• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27

مثّل صعود الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى السلطة في الولايات المتحدة مؤشراً هاماً ولفت الانتباه على المستوى العالمي إلى خطورة صعود القوى الشعبوية إلى الحكم، وطبيعة إدارتها للسلطة، ومدى قدرتها على حل المشكلات الداخلية، وإدارة العلاقات الخارجية، فضلاً عن اختراق الالتزام التقليدي بالقواعد والمؤسسات السياسية في الديمقراطيات العتيقة، كتجسيد للموقف الشعبوي من تلك القيم والقواعد والمؤسسات.

ومع صعود قوى شعبوية في بعض الدول الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، سواء إلى السلطة، أو تزايد حصصها الانتخابية بشكل ملحوظ، فإن شبح النموذج الترامبي بات يسيطر على الأذهان، مع مخاوف من أن يمثل الصعود الشعبوي في أوروبا انقلاباً كبيراً غير منضبط على القيم والمؤسسات الأوروبية.

ولكن مع وصول جورجيا ميلوني إلى مقعد رئاسة الحكومة في إيطاليا، مع مواقف سياسية أكثر هدوءاً، بجانب توجه مارين لوبان إلى مواقف سياسية أكثر هدوءاً أيضاً مثل إعلانها عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن كل ذلك طرح تساؤلات حول مستقبل الخطاب الشعبوي في أوروبا، وما إذا كان يشهد تراجعاً على مستوى المضمون والأفكار ولماذا؟، فضلاً عن موجات الصعود والهبوط للشعبوية الأوروبية؟، وقبل ذلك كله، هل يصح الحديث عن الشعبوية الأوروبية بشكل عام في اتجاه واحد؟

الشعبوية الأوروبية.. موجات الصعود والهبوط

بات التركيز على اتجاهات نتائج القوى الشعبوية في الانتخابات الأوروبية إحدى أبرز النقاط التي تحظى باهتمام وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة، بالشكل الذي أدى أحياناً إلى انطباعات أو استنتاجات وليدة اللحظة، وعادة ما يدور الحديث حول صعود أو هبوط الشعبوية، أو طرح المخاوف أو الآمال عقب نتائج كل استحقاق انتخابي.

ولعل من المهم القول بادئ ذي بدء، أن الشعبوية الأوروبية على المستوى السياسي والانتخابي لا تسير على وتيرة واحدة ولا في اتجاه واحد، فهي وإن كانت لا تزال تحصد مكاسب التغطية الإعلامية المكثفة والانطباعات العامة حول صعودها على إثر لحظة الصعود في السنوات الأخيرة، فإنها أيضاً شهدت بعد ذلك موجة من الهبوط النسبي، وهي الموجة التي لا يمكن التعبير عنها بأنها تراجع للشعبوية الأوروبية أيضاً، فأقصى ما يمكن قوله في هذا الإطار، أن الشعبوية الأوروبية تتخذ اتجاهات متباينة في القارة الأوروبية، زمانياً ومكانياً، أي أنها مرت بلحظة صعود كبير تلاها تراجع عن هذه الطفرة مع استمرار الصعود النسبي في بعض الدول. فضلاً عن التباين المكاني، بسقوط الشعبوية في بعض الدول وصعودها في دول أخرى. كما أنه من المهم التمييز أيضاً بين الصعود طويل المدى للقوى الشعبوية بحصولها على حصص متزايدة في الانتخابات بشكل يضعها على المدى الطويل كفاعل سياسي محوري، وبين الصعود أو التراجع المطلق لقوى أو شخصيات شعبوية وصلت أو انزاحت من السلطة في بعض الدول.

والأهم أن الخطاب الشعبوي نفسه ليس بواحد، أو بالأحرى لم يعد واحداً، ولم يعد من قبيل الرشادة العلمية والأكاديمية والسياسية التعامل مع القوى الشعبوية كمسمى واحد دون الرجوع إلى ما تطرحه في برامجها وخطابها السياسي، نظراً لأن بعض القوى الشعبوية بات يفرقها أكثر مما يجمعها. فعلى سبيل المثال، فمع صعود رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلونى وحزبها إخوة إيطاليا إلى سدة الحكم، انطلقت بعض الكتابات التي شبهتها برئيس الوزراء المجرى، فيكتور أوربان وحزبه الاتحاد المدنى، فيما أن تدقيق النظر في مواقف الطرفين يشير إلى أن ما يجمعُهما على صعيد القيم المحافظة وبعض التوجهات الاقتصادية أقل مما يختلفان فيه على مستويات أخرى، خاصة على صعيد السياسة الخارجية، وموقفها من الحرب الأوكرانية والاتحاد الأوروبي.

