صدر تقرير ميونخ للأمن (MSR) لعام 2023، بالتزامن مع عقد مؤتمر ميونخ للأمن خلال الفترة (17–19 فبراير الجاري)، ويُبرز بشكل كبير تزايد المنافسة بين القوى الدولية حول مستقبل النظام الدولي؛ إذ يركز التقرير على ملامح هذا التنافس في مختلف المجالات، وسبل الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، وجعله أكثر مرونةً وجاذبيةً لمجموعة أكبر من دول العالم. ويتحدَّث التقرير عن سعي دول الجنوب العالمي للتحوط بنهج أكثر برجماتيةً، ووجود مطالبات بالتحرك لإعادة النظر في القواعد الدولية الراهنة، فضلاً عن وجود حاجة إلى إعادة هيكلة تحالف الدول الغربية، وتنافس القوى الكبرى على البنية التحتية الرقمية وملف الطاقة.
محاولات تصحيحية
أكد التقرير أن النظام الدولي الحالي يعاني من العديد من الأزمات، ويدلل على ذلك بما يلي:
1– تقسيم الدول إلى معسكرَين على أساس الديمقراطية: قسَّم التقرير دول العالم إلى معسكرين؛ أولهما تُمثله الدول الديمقراطية، في حين يضم الآخَر ما وصَفها بـ”النظم الاستبدادية”، التي تشمل روسيا والصين وغيرهما. وبحسب التقرير، فإن المعسكرَين ينخرطان في تنافس كبير لصياغة النظام الدولي، معتبراً أن خط الصدع الرئيسي في السياسة العالمية اليوم يتمثل في الانقسام بين القوى الديمقراطية والقوى الأوتوقراطية؛ وذلك في إشارة إلى دول حلف الناتو من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر.
2– تزايُد الغموض بالنسبة إلى مستقبل النظام الدولي: أكد التقرير أن العالم يدخل عقداً حاسماً من المنافسة على مستقبل النظام الدولي، مشيراً إلى تزايد جهود القوى التصحيحية أو التعديلية لاستبدال النظام الدولي الراهن – ويشير مصطلح القوى التصحيحية إلى مجموعة الدول غير الراضية عن توزيع القوى الراهن في النظام الدولي، وتطمح إلى تغييره – معتبراً أن روسيا والصين على رأس هذه القوى التصحيحية، وواصفاً الحرب الروسية ضد أوكرانيا بأنها بمنزلة هجوم على المبادئ الأساسية لقواعد النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية.
3– مُعارَضة العديد من الدول قواعد النظام الدولي الراهن: أشار التقرير إلى أن إحجام عدد كبير من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا عن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ينبع من فقدان دول الجنوب العالمي الثقة بشرعية وعدالة النظام الدولي، الذي لم يُعالِج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ، ولم يمنحها المكانة التي تستحقها للاضطلاع بدور أكبر في الشؤون العالمية. ووفقاً للتقرير، فإن عدم تدارك هذا الاستياء، يجعل من السهل استقطاب هذه الدول لتقويض قواعد ومبادئ هذا النظام من جانب أي قوى دولية معادية تتبنى رؤى تصحيحية.
4– سعي دول الجنوب العالمي للتحوط بنهج أكثر برجماتيةً: أكد التقرير أن التداعيات السلبية للأزمة الأوكرانية، مثل ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، أدت إلى إلحاق ضرر كبير ببلدان “الجنوب العالمي”، مشيراً إلى أنه في ظل تأخر إدراك الدول الغربية لهذه الحقيقة، اتجهت عدد من دول المنطقة، كالهند وتركيا –بحسب التقرير – للعمل بنشاط كبير من أجل التحوط ضد المواجهة الجيوسياسية الراهنة بين القوى الغربية وروسيا، سواء فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية أو العديد من القضايا السياسية الأخرى.
5– مطالب بالتحرُّك لإعادة النظر في القواعد الدولية الراهنة: وفقاً للتقرير، فإن 50% أو أكثر من المستجيبين في جميع البلدان التي شملها استطلاع مؤشر ميونخ للأمن 2023، يرون الحاجة إلى قواعد دولية تنطبق على جميع دول العالم على قدم المساواة. وقد كانت هذه النظرة أقوى بين المستجيبين من عدد من دول الجنوب العالمي، مثل الصين (63%)، والهند (61%)، وجنوب أفريقيا (61%)، والبرازيل (57%). وبحسب التقرير، فإن هذه النتائج تؤكد الحاجة الماسة إلى التحرك نحو صياغة رؤية إيجابية جديدة لنظام دولي مرغوب فيه من جانب الجمهور العالمي الأوسع، ويعمل لصالح الجميع.
