"اليمن قديماً وحديثاً محل الأطماع الخارجية"، هذا ليس عنواناً لجذب الأنظار وشد الانتباه ولكنها حقيقة واضحة العيان، فكل قارئ للتاريخ ومتابع للأحداث سيدرك هذا تماماً.
لن نخوص في تفاصيل الماضي فالتاريخ موثق لمن أراد أن يلّم بالأطماع الأجنبية في اليمن وكيف تم مواجهتها.
ولكن دعونا نركز على أطماع اليوم التي لم تستطع دول الاستكبار إخفاءها وباتت تتحرك وفقا لأجندة تخدم هذه المطامع، أدناها نهب الثروات النفطية والتحكم في الموقع الاستراتيجي، وأقصاها السيطرة والتحكم في مصير الشعوب وقهرها وحرمانها حتى من مجرد التفكير الواعي في حقه الطبيعي في نيل الاستقلال الكامل، فنجدهم يتحركون تحت عدة عناوين زائفة ناعمة حتى يشرعنوا تواجدهم في الدول المستهدفة، ففي يمن العروبة والإيمان مثلاً تحركوا تحت عنوان قد يكون مسلياً نوعاً ما، وهو "إعادة اليمن إلى الحضن العربي"!! وإعادة ما يسمى الشرعية في اليمن وكأنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على الشعب اليمني لتقرير مصيره.
ظلت مملكة آل سعود تعتبر نفسها الوصي على اليمن وهي وحدها من له الحق في تقرير مصيره، ونتيجة لتدخلات المملكة منذ اندلاع أحداث 26 سبتمبر والسعودية هي المتحكمة في اليمن, وفي فترة حكم الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في نهاية سبعينات القرن الماضي شعرت السعودية بأن اليمن بدأت تنسلخ من تحت وصايتها وسيطرتها وبدأت تتوجه نحو بناء بلد قوي مستقل اقتصادياً وسياسياً, فحاكت المؤامرات بمساعدة من عملاء الداخل الذين لن يرحمهم التاريخ وهم يمكنّون هذه المملكة من التحكم بكل شئون اليمن، وتسليم مصيرها لدول خليجية مرتهنة للأمريكي والصهيوني وبالتالي تمكين الصهاينة بطريقة غير مباشرة من احتلال اليمن والتحكم بمواقعها الاستراتيجية, لأن السعودية والكيان الصهيوني وجهان لعملة واحدة ونشأتا في نفس الفترة الزمنية وبنفس الأيادي البريطانية.
ظل الوضع كما خططت السعودية -ومن خلفها كيان العدو- أكثر من 3 عقود من الزمن واليمن محتلة مسلوبة القرار والسيادة، فانتهكت سيادتها وبيعت موانئها ودخل الأمريكان بذرائع واهية كمكافحة ما يسمونه بالإرهاب ومحاربة القاعدة وغيرها من الذرائع المكشوفة التي لم تعد تنطلي على من يملك ولو قليلاً من الوعي.
وتراجع الاقتصاد اليمني بشكل مطرد ولم تشهد اليمن أي تنمية مثل ما لاحظناه في دول نشأت بعد اليمن بسنوات طويلة، وازداد الوضع سوءاً واذلالاً بعد السماح للطائرات الأمريكية بانتهاك الأجواء اليمنية وهي تستهدف اليمنيين بمباركة من الحكومة اليمنية!!!
وفي الوقت الذي برزت فيه جرائم أمريكا في العراق للعلن أكثر وأكثر أمام صمت عربي، وإعلام عربي يبرر كل ما يفعله الأمريكيون ويقدمون لهم الخدمة بشكل مباشر في تدجين الشعوب العربية واستهداف عقولهم وهويتهم وتهيئتهم لاستقبال كل ذرائع أمريكا الواهية في استهدافها وتدخلاتها في الشعوب العربية والإسلامية.
وفي ظل تلك الأوضاع المتردية في العراق وفلسطين واليمن، ظهر صوت مؤسس حركة أنصار الله السيد حسين بن بدر الدين الحوثي وهو يصرخ رافضاً هذا الواقع المرير ويحذر من خطر أمريكا ومشاريعها، ويعيد الأمة للارتباط بكتابها وتاريخها وأعلامها، ويحللّ جذور مشاكل الأمة وما هي المعالجات والحلول الممكنة ضمن الإمكانات المتاحة للفرد في ظل التفاوت في القدرات، وقدم رؤية فكرية واضحة عميقة وواقعية.
فكانت تلك شرارة انطلاق ثورة فكرية سياسية شاملة، ورغم كل ما عانت تلك الثورة وذاك المشروع القرآني من قمع عسكري وإرهاب فكري، إلا أنها وفي سنوات معدودة استطاعت أن تعيد لليمنيين قرارهم، وانتفضت على الوصاية السعودية الأمريكية الصهيونية الى الأبد بإذن الله.
