نشر موقع "فورين بوليسي" الاميركي، تقريراً بعنوان: "الاحتياجات العسكرية الأمريكية لفصل سلاسل الإمداد المعدنية الحرجة عن الصين”، أوضح أنه في عام 1944، ومع توقف التقدم السريع لقوات الحلفاء في أوروبا فجأةً، بسبب نقص الوقود، صرَّح حينها الجنرال العسكري بالجيش الأمريكي آنذاك جورج باتون، قائلاً: “يمكن لرجالي أن يأكلوا أحزمتهم، لكن يجب أن تحتوي خزاناتي على الغاز”، معتبراً ذلك الاقتباس شهادةً على الدور الحاسم لسلاسل التوريد والخدمات اللوجستية في العمليات العسكرية. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة اليوم، تشتمل هذه المواد على موارد أكثر من الوقود للخزانات؛ حيث تعتبر مجموعة ما تسمى المعادن الحرجة critical minerals، ضرورية لبناء أنظمة الأسلحة الحديثة وصيانتها. وللمفارقة فإن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، تعتمد بدرجة كبيرة على الصين في سلاسل توريد تلك المعادن؛ ما يجعل من التفكير في الخروج من هذه المعضلة هدفاً استراتيجياً تعمل تلك الدول على بلوغه بأقل خسائر ممكنة.
مخاطر الاعتمادية
بحسب التقرير، يمكن استعراض أبرز المخاطر المتعلقة بالاعتمادية الأمريكية بوجه خاص، والغربية بوجه عام، على الصين في توريد المعادن الحرجة ذات الاستخدامات الاستراتيجية العسكرية واللوجستية، في عدد من النقاط؛ وذلك على النحو التالي:
1. الانكشاف الاستراتيجي أمام دولة معادية: تعتمد الولايات المتحدة والقوى العالمية الكبرى الأخرى في عالم اليوم، على نحو مثير للانزعاج، على دول أخرى – الصين في الأساس – للحصول على المعادن الحرجة؛ لذلك أدى الحشد السريع الذي قدمته الصين لجيش متطور، إلى جعلها المنافس الاستراتيجي الأكثر أهميةً للولايات المتحدة، كما أنها حددت ما يسمى تهديد الخطى pacing threat للاستراتيجية الدفاعية الأمريكية.
من ناحية أخرى، أظهرت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، المخاطر الكامنة في الاعتماد الشديد على دولة أخرى، وخاصةً دولة معادية، في الحصول على المعادن الحرجة؛ حيث أدت الحرب إلى أخطر أزمة طاقة منذ السبعينيات، وأجبرت أوروبا – التي أصبحت راضية بشكل خطير عن الاعتماد على النفط والغاز الروسيين – على إنفاق مليارات اليوروهات في البحث عن موردين بديلين، وعزل المستهلكين عن أسعار الطاقة الفلكية.
2. ارتباط المعادن الحرجة بتقنيات الطاقة النظيفة: إذا كان هناك حديث عن المعادن الحرجة من قبل، فلربما كان ذلك في سياق تغير المناخ وتحول الطاقة؛ حيث يعتبر الليثيوم والكوبالت والنيكل والجرافيت والعديد من المعادن الأخرى، ضرورية لبناء بطاريات السيارات الكهربائية، وتوربينات الرياح والألواح الشمسية، وتقنيات الطاقة النظيفة الأخرى. ولقد أدت الحرب الروسية الأوكرانية، إلى تسريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة، وسلطت الضوء على مدى توافر هذه المعادن. ولكن بعيداً عن تداعيات الأمن القومي لأمن الطاقة، فإن الإمداد الثابت والآمن للمعادن الحرجة يُعَد أمراً ضرورياً، إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على دورها بصفتها قوة عسكرية عظمى.
3. احتياج التفوق التكنولوجي العسكري إلى المعادن الحرجة: لا يحظى ذلك الجانب المتعلق بالأمن القومي للمعادن الحرجة، بالاهتمام العام الذي يحظى به انتقال الطاقة. ويرجع ذلك جزئياً إلى السرية الضرورية التي تحيط بالتخطيط والتأهب العسكري، لكن تبقى الحقيقة واضحة؛ لا تنتج الولايات المتحدة وحلفاؤها ما يكفي من هذه المعادن للحفاظ على التفوق التكنولوجي لجيشها في العقود القادمة.
ومع ذلك كانت وزارة الدفاع الأمريكية أيضاً رائدة منذ فترة طويلة في علوم المواد والأسلحة المتقدمة، وهي حقول تتطلب معادن وفيرة؛ حيث يمكن أن تقفز الطلبات فجأةً وبشكل كبير. خذ على سبيل المثال، الشحنات الضخمة من الأسلحة التي تذهب إلى أوكرانيا، أو الأسلحة التي يجب تخزينها لمواجهة الأوضاع المحتملة في بحر الصين الجنوبي.
4. استنفاد المخزونات الأمريكية من الذخائر والأسلحة: يمثل الحفاظ على المخزونات الحالية للجيش الأمريكي تحدياً واحداً فقط؛ فعلى الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة ليست منخرطة في صراع مباشر، فإن الحرب في أوكرانيا قد أدت إلى استنفاد مخزونات الولايات المتحدة من بعض أنواع الذخيرة، إلى مستويات منخفضة بدرجة مقلقة؛ لذلك يُجري الجيش الأمريكي الآن أبحاثاً حول كيفية دعم قاعدته الصناعية للذخيرة الحالية، كما طلب من الكونجرس 500 مليون دولار سنوياً لتحديث مصانع الذخيرة.
