منذ عام 2020 يواجه العالم أكبر زيادة في معدلات الدين منذ الحرب العالمية الثانية، في ضوء الأزمات الناتجة عن جائحة كورونا التي أفضت إلى تعرض الاقتصاد العالمي لأزمة عالمية وركود عميق، ليرتفع الدين الكلي العالمي إلى 256% من إجمالي الناتج المحلي العالمي خلال عام 2020. وفي عام 2021 وصل الدين الكلي العالمي إلى مستوى قياسي بلغ 303 تريليونات دولار، وتفاقمت أزمة الديون وتأثيراتها على الاقتصاد العالمي في ظل تفاقم أزمة الدين القومي في الولايات المتحدة؛ حيث بلغت ديون الولايات المتحدة حالياً ستة أضعاف ما كانت عليه في بداية القرن الحادي والعشرين؛ ليمثل أكبر حجم منذ الحرب العالمية الثانية. ومن المتوقع أن ينمو بمعدل 1.3 تريليون دولار سنوياً خلال العقد المقبل.
وقد تجاوزت الولايات المتحدة الحد القانوني البالغ 31.4 تريليون دولار للاقتراض مع بداية عام 2023. وفي غضون عقدين فقط أضافت واشنطن ديوناً بقيمة 25 تريليون دولار؛ ما وضع واشنطن على شفا أزمة مالية أخرى؛ حيث أدى عقدان من السياسات الخاطئة للحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى زيادة الاقتراض؛ إذ اعتاد السياسيون من كلا الحزبين اقتراض الأموال لتمويل الحروب، والتخفيضات الضريبية، وتوسيع الإنفاق الفيدرالي لاتخاذ تدابير طارئة لمساعدة الاقتصاد الأمريكي على تحمل فترات من الركود المنهك. لكن الاقتصاديين يحذرون من أن الفشل في رفع حد الدين قد يكون كارثياً.
أبعاد رئيسية
في الوقت الذي يعيش فيه العالم أزمات مالية واقتصادية بسبب تداعيات الأزمة في أوكرانيا واستمرار تداعيات جائحة كورونا الممتدة، تتزايد المخاوف من أزمة مالية عالمية، وفي حال التخلف عن سداد الديون الأمريكية، سيؤدي إلى ركود اقتصادي في الولايات المتحدة، وقد يؤدي من ثم إلى أزمة مالية عالمية. وتتمثل أهم أبعاد أزمة الديون الأمريكية ومخاوف التخلف عن السداد فيما يلي:
1- ارتفاع معدلات الدين الأمريكي: خلال العقود الماضية شهدت الديون الأمريكية معدلات ارتفاع كبيرة؛ فقد نمت ديون الولايات المتحدة من 1989 إلى 2021 بأكثر من 800%. ولعبت عدد من العوامل دوراً مهماً في ارتفاع هذه الديون، وفي مقدمة هذه العوامل حرب أفغانستان وحرب العراق، والأزمة المالية العالمية 2008، وجائحة كورونا في عام 2020؛ ففي الفترة 2019 حتى 2021 ارتفع الإنفاق الأمريكي بنحو 50%.
جدير بالذكر أن الدين القومي شهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات العشر الماضية؛ حيث ظلت نفقات الفائدة خلال هذه الفترة مستقرة إلى حد ما بسبب أسعار الفائدة المنخفضة وتقدير المستثمرين أن الحكومة الأمريكية لديها مخاطر منخفضة للغاية من التخلف عن السداد، ولكن اعتباراً من ديسمبر 2022، تم إضافة نحو 210 مليارات دولار للدين الأمريكي، وهو ما يمثل 15% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي.
2- التأثيرات المعاكسة لتزايد معدلات الإنفاق: اضطلعت زيادة الإنفاق الحكومي بتفاقم الديون الأمريكية، وخصوصاً مع السياسات التي تبنتها بعض الإدارات الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال، أدى الإنفاق الناتج عن الحروب إلى إضافة تريليونات الدولارات إلى الدين القومي؛ حيث قدرت وزارة الدفاع الأمريكية العام الماضي أن التكاليف المباشرة للحروب في العراق وسوريا وأفغانستان قد تجاوزت 1.6 تريليون دولار، في حين وجد باحثون أضافوا تكاليف غير مباشرة، لا سيما رعاية قدامى المحاربين في تلك الحروب والفوائد على الأموال المقترضة لتمويل الجيش، أن التكلفة الإجمالية كانت أعلى بكثير، وأقل بقليل من 6 تريليونات دولار لكل جهود أمريكا في الحرب على الإرهاب في أعقاب 11 سبتمبر 2001.
كما ساهمت بعض برامج الإنفاق الدائم الجديدة، التي تتماشى مع الغرض من الحكومة الفيدرالية بإنفاق الأموال على البرامج والخدمات لضمان رفاهية المقيمين في الولايات المتحدة، في تزايد الديون. على سبيل الذكر، ساهم برنامج استحقاق العقاقير التي تصرف من خلال برنامج “ميديكير” – وهو برنامج التأمين الصحي للأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكبر – في رفع العجز الأمريكي بشكل واضح؛ حيث كلف أكثر من 100 مليار دولار في عام 2022 وحده.