 فضلاً عن أنه ينبغي التمييز عند الحديث عن الشعبوية بين الشعبوية الثقافية التي تركز على قضايا عرقية وثقافية ودينية، وعادة ما تطرحها قوى يمينية، وبين الشعبوية الاجتماعية والاقتصادية، التي تركز على قضايا العمال والاقتصاد، والتي عادة ما تطرحها قوى يسارية، وبين الشعبوية المناهضة للمؤسسة، والتي تركز على استهداف النخب وتطرحها شخصيات من خارج الإطار السياسي التقليدي ولديها العديد من الملاحظات عليه وتدعو إلى تغييره، وهو نمط مرتبط بدعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي أيضاً.

وفيما شهدت أوروبا موجة يمينية شعبوية من 2015 إلى 2020 بانتخاب حكومات يمينية متشددة في بولندا والمجر والنمسا وإيطاليا مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن القارة الأوروبية بعد جائحة كورونا تبدو على مشارف موجة ثانية، تثير التساؤلات حول ما إذا كانت أقل من سابقتها على مستوى النجاح والحظوظ الانتخابية، أو ما إذا كانت مختلفة على مستوى الخطاب وأقل حدة وأكثر براجماتية. وفيما أدى الشعبويون بشكل جيد في عدد من الدول، فإن أوضاعهم السياسية والانتخابية في دول أخرى لم تكن على نفس المستوى.

ويرتبط صعود وهبوط الأحزاب الشعبوية بطبيعة ملائمة السياق المحلي للقضايا التي تركز عليها، فعلى سبيل المثال، ففي حين أن قضايا الهجرة وتوغل الاتحاد الأوروبي في السيادة الوطنية، لم تكن على رأس أولويات القضايا في معظم الدول الأوروبية خلال عام 2022، فإن قضية الهجرة احتلت مكانة متقدمة في السويد، مكنت حزب ديمقراطيي السويد من الصعود الانتخابي الكبير وأن يكون ثاني أكبر حزب في البرلمان بـ 73 عضواً من أصل 349 عضواً، بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، في ظل ما شهدته السويد خلال السنوات الماضية من ارتفاع الوفيات بالأسلحة النارية، واعتبارها من الدول التي تضم أعداداً كبيرة من المهاجرين، خاصة أن الأحزاب الشعبوية تلقى مناخاً مواتياً بشكل أكبر في الدول التي تعاني من تأثيرات سلبية لظاهرة الهجرة والجريمة، وتحتل تلك القضية مكاناً متقدماً في نقاشها العام أو مخاوفها، مثل السويد. فيما يُعزى صعود ميلوني إلى السلطة في إيطاليا إلى الاستفادة من معارضتها للحكومة التكنوقراطية السابقة بقيادة ماريو دراجي، وميل الإيطاليين إلى التصويت ضد المؤسسات.

وفيما صعد الشعبويون في عدد من الدول الأوروبية كإيطاليا، فإن هذا لا ينطبق على دول أخرى كما لا ينطبق حتى على أحزاب شعبوية أخرى داخل نفس الدولة، فعلى سبيل المثال، بينما حظت الأحزاب الشعبوية اليمينية الرئيسية الثلاثة في إيطاليا (أخوة إيطاليا وفورزا إيطاليا وليجا) على 40% من الأصوات خلال انتخابات 2022 مقارنة بالثلث عام 2018، و30% تقريباً عام 2013، فإن حركة النجوم الخمسة قد تراجعت حصتها التصويتية بمقدار النصف مقارنة بعام 2018. كما أن دولاً أوروبية أخرى شهدت تراجع الحصص البرلمانية للأحزاب الشعبوية، مثل ألمانيا، حيث تراجع عدد نواب حزب البديل من أجل ألمانيا في انتخابات عام 2021 إلى 83 بدلاً من 94 في انتخابات 2017. فضلاً عن تراجع طفيف في شعبية الأحزاب الشعبية اليونانية رغم أنها لا تزال تحصل على حصة كبيرة من الأصوات.

كما شهد مطلع العالم الجاري صعود الجنرال السابق، بيتر بافل إلى رئاسة التشيك على حساب منافسه رئيس الوزراء السابق والملياردير الشعبوي، أندريه بابيش. ويعد بافل من المدافعين عن عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ودعا إلى مزيد من المساعدات لأوكرانيا، كما يؤيد اعتماد اليورو كعملة لجمهورية التشيك. وفي حين أن الخطاب الشعبوي يعتمد على انتقاد النخبة واتهامها بالفساد وعدم مراعاة توجهات واحتياجات المواطنين، فإن تراجع الشعبويين في التشيك والإطاحة برئيس الوزراء السابق، أندريه بابيس من منصبه، ثم خسارته السباق الرئاسي أمام الرئيس الحالي بافيل، يرتبط بعدة عوامل من بينها اتهامات الفساد التي لاحقته.