انقسامات غربية
رأى التقرير أنه على الرغم من حالة التضامن التي ظهرت بين الدول الغربية نتيجة الحرب الأوكرانية، فإن ثمة انقسامات في المعسكر الغربي، ويرتبط بذلك ما يلي:
1– وجود حاجة إلى إعادة هيكلة تحالف الدول الغربية: أشار التقرير إلى أن الديمقراطيات الليبرالية تحتاج إلى بناء تحالف أكبر من الدول يتجاوز جوهر الديمقراطية الليبرالية، موضحاً أن تعزيز التعاون القائم على القيم بين الديمقراطيات الليبرالية، ضروري لكنه غير كافٍ. وأضاف التقرير أن الأزمة الأوكرانية أثبتت أن الديمقراطيات الغربية بالغت في تقدير جاذبية النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، وهو ما أدركته مع عزوف العديد من دول الجنوب العالمي عن مساندة هذا النظام، موضحاً أنه إذا ما أرادت الدول الغربية اكتساب المزيد من الحلفاء حول العالم، وحشد دعمهم للنظام الدولي الراهن، فإنه يتعين عليها البدء في إصلاح عيوبه.
2– تواصُل انقسام الدول الغربية حول التهديد الصيني: أشار التقرير إلى أنه بخلاف المواقف الغربية التي أضحت أكثر وضوحاً واتفاقاً بشأن خطورة التهديد الروسي، لا تزال القوى الغربية أكثر انقساماً إزاء التهديدات التي تمثلها الصين، والتي يصفها التقرير بأنها المنافس التعديلي/التصحيحي الأكثر قوةً وطموحاً على المستوى الدولي. وأضاف التقرير أن هذا الانقسام يبرز بشكل كبير بين دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى (G7)، التي تبدو أقل تماسكاً في رؤيتها بشأن التعامل مع الصين مقارنةً برؤيتها فيما يتعلق بروسيا.
3– تآكل الإجماع الغربي بشأن رؤية موحدة للنظام الدولي: حذر التقرير من أن القوى الأوروبية والغربية ليست موحدة في رؤيتها حول قواعد النظام الدولي؛ وذلك على النقيض من الصين التي وصفها التقرير بأنها تثق بشدة برؤيتها التصحيحية أو التعديلية بشأن مستقبل النظام الدولي، وأضاف أنه في ثلاث من دول الاتحاد الأوروبي التي شملها استطلاع مؤشر ميونخ للأمن 2023 – وهي فرنسا وألمانيا وإيطاليا – كان هناك 15% فقط يرون أن الاتحاد الأوروبي لديه رؤية واضحة للغاية بشأن رؤيته حول كيفية إدارة النظام الدولي، بينما أكد 25% أن بروكسل لا تمتلك رؤية على الإطلاق في هذا الصدد.
احتدام المنافسة
شدد التقرير على تصاعد حدة المنافسة بين القوى الكبرى في النظام الدولي. وتتمثل أبرز المؤشرات المعبرة عن ذلك فيما يلي:
1– ارتباط مخاوف الأمن القومي بسياسات التجارة: طبقاً للتقرير، أولت الصين مؤخراً أهمية للمخاوف المتعلقة بالأمن القومي بدلاً من النمو الاقتصادي باعتباره محركاً رئيسياً لسياسة التجارة الصينية، وأضاف أن بكين أعلنت في مايو 2015 استراتيجية تستهدف زيادة قدرتها التنافسية في الصناعات التكنولوجية تحت شعار “صنع في الصين 2025، وبحسب التقرير، اتجهت واشنطن خلال السنوات الأخيرة نحو تبني سياسات تجارية حمائية؛ فعلى سبيل المثال أقر الكونجرس في أغسطس 2022 قانون CHIPS and Scienc الذي يوفر 52.7 مليار دولار لتحفيز شركات أشباه الموصلات على بناء مصانع على الأراضي الأمريكية وتقليل الاعتماد على المنتجين الأجانب.
