حتى 2019 التي بلغت نحو 359.2 مليار دولار. وتتركز هذه الاستثمارات على تحديث البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك الطرق والمطارات والموانئ البحرية، التي من المحتمل أن تُحفِّز الطلب على مواد البناء.
3. رفع قدرات القوى البشرية: تسعى الحكومة الإندونيسية أيضاً إلى الاستثمار في الثروة البشرية لإعداد مواهب محلية تتوافق مع متطلبات الصناعات المتقدمة. وقد تبنَّت الحكومة عدداً من السياسات للحد من الأمية في أوساط الفئات العمرية المختلفة؛ فعلى سبيل المثال، قللت الحكومة مصروفات المدارس الحكومية، وأتاحت تعلُّم العديد من المهارات المهنية والتكنولوجية المتقدمة عبر منصات التعلُّم عبر الإنترنت.
وبالإضافة إلى ذلك، رفعت إندونيسيا أيضاً المعايير التعليمية، وأدخلت مناهج دراسية جديدة، كما رفعت مرتبات المعلمين، وعززت تقنيات وأساليب تدريس العلوم والرياضيات. علاوةً على ذلك، تستثمر الحكومة في تطوير البنية التحتية الرقمية لتسهيل وصول الطلاب إلى أفضل المواد التعليمية عبر الإنترنت. وتشمل الجهود الأخرى توسيع شبكة المدارس، وإنشاء مختبرات عالية الجودة في الجامعات والمدارس، فضلاً عن التركيز على التعليم القائم على المهارات في مؤسسات ما بعد المرحلة الثانوية؛ من أجل تزويد الطلاب بخبرة في مجال العمل، كما شجَّعت الابتكار عبر تبني مبادرات مختلفة للبحث والتطوير من قِبَل القطاعين العام والخاص، ومؤسسات التعليم العالي.
4. تبني سياسات مالية ونقدية مُرحِّبة بالمستثمرين الأجانب: منذ توليه منصبه، شدد الرئيس الإندونيسي الحالي جوكو ويدودو وحكومته على استراتيجية التنمية الإقليمية، مع التركيز على الاستثمار في البنية التحتية؛ لجعلها أكثر جاذبيةً للمستثمرين الأجانب، ومحاولة تقديم تسهيلات للمستثمرين؛ فعلى سبيل المثال، أعدَّت الحكومة الإندونيسية مجموعة من الحوافز الضريبية وغير المالية، على غرار تبني سياسات تُسهِّل استقدام العمالة من الخارج، بالإضافة إلى توسيع نطاق الإعفاءات الضريبية على دخل الشركات، والإعفاء من رسوم الاستيراد ورسوم الإنتاج.
5. تحسين بيئة الأعمال المحلية: تبنَّت حكومة الرئيس الإندونيسي أيضاً عدداً من السياسات التي حفَّزت الإدارات الإقليمية والمحلية على اتخاذ تدابير لتحسين بيئة الأعمال المحلية، مثل الحد من الفساد، وتحسين الرعاية الصحية والتعليم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يدعم النمو الاقتصادي للبلاد على المدى الطويل. هذه الصحوة الاقتصادية قد تجعل إندونيسيا مُنافِساً محتملاً للصين في المنطقة، خاصةً مع تصاعد المنافسة الاقتصادية بين بكين والولايات المتحدة الأمريكية.
6. الاعتماد على استراتيجية اقتصادية متطورة: إذ تعمل جاكرتا على تعزيز مكانتها الاقتصادية من خلال استراتيجية اقتصادية ذات ثلاثة جوانب. وبحسب تقرير منشور على موقع “إندبندنت عربية”، بعنوان “إندونيسيا.. رؤية طموحة واقتصاد مزدهر”، فإن الجوانب الثلاثة للاستراتيجية الإندونيسية تعتمد على "الاقتصاد الأخضر، ورقمنة الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وتطوير الصناعات التحويلية في البلاد. وفي الصناعات التحويلية تركز إندونيسيا بشكل خاص على الصناعات المعدنية والفحم والوقود؛ بحيث ترتفع قدرة البلاد على التصدير والتنافسية مع الأسواق العالمية. ويُتوقَّع أن يصل حجم الاقتصاد الرقمي في إندونيسيا بحلول عام 2030 إلى 300 مليار دولار، ليصبح أكبر اقتصاد رقمي في منطقة جنوب شرق آسيا".