ويجادل اقتصاديون بأن الشعبوية تنتج سياسات غير متماسكة وغير قادرة على معالجة تلك المشاكل الاقتصادية التي تسببت في زيادة شعبيتهم. كما تشير بعض الدراسات إلى أن الأحزاب الشعبوية عادة ما تبني حملاتها الانتخابية على مشروع معين، وتفشل في تطوير برنامج سياسي شامل، بما يحد من فرص استمرارها في الحكم، في بعض الدول. وقد واجهت التيارات الشعبوية انتقادات تتعلق بعدم قدرتها على أداء المهام الحكومية بكفاءة وضعف سياساتها أو فشلها، مثل الأزمة الاقتصادية السريلانكية التي أطاحت بالرئيس جوتابايا راجاباكسا، في يوليو 2022.

ولا ينبغي النظر إلى صعود أو تراجع القوى الشعبوية في الانتخابات أو وصولها للحكم أو سقوطها منه على أنه يرتبط فقط بهذه القوى وخطابها السياسي ومدى قبوله في الأوساط الشعبية، إنما ثمة عامل مهم آخر يتعلق بقوة الأحزاب الأخرى المنافسة من جهة، وقدرة تلك الأحزاب على ترشيد التنافس والاختلافات، والتعاون وخوض الانتخابات كقوة مواجهة للتيار الشعبوي.

وعلى الرغم من مكاسبها الانتخابية في العديد من الدول، تشير استطلاعات رأي مركز بيو للأبحاث إلى أن معظم الأحزاب السياسية الشعبوية في أوروبا لا تحظى بشعبية على نطاق واسع، فباستثناء المجر حيث يُنظر إلى حزب "فيدس" الحاكم بشكل إيجابي من قبل 55٪ من الجمهور، لا يحصل أي حزب على تقييمات إيجابية من غالبية المواطنين الأوروبيين. وفي إيطاليا على سبيل المثال، مع تراجع النظرة الإيجابية لبعض الأحزاب الشعبوية، وفي حين أن حوالي ثلث الإيطاليين فقط ينظرون بإيجابية إلى أحزاب إخوة إيطاليا وفورزا إيطاليا وفايف ستار. فإن الصعود الانتخابي إلى الحكم كان مرتبطاً بنسب المشاركة المنخفضة، وتراجع شعبية وفرص الأحزاب الأخرى، بأكثر مما يرجع إلى قوة وحضور الأحزاب الشعبوية.

شعبوية أكثر اعتدالاً وبراجماتية

يجادل البعض بأن التيارات الشعبوية في أوروبا في طريقها لأن تكون أكثر طبيعية عبر انتهاج خطاباً أكثر اعتدالاً وبراجماتية بل وأنها أصبحت "طبيعية إلى حد ما" في ظل حدوث بعض التقارب بين بعض المواقف السياسية للأحزاب الشعبوية الأوروبية وبين التيارات السياسية التقليدية، سواء فيما يتعلق بقضايا الهجرة، أو تخلي بعض الأحزاب الشعبوية عن مواقفها المناوئة للاتحاد الأوروبي. وبينما كان الاتجاه العام للشعبويين قلب وعكس التيار السائد، فإن ثمة ملامح لبلورة تيار شعبوي وسيط بين التيارات التقليدية وبين الشعبوية المتطرفة، وما بين القبول بالسياسة الراهنة وبين الانقلاب التام عليها. فعلى سبيل المثال، أعلنت جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، أن حكومتها ليست ضد أوروبا. فضلاً عن أن بعض الصور من الشعبوية لم تعد راديكالية بقدر ما تقاربت مع رؤى سياسية موجودة في أوروبا، ومنها ما يتعلق بانتقاد الاتحاد الأوروبي كمؤسسة والمطالبة بإصلاحه دون أن يعني ذلك الخروج منه، وهو ما يفسر التراجع النسبي للمخاوف والقلق من سيطرة الشعبويين في أوروبا، في الحالة الإيطالية، على سبيل المثال.

كما يشير تقرير لمعهد توني بلير إلى أن التراجع الشعبوي في أمريكا اللاتينية ليس تراجعاً انتخابياً فقط عبر سقوط رؤساء شعبويين مثل بولسنارو، ولكنه أيضاً يرتبط بانتخاب جيل من اليساريين المعتدلين في القارة ممن تخلوا عن الخطاب الشعبوي التقليدي وركزوا على الاقتصاد التقدمي والحقوق الاجتماعية بدلاً من التركيز التاريخي لليسار الشعبوي على التأميم الصناعي. وقد عملت رئيسة الوزراء الإيطالي، جورجيا ميلوني، على النأي بنفسها عن الجدل حول أصول حزبها التاريخية والتنصل من الانتقادات التي تواجهها، رافضة الاتهامات بأن حزبها سيحيي الفاشية في إيطاليا، معلنة أن قيم حزبها مشابهة لقيم حزب المحافظين البريطاني والحزب الجمهوري الأمريكي. كما تشير فترة حكمها حتى الآن واجتماعاتها مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى اقترابها بشكل أكبر من النهج الأوروبي الأقل شعبوية مقارنة بالنهج المجري على سبيل المثال.