2– قلق الدول الغربية من مبادرة الحزام والطريق: أشار التقرير إلى أن مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها بكين ليست مجرد مشروع اقتصادي يركز على البنية التحتية، بل يروج للمعايير والقيم الصينية في مواجهة نظيراتها الغربية، وأضاف أن المبادرة تتسبب في تبعية الدول إلى بكين، خصوصاً الدول المثقلة بالديون الصينية. وأوضح التقرير أن مبادرة الحزام والطريق تنطوي على مخاطر تتعلق بالفساد، بجانب مخاطر بيئية واجتماعية، وفق ما ذكر التقرير.
3– تنافس القوى الكبرى على البنية التحتية الرقمية: أكد التقرير أن التنافس بين المعسكرات الديمقراطية والأوتوقراطية انتقل إلى ملف البنية التحتية المادية والرقمية؛ وذلك في ظل مساعي كل معسكر لإضفاء رؤى الحوكمة الخاصة به على جهوده في هذا الملف؛ ففيما يتعلق بالبنية التحتية الرقمية، أضاف التقرير أنه في مقابل مساعي من وصفها بأنها ”دول استبدادية تقودها الصين” لتعزيز رؤيتها لبنية تحتية رقمية منغلقة، يسعى الشركاء عبر الأطلسي لتعزيز رؤية مشتركة حول بنية تحتية رقمية مفتوحة.
4– احتدام المنافسة دولياً بمجالات التعاون الإنمائي: أشار التقرير إلى أن قضايا الصحة والأمن الغذائي وتمويل المناخ، وغيرها من ملفات التعاون الإنمائي، أضحت محل تنافس كبير بين القوى الدولية؛ حيث يبرز دعم كل معسكر لنظام التنمية المرغوب فيه من وجهة نظره، وأَضاف أن العديد من البلدان النامية تُمثل أرضاً خصبة لمساعي بكين للترويج لنموذجها الخاص بالتعاون الإنمائي، كبديل للنماذج الأمريكية والأوروبية المشروطة بقضايا الديمقراطية والحكم الرشيد والأسواق الحرة. وبحسب التقرير، تركز مساعدات روسيا للدول النامية على المساعدات الأمنية ومبيعات الأسلحة، بجانب الصناعات الاستخراجية وتوسيع فرص التصدير.
5– امتداد المنافسة بين القوى الكبرى إلى تمويل المناخ: أشار التقرير إلى أن تمويل المناخ أصبح من مجالات المنافَسة الجيوستراتيجية، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة، على حساب الدول النامية. ونوه التقرير أن روسيا والصين تطالبان بوضعهما كدولتين ناميتين بناءً على بروتوكول كيوتو لعام 1997، بينما تصنفان فعلياً بين الدول الأربعة الأولى في انبعاث الكربون. وأضاف التقرير أن بكين لم تنضم إلى جهود المناخ المتعددة الأطراف؛ لأنها ترى أن الدول الصناعية الكبرى تتحمل المسؤولية الوحيدة للتعويض عن انبعاثاتها التاريخية.
6– تزايد حدة المنافسة الدولية بشأن ملف الطاقة: أكد التقرير أن المنافسة بين القوى الدولية الديمقراطية والأوتوقراطية، امتدت لتشمل قضايا الطاقة، مشيراً إلى أن مساعي روسيا لتسليح صادرات الوقود الأحفوري، دفع القوى الأوروبية للتخلي عن الاعتماد على واردات الطاقة الروسية. وأشار التقرير إلى أن استمرارية الاعتماد على مصادر الطاقة التي تنتجها أنظمة وصفها التقرير بـ”الاستبدادية”، لا يزال يُمثِّل مصدر قلق كبير للديمقراطيات الغربية الليبرالية.
سباق تسلح
وختاماً، أكد التقرير أن ما وصفها بالأنظمة “الاستبدادية” التعديلية، فاقمت التحديات أمام الاستقرار الاستراتيجي وجهود الحد من التسلح، متطرقاً في هذا الصدد إلى التهديدات الروسية باستخدام الأسلحة النووية في الحرب ضد أوكرانيا، والاستثمارات الصينية المتزايدة في القدرات النووية، بجانب التحديات التي تُمثلها كوريا الشمالية وإيران أيضاً للنظام النووي. وأضاف التقرير أنه في ظل تدهور البيئة الأمنية الدولية، فإن آفاق مبادرات الحد من التسلح تتضاءل.