5. محورية المعادن الحرجة في تطوير الأسلحة: يتطلب تطوير أسلحة متطورة، الحصول على معادن مهمة جديدة وسلاسل التوريد التي توفرها؛ حيث تعتبر أشباه الموصلات المتقدمة على سبيل المثال، مكونات أساسية لأنظمة توجيه الصواريخ والحرب الإلكترونية وقدرات الاستخبارات الفنية. وتتطلب أشباه الموصلات تلك، مواد مثل الجاليوم والزرنيخ والنيون، وهي المواد التي يوجد الكثير منها، ويُنتَج في روسيا والصين وأوكرانيا. وقد أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى خفض إمدادات العالم من النيون إلى نحو 50%.
6. أهمية المعادن الحرجة في تكنولوجيا الأقمار الصناعية: تحتفظ هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بقائمة من تلك المعادن وغيرها من المعادن المهمة للأمن القومي الأمريكي، والاقتصاد، والبنية التحتية، واحتياجات الطاقة؛ حيث تضمنت القائمة في عام 2018، 35 معدناً. وبحلول عام 2020، زادت إلى 50 معدناً، مع تركيز العديد منها على التطبيقات العسكرية. وتشمل بعض هذه المعادن التيتانيوم لمكونات الفضاء، والسبائك الفائقة العالية الحرارة للتوربينات والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، ومركبات المصفوفة الخزفية، وأنظمة الحماية الحرارية فوق الصوتية.
تُستخدم بعض المعادن الحرجة في أنظمة السونار والرادار والمراقبة التي تشكل خط الدفاع الأول للجيش الأمريكي؛ حيث يستخدم النيوديميوم، والسماريوم، للمغناطيسات القوية التي يمكنها تحمل درجات الحرارة العالية، كما يستخدم الجرمانيوم لأجهزة الأشعة تحت الحمراء، وفي الألواح الشمسية على الأقمار الصناعية العسكرية.
7. سيطرة الصين على إنتاج وتكرير المعادن الحرجة: على الرغم من أن بعض المعادن يمكن الحصول عليها من قبل الحلفاء، فإن المنتجات الوسيطة الأخرى يتم الحصول عليها بشكل أساسي من الصين. علاوةً على ذلك، فإنه بعد التعدين، يجب تكرير هذه المعادن ومعالجتها، مثل بطاريات الليثيوم أيون التي تشغل المركبات الكهربائية في الضواحي، والتي لها أيضاً تطبيقات عسكرية، بما في ذلك المركبات التكتيكية التي تعمل بالطاقة الكهربائية، والأنظمة المستقلة. وفي عام 2019، على الرغم من أن الصين استخرجت أقل من 20% من إجمالي إمدادات الليثيوم في العالم، فإنها كانت تسيطر على أكثر من 60% من طاقتها الإنتاجية والتكريرية.
كما أن الجرافيت معدن رئيسي آخر، يستخدم في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية. ولقد استوردت الولايات المتحدة 100% من الجرافيت في عام 2022، وكان ثلثه تقريباً مصدره الصين. حالياً، تتحكم الصين بنسبة 100% في تكرير وإنتاج الجرافيت الكروي اللازم للأقطاب الموجبة في إنتاج البطاريات.
8. ضرورة توفير مخزون من المعادن الحرجة باعتبارها ضمانةً أمنيةً: تسرد وكالة الدفاع اللوجستي الأمريكية (DLA)، أكثر من 50 معدناً من تلك المعادن على موقعها على الإنترنت، وكلها ذات استخدامات عسكرية رئيسية. وفي كل عام، تُجري الوكالة مبيعات استراتيجية بالإضافة إلى عمليات استحواذ، بناءً على الاحتياجات المستقبلية. وفي آخر إحصاء، كان لدى DLA مخزون طوارئ من 47 سلعة، بقيمة سوقية تزيد عن 1.5 مليار دولار. وتم توفير هذا المخزون في البداية بعد الحرب العالمية الأولى، عندما سعى كبار العلماء الأمريكيين إلى تثقيف الصناعيين والسياسيين حول ضرورة وجود خطة وطنية للمعادن، على أمل ألا تعود واشنطن إلى تفكيرها الانعزالي القديم.
وعليه، سمح الكونجرس في الخريف الماضي، بتوفير مليار دولار لمخزون الدفاع الوطني، للحصول على مواد استراتيجية، وهي خطوة مهمة نحو إنشاء مخزون احتياطي إضافي في حالة حدوث أزمات واضطرابات في سلاسل التوريد. ومع ذلك، فإن الاعتمادات المخصصة لعام 2023، تضمنت 93.5 مليون دولار فقط للمخزون، ونحو 373 مليون دولار للمشتريات المتعلقة بالمعادن، بموجب قانون الإنتاج الدفاعي.
وختاماً، فإنه على مدى السنوات القليلة الماضية، ضغط البنتاجون لتعزيز الإنتاج المحلي من المعادن الحرجة، وتمت متابعة إطار عمل تلك الخطة، بموجب قانون الإنتاج الدفاعي لعام 2019. لكن البنتاجون لا يمكنه العمل بمفرده. ومن ثم، فمن أجل التغلب على العقبات التنظيمية والقانونية التي أعاقت قطاعات التعدين والإنتاج وسلاسل التوريد الأمريكية لعقود من الزمان، يتعين على المسؤولين المنتخبين والمنظمين والمجموعات البيئية، تنحية اختلافاتهم جانباً والعمل معاً. ويمكن تبرير الدافع وراء هذا التعاون الحاسم بمخاوف تغير المناخ وحدها. ولكن مع استمرار تزايد التحديات الأمنية والجيوسياسية للقرن الحادي والعشرين، فإن من الواضح تماماً أن مستقبل الجيش الأمريكي يعتمد أيضاً على سلسلة توريد محلية أكثر قوةً للمعادن الحرجة.