محددات ومحفزات الاعتدال

هناك عدد من المحددات والمحفزات التي قد تدفع القوى الشعبوية الأوروبية إلى تعديل خطابها السياسي نحو خطاب أكثر اقتراباً من الخطاب الأوروبي، أو ما يمكن تسميته بشعبوية أكثر اعتدالاً، بحيث تتبنى خطاباً أكثر براجماتية وواقعية، أو بتعبيرات أخرى تحويل الخطابات الشعبوية نحو طابع أكثر عقلانية أو منطقية، أو بتعبيرات ثالثة التوجه نحو المزيد من "أوربة" الخطابات الشعبوية في القارة، دون أن يعني ذلك التخلي عن صلب الخطاب الشعبوي بما يخلقه من فرص سياسية تضمن لهذه التيارات صعوداً انتخابياً ملحوظاً. ومن أبرز تلك المحفزات التي تدفع البعض إلى توقع أنماط غير تقليدية أو غير متوقعة من الشعبوية أو المحددات الحاكمة لتغير الخطاب الشعبوي وتراجع حدته:

1- الحديث عن تراجع اللحظة الشعبوية في العالم: على المستوى العالمي، يشهد العالم تراجعاً عن اللحظة الشعبوية التي كان دونالد ترامب تجسيداً لذروتها عبر تراجع جاذبية النموذج الشعبوي في العالم، وسقوط عدد من الحكومات الشعبوية حتى خارج القارة الأوروبية. فقد شهد عام 2022، سقوط أربع حكومات شعبوية، في البرازيل والفلبين وسلوفينيا وسريلانكا، حيث شهدت الانتخابات الرئاسية في البرازيل هزيمة الرئيس السابق جاير بولسونارو، وهزيمة حزب رئيس الوزراء السلوفيني السابق، يانيز يانسا، وإطاحة الاحتجاجات السريلانكية بالرئيس غوتابايا راجاباكسا. ويشير تقرير لمعهد معهد توني بلير إلى انخفاض عدد القادة الشعبويين في العالم إلى أدنى مستوى له منذ 20 عاماً بعد سلسلة من الانتصارات للتقدميين والوسطيين خلال العام الماضي، وانخفاض عدد الأشخاص الذين يعيشون في ظل الحكم الشعبوي بمقدار 800 مليون نسمة في عامين، حيث يذكر التقرير أن هناك 1.7 مليار شخص كانوا يعيشون في ظل حكم شعبوي في بداية عام 2023، مقارنة بـ 2.5 مليار في عام 2020.

2- التداعي السريع للتجربة الترامبية مع استمرار تأثيراتها السلبية: من الممكن أن تؤثر التجربة الترامبية على الأحزاب الشعبوية الأوروبية من زاويتين؛ الأولى: رغبة تلك الأحزاب في الاستمرار في السلطة، في حين أن الرئيس الأمريكي لم تمكنه شعبويته من الاستمرار في الحكم سوى لفترة واحدة، ما أشار إلى أن الأداء الشعبوي الترامبي الفج قد يحقق مفاجأة بالوصول إلى السلطة في أكبر دول العالم، لكنه قد لا يضمن الاستمرار فيها، وأن هذا الأداء بحاجة إلى ترشيد وضبط وتهدئة مخاوف الذين يرون في الشعبوية تهديداً للنظام السياسي الغربي المستقر منذ عقود بقيمه ومؤسساته، رغم الملاحظات التي يحملها البعض على هذا النظام والمطالبة بإصلاحه أو ترشيده وزيادة كفاءته. بل إن تأثير التجربة الترامبية امتد إلى ما بعدها حيث ساعد على الحشد ضد الشعبويين وإدراك مدى تهديدهم للمؤسسات والقيم الديمقراطية الغربية، الأمر الذي يمكن ملاحظته على سبيل المثال، من خلال الأداء الضعيف للترامبيين في انتخابات التجديد النصفي الأمريكية مقارنة بالجمهوريين الأكثر اعتدالًا، حيث تم اعتبار أن تأييد ترامب لمرشحين شعبويين مثّل عاملاً سلبياً خصم من حظوظ هؤلاء المرشحين بدلاً من دفعهم للأمام. وفي حين أن التجربة الترامبية كانت مثار إعجاب العديد من الشعبويين حول العالم، فمن الممكن أن تدفع التأثيرات السلبية لتلك التجربة هؤلاء إلى إعادة تقييمها للاستفادة منها وتلافي نتائجها السلبية وعدم تكرارها.