بيئة الاستقطاب
يدخل العالم حقبة جديدة في ظل تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين؛ ففيما مضى، كانت هناك إمكانية لتعاون الطرفين؛ وذلك على الرغم من الخلافات السياسية والأيديولوجية، وتضارب المصالح الأمنية، ووجهات النظر المتباينة حول الاقتصاد العالمي؛ فقد عملت الولايات المتحدة مع القيادة السياسية الصينية خلال الأزمة المالية لعام 2008 على السيطرة، بصورة وأخرى، على الأزمة ومنع انتشارها، والتخفيف من حدة آثارها، واستعادة استقرار الاقتصاد الكلي.
وعلى العكس تماماً في الوقت الحاضر، فقد فشلت جائحة كورونا في تنشيط التعاون بينهما، بل تشهد العلاقات تدهوراً حاداً من علاقة تنافسية لكن تعاونية في بعض الأحيان، إلى علاقة مُواجَهة في جميع النواحي تقريباً. وقد احتدم الصراع مؤخراً بعد إسقاط بالون تجسس صيني مزعوم فوق الأراضي الأمريكية خلال مطلع فبراير. ونتيجةً لذلك، تحاول الولايات المتحدة إنقاذ حصتها في سوق البلدان الأخرى؛ خشية أن تخسر السباق التنافسي المحتدم مع الصين، خصوصاً مع عودة الانفتاح الكلي للأخيرة، عن طريق تقوية علاقاتها مع حلفاء آخرين، خاصةً الديمقراطيات في آسيا وأوروبا؛ من أجل الضغط على أكبر اقتصاد عالمي، وخلق نفوذ مُوازٍ لها. وتعد إندونيسيا – الديمقراطية الآسيوية الهامة – بمنزلة الجائزة الكبرى في المعركة الجيوسياسية المحتدمة بين واشنطن وبكين. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى عدد من الأبعاد الرئيسية:
1. المراهنة على موقع إندونيسيا الاستراتيجي: تُعَد إندونيسيا دولة غنية بالموارد، وتمتلك اقتصاداً سريع النمو يبلغ نحو تريليون دولار سنوياً، وعددَ سكان كبيراً في تزايد مستمر، كما أن موقعها الاستراتيجي الممتد على ما يقارب 17000 جزيرة تقع في وسط العديد من الممرات البحرية الحيوية، وتحتل أهمية دفاعية خاصة في الصراع المحتمل القادم حول تايوان؛ هذا الموقع يعزز مكانة إندونيسيا ويجعلها محوراً مهماً في حالة التنافس بين واشنطن وبكين. وهذا التنافس يتيح لجاكرتا فرصاً للاستفادة الاقتصادية.
2. دفع واشنطن جاكرتا للانضمام للمعسكر الغربي: قام وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بزيارة إندونيسيا في نوفمبر الماضي؛ حيث اجتمع مع نظيره الإندونيسي، وناقش سبل تعميق الشراكة بين البلدين، بما في ذلك توسيع إمكانية التشغيل البيني، وزيادة الاستثمارات في التعليم، والتدريب الدفاعي المشترك فيما بين البلدَين. وقد رحَّب وزير الدفاع الإندونيسي، من جانبه، بالشراكة مع الولايات المتحدة، لكنه شدد على موقف بلاده المحايد؛ حيث إنها تفضل العلاقات غير المنحازة مع جميع الدول، وخاصةً العلاقة مع القوى الكبرى.
3. حفاظ إندونيسيا على حيادها السياسي: على الرغم من إعراب وزير الدفاع الإندونيسي – خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي لبلاده – عن قلق جاكرتا من التعديات الصينية على منطقتها الاقتصادية الخالصة في بحر الصين الجنوبي، فإنه قد أكد اعتبار جاكرتا الصين دولة صديقة، وأن البلدين لديهما طرقهما الخاصة لإدارة الخلافات حول المياه الإقليمية.