3- تداعيات تراجع الإيرادات الضريبية: فقد فاقم تراجع الإيرادات الضريبية من أزمة الديون الأمريكية خلال السنوات الماضية؛ حيث أشارت بعض التقديرات إلى أنه منذ عام 2001 حتى عام 2018، أضافت التخفيضات الضريبية وتكاليف الفائدة الإضافية للاقتراض لتمويلها ما يصل إلى 5.6 تريليون دولار للدين الأمريكي. وفي هذا الإطار، ذكرت وزارة الخزانة الأمريكية، يوم 12 ديسمبر 2022، أن الحكومة الأمريكية سجلت عجزاً شهرياً في الميزانية قدره 249 مليار دولار في نوفمبر الماضي، بزيادة قدرها 30% عن العام السابق وسط زيادة الإنفاق وانخفاض الإيرادات. وبحسب بيانات الوزارة زادت نفقات الميزانية الفيدرالية بمقدار 28 مليار دولار، أو 6% في شهر نوفمبر الفائت؛ حيث أبلغت وكالات مثل وزارة التعليم عن زيادة الإنفاق. وانخفضت عائدات شهر نوفمبر بنسبة 10%، أو 29 مليار دولار تقريباً، مع حدوث انخفاضات في مجالات مثل الإيرادات الحكومية من ضرائب الرواتب.
4- صراع حزبي حول سقف الدين الأمريكي: قد يؤدي الخلاف بين الجمهوريين الذين يسيطرون على النسبة الكبرى من مجلس النواب وبين الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بشأن رفع سقف الدين الأمريكي مرة أخرى إلى أزمة تخلف عن سداد الديون الأمريكية، خاصة بعد بلوغ الولايات المتحدة في 19 يناير 2023 سقف الدين – وهو الحد الأقصى للمبلغ الإجمالي للأموال التي يُسمح للحكومة الفيدرالية باقتراضها عبر سندات الخزانة الأمريكي، مثل السندات وسندات الادخار للوفاء بالتزاماتها المالية – الذي حدده الكونجرس الأمريكي وهو السقف البالغ 31.4 تريليون دولار.
وفي هذا الصدد، طالبت وزارة الخزانة الأمريكية الكونجرس برفع سقف الدين الأمريكي محذرة من أن التخلف عن السداد سوف يلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد الأمريكي، وربما يتسبب ذلك في خفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة؛ حيث إن خطر التخلف عن سداد الديون السيادية أدى في عام 2011 إلى التخفيض الوحيد في تاريخ التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة. وأكد صندوق النقد الدولي أيضاً أن الفشل في رفع سقف الدين الأمريكي قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي.
انعكاسات محتملة
في ظل المناقشات حول احتمالات تخلف الولايات المتحدة عن سداد الديون في حالة عدم الاتفاق على رفع سقف الدين الأمريكي، بالتأكيد سيؤدي ذلك إلى ركود في الولايات المتحدة، وقد يؤدي إلى أزمة مالية عالمية؛ حيث إنه بمجرد إعلان الولايات المتحدة عن عدم قدرتها على سداد ديونها فإن ذلك ينذر بالفوضى داخل الأسواق المالية الأمريكية والعالمية. ويمكن توضيح أهم تداعيات أزمة الديون الأمريكية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي من خلال ما يلي:
1- تأثيرات سلبية على الوضع الاقتصادي الأمريكي: بشكل عام يتسبب ارتفاع معدلات الدين وخطر التخلف عن السداد إلى التأثير على النمو الاقتصادي للولايات المتحددة؛ حيث يشعر المستثمرون بالقلق من التخلف عن السداد عندما تكون نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكبر من 77%؛ فوفقاً لدراسة أجراها البنك الدولي، فإنه إذا تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 77% لفترة طويلة من الزمن، فإنها تبطئ النمو الاقتصادي، وإن كل زيادة بنقطة مئوية من الدين فوق هذا المستوى تكلف الدولة 0.017 نقطة مئوية في النمو الاقتصادي السنوي.
وأظهرت بعض التقديرات أن المستوى المرتفع للديون الوطنية يثبط النمو على المدى الطويل؛ لأنه يؤثر على أسعار الفائدة؛ إذ توصل مكتب الميزانية في الكونجرس إلى أن زيادة الدين بمقدار نقطة مئوية واحدة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن ترفع أسعار الفائدة بمقدار نقطتين إلى 3 نقاط أساس، وتؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى إبطاء النمو الاقتصادي.
وقد أشار تقرير صادر عن وكالة “موديز” عن حدوث تأثيرات كارثية ومدمرة، ولا يمكن تصورها إذا تخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وحصول تأثيرات تساوي تلك التي حدثت إبان الأزمة المالية بعد عام 2007، كانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% تقريباً، وفقدان ما يقرب من ستة ملايين وظيفة، وانخفاض أسعار الأسهم بمقدار الثلث تقريباً.