3- أزمات بريطانيا بعد البريكست: لم تنجح بريطانيا في تقديم نموذج ناجح للخروج من الاتحاد الأوروبي، بل على العكس، فإنها تشهد مشكلات اقتصادية متفاقمة، مع تزايد وتيرة الفشل والتغير الحكومي، حيث يدفع الأداء البريطاني في أعقاب "بريكست" عدداً متزايداً من الناخبين في بريطانيا وخارجها إلى النظر لقرار مغادرة الاتحاد الأوروبي باعتباره قراراً خاطئاً. وفيما كان يُخشى أن يجلب الخروج البريطاني من الاتحاد صفقات مماثلة بتأثير "الدومينو" فإن الأداء البريطاني ربما يدفع نحو تبني خيارات أكثر إصلاحية وبراجماتية بالاستمرار في الاتحاد مع محاولة الإصلاح والحصول على أكبر مكاسب سيادية للدول داخله.

4- الرغبة في تخفيف القيود الرقابية والأمنية الحكومية: ربما ترغب بعض القوى الشعبوية في التخفيف من حدة خطابها السياسي من أجل القدرة على الاستمرار في العمل وحصد المكاسب الانتخابية التدريجية، دون صدام مباشر مع السلطات الأمنية. فقد أدرجت الاستخبارات الداخلية الألمانية، في عام 2021، حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف على لائحة "الحالات المشبوهة"، ووضعته تحت مراقبة الشرطة، معتبرة أنه ضاعف انتهاكاته للنظام الديمقراطي.

5- السعي نحو تشكيل ائتلافات حاكمة قادرة على الاستمرار: في حين أن الخطاب الشعبوي قد يضمن لأصحابه تمثيلاً متزايداً في البرلمانات، فإن الوصول إلى السلطة يقتضي تشكيل تحالفات وائتلافات انتخابية، قد تستدعي ضم تيارات غير شعبوية، خاصة أن إحدى الانتقادات الموجهة للشعبويين اليمينيين في أوروبا تدور حول أنهم يستطيعون الحصول على مكاسب نسبية في الانتخابات، لكنهم لا يتمتعون بشعبية كافية للوصول إلى الحكم والاستمرار فيه. ورغم أن وصول الشعبويين إلى الحكم في بعض الدول واستمرار بعضهم يرد جزئياً على تلك الانتقادات بحالات مقابلة، إلا أن هذا لا ينفي أن القدرة على الوصول إلى الحكم والاستمرار فيه ترتبط على الأرجح بالقدرة على تشكيل تحالفات قد تستدعي تذويب بعض الفوارق وإحداث توافقات في الخطاب قد تتضمن التخلي جزئياً عن بعض مضامينه. كما أن التخفيف من حدة الخطاب الشعبوي يمكّن الشعبويين من الحصول على دعم قطاعات محافظة غير شعبوية، حيث ينظر على سبيل المثال إلى التحولات النسبية لخطاب مارين لوبان في فرنسا إلى استعداداتها لخوض الانتخابات الفرنسية عام 2027، ورغبتها في جذب قطاعات اليمين غير الشعبوي إلى صفوفها.

6- الربط بين الشعبوية وبين الفشل في مواجهة الأوبئة: واجهت النظم الشعبوية اتهامات سياسية وانتقادات أكاديمية ربطت بينها وبين الفشل في مواجهة الأوبئة على إثر تجربة فيروس كورونا، باعتبار أن الاستقطاب والمشاعر الشعبوية المناهضة للخبراء تؤدي إلى سياسات غير قادرة على مواجهة الجائحة، مع التشكيك في توصيات الخبراء وعرقلة مبادرات التعاون الدولي، خاصةً أن القوى الشعبوية نظمت عدداً من الاحتجاجات والاعتراضات على الإغلاق والإجراءات التقيدية والاحترازية لمواجهة الفيروس، فضلاً عن التشكيك في نصائح الخبراء العلمية والمؤسسات بشكل عام، وإعلاء صوت المصلحة الوطنية على التضامن الجماعي. فعلى سبيل المثال شهدت إيطاليا وإسبانيا عام 2020 احتجاجات يمينية شعبوية ضد الإغلاق والقيود الحكومية.

كما أشارت دراسة تحليلية لنحو 165 منطقة في 20 دولة أوروبية، إلى أنه بالإضافة إلى العوامل المفسرة المعروفة، مثل العمر والمنظومة الصحية وغيرها، فإن ثمة ارتباطاً بين ارتفاع مستوى الشعبوية والسياسة المناهضة للخبراء وبين ارتفاع معدل الوفيات بفيروس كورونا. كما أن المناطق التي شهدت انقسامات حادة بين الشعبويين المناهضين للخبراء والمتشككين في الاتحاد الأوروبي، وبين السياسات المؤيدة للخبراء وللاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، واجهت مشاكل أكبر في مساعي خلق إجماع حول سياسات وتدابير مواجهة الوباء، مع ملاحظة أن المناطق التي كانت نخبتها السياسية شعبوية مناهضة للخبراء وأقل دعماً للتكامل الأوروبي، شهدت معدل وفيات أعلى بشكل ملحوظ، الأمر الذي خلصت منه الدراسة إلى التأثير السلبي لانتشار الشعبوية بين النخبة السياسية على التعامل مع الأوبئة في أوروبا.