كما لم ينجح وزير الدفاع الإندونيسي ونظيره الأمريكي في التوصل إلى صفقة شراء 36 طائرة مقاتلة أمريكية. وأكدت إندونيسيا مرة أخرى رغبتها في تبني موقف محايد سياسياً عند التعاطي مع الصراع الأمريكي الصيني في المنطقة، من خلال تصريحات وزيرة الخارجية ريتنو مارسودي، التي أدلت بها في ختام اجتماع لوزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بجاكرتا. وقد قالت الوزيرة إن إندونيسيا تعتزم تكثيف المحادثات مع الصين ودول أخرى في جنوب شرق آسيا؛ لوضع اللمسات الأخيرة على مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي المُتنازَع عليه، وسط تصاعد التوترات في الممر المائي الاستراتيجي، مؤكدةً ضرورة أن يقتصر التداول في هذه المسألة على دول المنطقة.
4. أهمية العلاقات مع الصين بالنسبة لاقتصاد إندونيسيا: على الرغم من وجود مساعٍ أمريكية حقيقية لاستمالة جاكرتا، فإن من المرجح أن تكون هذه الجهود الأمريكية أقل نجاحاً، خاصةً عقب إعادة الصين فتح اقتصادها، وتخليها عن سياسة “صفر إصابات بفيروس كورونا” التي قيَّدت علاقاتها الخارجية لفترة طويلة؛ فقد ضخَّت الصين سابقاً الكثير من الأموال والاستثمارات في الاقتصاد الإندونيسي، كما استثمرت مليارات الدولارات للمضي قدماً في مشروع تطوير أكبر رواسب من النيكل في العالم، ناهيك عن تسريع إيصال شحنات من لقاح فيروس كورونا إلى البلاد خلال ذروة انتشار الفيروس عالمياً.
كما أن للصين دوراً واضحاً في دفع تطوير البنية التحتية بإندونيسيا، بما في ذلك بناء قطار فائق السرعة لربط مساحات كبيرة من البلاد بعضها ببعض، كما تعتمد إندونيسيا على شركة الاتصالات الصينية “هواوي” في حلول الأمن السيبراني، وحتى في تطوير أنظمة الاتصالات الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت الصين أكثر من 6 مليارات دولار في إندونيسيا خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، مقارنةً بنحو ملياري دولار فقط من الاستثمارات الأمريكية في البلاد، كما يشير الخبراء إلى أن الصين لا تمل أبداً من المحاولة لاستمالة جيرانها في المنطقة والحفاظ على مصالحها، عن طريق تنفيذ شراكات لا تهيمن عليها المشروطية السياسية، في الوقت الذي تضع فيه الولايات المتحدة قائمة من الشروط المُرهِقة قبل الموافقة على الاستثمار، وهو ما يجعل كفة الصين راجحة في النجاح للوصول إلى الاستثمارات المرغوبة.
5. احتمالية تقديم إندونيسيا وجهة اقتصادية بديلة عن الصين: صحيح أن الصين تشكل طرفاً دولياً مهماً بالنسبة إلى الاقتصاد الإندونيسي، بيد أن التطور الحادث في هذا الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة، يجعله وجهة محتملة بديلة عن الصين بالنسبة إلى الاستثمارات الغربية، لا سيما مع الضغوط الأمريكية على الشركات من أجل الابتعاد عن السوق الصينية؛ إذ غادرت بعض الشركات الصينَ بسبب ضغطٍ من الولايات المتحدة؛ منها شركة أبل، ومايكروسوفت وغيرهما، وخوفها من أن تُدرِجَها أمريكا في القائمة السوداء، في ظل العقوبات الاقتصادية الموجَّهة إلى الصين، كما أن أصحاب الأموال قلقون من أن تنتهج الصين نهج روسيا في التعامل مع أزمة تايوان.
في النهاية، يمكن القول إن إندونيسيا لا تزال بعيدة عن منافسة الصين اقتصادياً؛ فهي لا زالت في حاجة لدعم أكبر اقتصاديات العالم لشق طريقها في ثورتها الاقتصادية، ناهيك عن احتلالها أهمية خاصة في السياسة الخارجية الصينية تُجاه دول آسيا، واستبعاد سماح بكين بانضمام جاكارتا إلى المعسكر الأمريكي، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن في هذه الدولة.