2- تقليص المزايا الفيدرالية للمواطنين الأمريكيين: من المتوقع أن عشرات الملايين من الأسر الأمريكية قد لا يحصلون على مزايا فيدرالية، مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والمساعدة الطبية، والمساعدات الفيدرالية المتعلقة بالتغذية والمحاربين القدامى والإسكان، في الوقت المحدد أو على الإطلاق، خاصة في ظل طلب الجمهوريين ربط الموافقة على رفع سقف الدين الأمريكي بخفض الحكومة الأمريكية معلات الإنفاق الحالية، وقد تتأثر الوظائف الحكومية مثل الدفاع الوطني، إذا تم تجميد رواتب الأفراد العسكريين في الخدمة الفعلية، بالإضافة إلى مخاوف الركود الناجمة عن فقدان الآلاف من الوظائف وارتفاع معدلات البطالة.
3- تراجع الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة: تشمل التداعيات المحتملة للوصول إلى الحد الأقصى للدين الأمريكي، خفض التصنيف الائتماني السيادي من قبل وكالات التصنيف للولايات المتحدة كما حدث في عام 2011 عندما خفضت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف الولايات المتحدة من AAA بدرجة واحدة إلى AA+ مع توضيحات بضعف القدرة على التنبؤ في صنع السياسة الأمريكية والمؤسسات السياسية. وسيطلب العملاء أسعار فائدة أعلى بكثير على سندات الخزانة للتعويض عن المخاطر الإضافية.
بالإضافة إلى ذلك سترتفع تكاليف الاقتراض للشركات وأصحاب المنازل على حد سواء، كما أن انخفاض ثقة المستهلك قد يصدم السوق المالية الأمريكية ويدفع الاقتصاد الأمريكي إلى الركود. جدير بالذكر أن الخبراء الاقتصاديين لدى بنك جولدمان ساكس قد قدروا بأن خرق سقف الديون من شأنه أن يوقف على الفور نحو 10% من النشاط الاقتصادي الأمريكي، ومن الممكن أن يتسبب التخلف عن السداد في إضافة 130 ألف دولار إلى تكلفة متوسط الرهن العقاري الأمريكي لمدة ثلاثين عاماً. بالإضافة إلى ذلك، سيدفع تراجع الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة، وأسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال المستثمرين في المدى القصير بعيداً عن الاستثمارات الفيدرالية التي تشتد الحاجة إليها في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
4- اهتزازات متوقعة في الأسواق المالية العالمية: قد يؤثر تخلف الولايات المتحدة عن السداد سلباً على الأسواق المالية العالمية من حيث حالة عدم اليقين التي تنتاب تلك الأسواق بمجرد تداول أخبار عن عدم قدرة واشنطن على سداد الديون؛ حيث عززت الجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأمريكية الطلب على الدولار الأمريكي منذ فترة طويلة؛ ما ساهم في ارتفاع قيمة تلك السندات وتصنيفها الائتماني، وتعزيز مكانة الدولار الأمريكي، لكن في حال تخلف الولايات المتحدة عن السداد سيتم الإضرار بقيمة الدولار – الذي يتم الاحتفاظ بأكثر من نصف احتياطيات العملات الأجنبية في العالم به – حيث يقوم المستثمرون ببيع سندات الخزانة الأمريكية فيضعف الدولار؛ لذا فإن الانخفاض المفاجئ في قيمة الدولار يمكن أن ينتشر في سوق سندات الخزانة مع انخفاض قيمة الاحتياطيات الدولية لدى تلك الدول التي تحتفظ بالدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي. وفي الوقت الذي تكافح فيه البلدان المنخفضة الدخل المثقلة بالديون لسداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية، يمكن أن يؤدي ضعف الدولار إلى جعل الديون المقومة بعملات أخرى أكثر تكلفة نسبياً ويهدد بدفع بعض الاقتصادات الناشئة إلى أزمات ديون.
على صعيد آخر، قد تواجه عدد من الدول التي تستحوذ على نصيب كبير من سندات الخزانة الأمريكية صعوبة في الحصول على مدفوعاتها المالية لتلك السندات. على سبيل الذكر ستواجه الصين – التي يمتلك اقتصادها ما يقارب تريليون دولار أمريكي من سندات الخزانة الأمريكية عام 2022 – مشكلة في الاستحواذ على أي مدفوعات للفائدة على تلك الأوراق المالية، أو تفقد استثماراتها تماماً إذا تخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها.
وختاماً، فإنه بين الحين والآخر يثار الجدل في الولايات المتحدة حول سقف الدين القومي، لكن حالياً تلوح المخاطر في الأفق إذا لم يستطع الكونجرس إنهاء هذا الجدال مع الحكومة؛ حيث إنه إذا تخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، فسيكون ذلك سابقة تاريخية؛ ما سيؤدي إلى تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة؛ ما يؤثر على الاقتصاد الأمريكي وأسواقه المالية ومن ثم يؤثر على الأسواق المالية العالمية. ويعتقد العديد من المحللين أن الأزمة في طريقها إلى أخذ منحنيات خطيرة واستمرار مراكمة الدين الذي سيسبب انفجاراً، وعدم السداد الذي سيتسبب في خلق أزمة عالمية.