7- إدراك الحاجة إلى تعزيز القدرات السياسية والإدارية: يكتسب الشعبويون معظم أرضيتهم السياسية من أطروحاتهم المعارضة التي تلعب على انتقاد المؤسسات أو حشد العوامل الثقافية، ما يمكنهم من حصد معدل تصويتي متصاعد في الانتخابات. إلا أن مسألة الاستمرار في السلطة تحكمها عوامل أخرى. ذلك أن التجربة السياسية للحكومات الشعبوية في بعض الدول، طرحت شكوكاً في قدرة تلك الحكومات على إدارة الدول بكفاءة، وقدرتها على الاستمرار في حصد أغلبية الأصوات الانتخابية من مقاعد الحكم وليس من مقاعد المعارضة. وحتى الحكومات الشعبوية التي لا تزال مستمرة في الحكم لأكثر من فترة، تلاحقها بعض الانتقادات. وعلى سبيل المثال يُنظر إلى التجارب الأمريكية والبرازيلية والسريلانكية، وكذلك تراجع النموذج السياسي والاقتصادي والهوياتي التركي، على أنها مؤشرات على فشل الحكومات الشعبوية في إدارة الأزمات بشكل خاص، والدول بشكل عام.

8- تجاوز ذروة تدفقات اللاجئين العرب: ارتبط الصعود الشعبوي والجدل حول قضايا الهجرة والجريمة والإرهاب بشكل كبير بتداعيات ثورات "الربيع العربي" على القارة الأوروبية، والاضطرابات السياسية والاجتماعية والحروب الأهلية التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وأدت إلى تدفقات غير مسبوقة من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا. ومع تجاوز ذروة تدفقات اللاجئين العرب، فإن الجدل حول القادمين من المنطقة العربية وما يثيره من حساسيات اقتصادية وثقافية، لم يعد هو الشاغل الأهم للأوروبيين، مع عدم إغفال استمرار القضية كقضية مهمة لكن ليس بمستويات السنوات العشر السابقة.

9- سيطرة الحرب الأوكرانية على المشهد الأوروبي: بعد التجاوز النسبي للحظة ارتدادات ثورات "الربيع العربي" -وما صاحب بعضها من اضطرابات وحروب أهلية- المباشرة على الدول الاوروبية، وكذلك التجاوز النسبي للحظة الانشغال العالمي بجائحة كورونا، فإن الحرب الأوكرانية تمثل الآن الشاغل الأهم، ومن المتوقع أن تشكل جانباً كبيراً من الرؤى الأوروبية ومستقبل القارة وتوجهات قواها السياسية خلال السنوات المقبلة. وتوثر الحرب الأوكرانية على التيارات الشعبوية في أوروبا من أكثر من زاوية؛ أولها: أنها تحد من الأوزان النسبية لمقولات الشعبوية الثقافية عن الآخر غير الأوروبي أو غير "الأبيض"، وربما تساعد على تجاوز المخاوف الشديدة من المهاجرين العرب، باعتبار أن التهديد الأمني الأبرز للقارة جاء من دول مجاورة. كما أن إشكالية الهجرة واللجوء باتت ترتبط حالياً بالجانب الأوكراني وليس العربي. ورغم المخاوف من أن تعزز تلك الحرب من الشعبوية باعتبار أن "الآخر" الأوروبي بات يمثل هو الآخر تهديداً، فإن معظم المؤشرات تشير إلى أفضلية أوضاع اللاجئين الأوكرانيين عن نظرائهم الشرق أوسطيين. كما أيدت بعض الأحزاب الشعبوية المعارضة بشدة للهجرة، مثل التجمع الوطني بفرنسا والبديل من أجل ألمانيا وفوكس الإسباني وقسم من حزب الحرية النمساوي، استقبال لاجئين أوكرانيين فارين من المعارك.

وثانيها: يتعلق بالمسؤولية عن الحرب، فباعتبار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أحد النماذج الشعبوية في العالم، وفي ظل علاقاته القوية ودعمه للأحزاب والقوى الشعبوية في أوروبا، يُنظر إلى التيار الشعبوي وبوتين على أنهم مسئولون ولو جزئياً عن الحرب في أوكرانيا، وهو ما وضع تلك التيارات في حرج، وبعدما كان ينظر إليه من قبل تيارات اليمين المتطرف على أنه شخصية قوية محافظة، تمتلك نموذجاً لحماية المجتمع من القيم العولمية، فضلاً عن خبرة مواجهة الإسلاموية، وتحقيق نهضة روسية، فإن بعض الشخصيات الشعبوية في أوروبا حاولت التنصل من علاقتها به مثلما فعلت مارين لوبان، التي عملت على تبرير صورة جمعتها مع بوتين خلال لقاء سابق  قبل سنوات. واتخذت القيادات الشعبوية في أوروبا بعضاً من التراجع عبر الترويج لأن "بوتين" الحالي ليس هو "بوتين" الذين اعتادوا الإشادة به في السابق.

أما ثالث تلك الزوايا فيرتبط بما تشير إليه بعض التقديرات من أن الوضع الإقليمي المتغير نتيجة للحرب الأوكرانية خصم من جاذبية الشعبوية في أوروبا، الأمر الذي استخدمه البعض في تفسير التراجع النسبي للشعبوية، رغم أن الحرب بتداعياتها السياسية والاقتصادية تمثل فرصاً سياسية للتيارات الشعبوية من جانب آخر. وبالتالي يمكن القول أن تلك الحرب يمكن أن تفسح المجال لشعبوية بخطاب مختلف يستفيد من الفرص ويراعي المتغيرات الإقليمية والتخفيف من الشعبوية الثقافية. وأخيراً، من المرجح أن تلعب الحرب الأوكرانية دوراً في تحديد توجهات الشعبوية المؤسسية تجاه الاتحاد الأوروبي، فمع وجود بعض الانتقادات للاتحاد ولحلف الناتو على هامش أزمة الحزب، وتحميلهم جانباً من المسئولية، فإن قدرة الاتحاد على دعم وحماية أوكرانيا، من شأنها تأكيد التزام بروكسل بقيم التضامن الأوروبي وحماية الدول الأوروبية، فيما يمكن أن تؤدي هزيمة أوكرانيا إلى اتهامات بالتخلي عنها تقوض الثقة أكثر فأكثر في مؤسسة الاتحاد الأوروبي وأطروحات توسيع الوحدة الأوروبية.

10- السياق والمؤثرات السياسية والمحلية والحضارية: تلعب العوامل المحلية دوراً مهماً في تحديد طبيعة الخطابات الشعبوية داخل الدولة. فعلى سبيل المثال، أشارت بعض التحليلات عند مقارنة الحكومة الإيطالية الجديدة بنظيرتها المجرية، إلى النظر بعين الاعتبار إلى الفوارق بين المجر وإيطاليا التي تلعب دوراً في تحديد طبيعة الخطاب الشعبوي في البلدين، بالنظر إلى كون إيطاليا عضواً مؤسساً فى الاتحاد الأوروبى، والقوة الاقتصادية الثالثة فى القارة، مع عدم إغفال دور المؤثرات الحضارية والنهضوية التاريخية التي تمتلكها روما. كما سبقت الإشارة إلى ارتباط جاذبية الخطابات الشعبوية بطبيعة القضايا والمشكلات التي تعاني منها الدولة والتي تركز عليها تلك الخطابات، سواء كانت القضايا الثقافية أو الأمنية أو المؤسسية أو الاقتصادية.

11- إضرار التصرفات الشعبوية بالأمن والمصالح الوطنية: لا ينبغي تجاهل ما يمكن أن تجلبه التصرفات الشعبوية والعنصرية المتطرفة من أزمات للدول، وتأثير ذلك على القوى الشعبوية إذا كانت في موقع السلطة والمسئولية. وعلى سبيل المثال، ورغم أن مساومات أنقرة لستوكهولم حول الموافقة على انضمام الأخيرة إلى حلف الناتو ترتبط بحسابات سياسية متعلقة بمطالبة تركيا تسليم السويد مطلوبين لديها تصفهم أنقرة بأنهم "إرهابيون أكراد" يصل عددهم إلى نحو  130 شخص، فإن التصرفات الشعبوية والعنصرية المتطرفة التي أقدم عليها الناشط المعادي للاسلام والهجرة، راسموس بالودان، عبر حرقه نسخة من القرآن الكريم في تظاهرة أمام السفارة التركية في ستوكهولم، أثارت غضب تركيا، وأعطتها فرصة للتصعيد واستدعاء السفير السويدي لديها وتجميد المباحثات حول انضمام السويد لحلف الناتو إلى أجل غير مسمى.

كما رفضت الشرطة السويدية، في فبراير 2023، السماح باحتجاج جديد يتضمن إحراق القرآن الكريم، وقالت السلطات السويدية بعد التشاور مع جهاز الاستخبارات السويدي إن المظاهرة التي تم منعها كان يمكن أن تتسبب في اضطرابات خطيرة للأمن القومي. ويمكن القول أن وجود الأحزاب الشعبوية في الحكم أو في الائتلافات الحاكمة قد يجعلها تضع مثل هذه الأمور والاعتبارات الأمنية والمصالح الوطنية في الحسبان بدرجة أكبر، باعتبارها في موقع المسئولية.

12- مدى قدرة القيود والعقوبات الأوروبية على إحداث تغيير: يعمل الاتحاد الأوروبي على ربط الشعبوية بتكلفة سياسية واقتصادية، في محاولة لخفض حدة هذا الخطاب، وإجباره على الالتزام بالمعايير والقيم الأوروبية، حيث ربط على سبيل المثال تمويلاته وخاصة المرتبطة المرتبطة بالتعافي من جائحة كورونا بالالتزام بالمعايير التي يضعها الاتحاد. وفي حين أن الحكومات الشعبوية يمكنها رفض الاستجابة لمطالب بروكسل، إلا أن الاتحاد يراهن على تحميل الحكومات تكلفة ذلك بحرمانها من الأموال التي يدرك الناخبون أنها ستساعد في مواجهة الأزمات، ما يعمل عبره الاتحاد على وضع تلك الأحزاب تحت ضغوط انتخابية تجبرها على الاستجابة للمعايير.

ويستخدم الاتحاد الأوروبي تمويله بشكل خاص لكبح جماح الشعبوية المجرية والبولندية، إذ يمنع عنهما تمويلاً يقدر بنحو 138 مليار يورو، على خلفية اتهامه لهما بانتهاك ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، حيث تعمل بروكسل على الضغط على الحكومتين الشعبويتين عبر تلك الورقة في ظل معاناتهما من أزمات تكلفة المعيشة، وتفاقم التضخم لإجبارهما على الالتزام بمعايير الميثاق. ويُنظر إلى تلك الإجراءات على أنها قد تنجح نسبياً في إحداث بعض التغييرات ودفعهما نحو الالتزام بدرجة أكبر بالمعايير الأوروبية، حيث مررت الحكومة المجرية أكثر من 12 بنداً تشريعياً مناهضاً للفساد، كما تعهدت بتلبية متطلبات الاتحاد الأوروبي بشأن استقلال القضاء بحلول نهاية مارس القادم. وبعدما أعلنت نحو ثلث البلديات البولندية أنها "خالية من فكر المثليين"، ألغت معظم تلك البلديات قراراتها خشية تعليق المساعدات الأوروبية. بل وربطت إيرلندا، في ديسمبر الماضي، الموافقة على المنح الأوروبية للمجر المقدرة بـ 8 مليارات دولار، بموقف أوربان بشأن القرض الأوروبي بقيمة 18 ملياراً لدعم أوكرانيا.

استمرار الشعبوية مع محاولات تقييدها

ختامًا، تحمل البيئة الأوروبية محفزات استمرار الشعبوية، ومنها الأزمات التي تواجه بعض الحكومات الأوروبية، والاستياء الشعبي المتصاعد تجاهها، خاصةً فيما يتعلق بقدرة الحكومات على مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والوفاء باحتياجات المواطنين في قطاعات حيوية كالرعاية الصحية. فضلاً عن احتمالية تزايد حضور شعبويات جديدة مثل الشعبوية البيئية. كما أن وجود الأحزاب الشعبوية في مقعد المعارضة يمكّنها من استثمار الأزمات لزيادة حصصها التصويتية تدريجياً باعتبار أن الأزمات والإخفاقات الحكومية تخلق فرصاً لأحزاب المعارضة، باختلاف أيديولوجيتها السياسية، وأن زيادة المخاوف لدى الجماهير تعزز من احتمالات لجوءهم إلى خيارات شعبوية. فضلاً عن عدم إغفال أن الأطروحات الشعبوية وجدت بعض الصدى لدى القوى التقليدية، حيث أصبح على سبيل المثال الحديث عن قيود الهجرة وخفض مساعدات التنمية للدول الفقيرة التي تفشل في مساعدة أوروبا في إعاقة تدفقات الهجرة على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي بشكل مقبول رغم المعارضة السابقة لمثل تلك الأطروحات.

وفي حين أن ذلك يعني أن الشعبوية من المرجح استمرارها كتيار سياسي صاعد في أوروبا، فإنه يعني أيضاً أن التعويل الأهم ربما يكون على محاولة خلق طبعات أكثر براجماتية وعقلانية من التيارات الشعبوية الحالية، فضلاً عن تعزيز قدرة التيارات السياسية الأخرى على معالجة الأزمات والمشكلات الأوروبية التي توفر مناخاً مواتياً للخطابات الشعبوية. كما أن اقتراب تلك التيارات من القضايا التي تركّز عليها الأحزاب الشعبوية ومعالجتها بشكل أكثر حكمة كقضية الهجرة، ربما يسحب بعضاً من جاذبية الأطروحات الشعبوية. كذلك يرتبط التنافس بين الشعبوية وغيرها بالقدرة على إدارة التحالفات الانتخابية بشكل أفضل، في ضوء تصاعد الاقتناع بين القوى السياسية الأوروبية بأهمية التعاون لمواجهة الشعبوية وإيجاد المزيد من مساحات التوافق.