قدم اليمنيون تضحيات كبيرة وعظيمة وهم يواجهون هيمنة دول الاستكبار التي اعتادت أن تحكم اليمن فترة من الزمن واعتادت أن يكون سفيرها هو الآمر والناهي والموجه في تسيير كل شئون اليمنيين، فانزعجت كثيراً وزاد قلقها بعد خروج الأمريكيين صاغرين من صنعاء بعد ثورة 21 من سبتمبر التي ما هي إلا ثمرة من ثمار المشروع القرآني الذي أسسه الشهيد القائد الحسين بن بدر الدين الحوثي كما ذكرنا سالفاً.
اليمن اليوم -وبعد ثمان سنوات من العدوان عليه بهدف تركيعه وإعادته لـ "بيت الطاعة"- أصبح أكثر قوة وصلابة وإرادة وعزيمة، وازداد وعي أبنائه بحقيقة عدوهم ومستوى حقده لما شاهدوه من جرائم بغارات التحالف الأمريكي السعودي وعلى مرأى ومسمع من العالم، وكذلك الحصار الاقتصادي وقطع رواتب الموظفين كعقاب جماعي لليمنيين، وسرقة ونهب الثروات النفطية اليمنية وتقاسم المصالح الأمريكية البريطانية الفرنسية الصهيونية عبر الأيادي السعودية والإماراتية, واستمرار وصول القوات الأجنبية للجنوب اليمني والسيطرة على أهم موانئ اليمن وهي موانئ عدن قشن في المهرة وميناء الضبة في شبوة وغيرها من الموانئ التي تم تعطيلها عمداً واحتلالها وتحويلها لثكنات عسكرية ومراكز اعتقال وتعذيب لأحرار اليمني، واحتلال الجزر اليمنية وبناء القواعد الإسرائيلية الأمريكية على الجزر والأراضي اليمنية، وكذلك تنصيب المرتزقة اليمنيين في ما يسمى حكومة الشرعية السعودية، مستغلين انشغال اليمنيين بجبهات كثيرة في كل جغرافيا اليمن.
ضرب اليمانيون أروع صور الاستبسال والصمود تحت قيادة قائد الثورة الذي أتاه الله الحكمة والعلم فكان سبباً رئيسياً في كسر السعودي والاماراتي وجعلهم يغيّرون لهجة الاستعلاء والتكبر في الخطاب التي بدأوها في بداية عدوانهم على اليمن في مارس 2015, وشعروا بأن مصالحهم فعلا بدأت تمس وتتضرر فلجأوا الى تقديم مقترح الهدنة حتى يعيدوا ترتيب صفوفهم ويفكروا في طرق جديدة لإخضاع هذا الشعب بعد أن استنفذوا كل أوراقهم الاقتصادية والإعلامية والنفسية وورقة عملاء الداخل وتحريك الفتن المذهبية الداخلية والضرب على أوتار العنصرية وحملات تشويه القيادات ... الخ من أساليبهم الكثيرة التي ترمي لتغيير وعي الشعب واستهداف العقول والنفوس بشكل مباشر.
تم الاتفاق على الهدنة في ابريل 2022 بعد ثمان سنوات من عدوانهم الغاشم الذي ارتكبت فيه أبشع الجرائم بحق الإنسانية جمعاء وذلك مع اشتداد الأزمة الأوكرانية، وإلى أبريل 2023 أي ما يقارب عام كامل لم تنفذ فيه شروط الهدنة إلا اليسير لذّر الرماد في العيون، وبدأت مشاورات بشأن ملف الأسرى -الملف الإنساني البحت- والذي ينبغي أن يتم حله في الدرجة الأولى لأن هذا الملف يحمل في طياته آلام ومعاناة سنين طويلة من الأسر والمعاناة, منذ بداية الهدنة في أبريل 2022 والآمال تتطلع وترتقب وتنتظر وتتعلق أرواح أهالي الأسرى بعد كل خبر يتناول موضوع ملف الأسرى,
وبالمثل ملف الرواتب باعتباره ملفاً انسانياً كلما تم تناوله في وسائل الاعلام وتناقلوا أخبار الاقتراب من الوصل إلى حل بموجبه يتم صرف رواتب الموظفين، يتفاجأ اليمنيون بعصا سعودية عداونية في عجلة الاتفاق.
وكلما قربت ساعة الإعلان عن الوصول للاتفاق بين السعودية واليمن بوساطات عمانية كبيرة يشكرون عليها كلما زاد حجم الضغوطات الأمريكية الصهيونية على النظام السعودي الذي يسعى بكل جهده لإقرار الهدنة ولكنه من باب الطاعة لسيّده الأمريكي يضمر في نفسه شراً ويعقد النية على المماطلة مراهناً على الجبهة الداخلية وإثارة السخط وزعزعة الاستقرار الداخلي.
الأمريكي وكذلك الصهيوني والبريطاني كل منهم يسعى جاهداً لإفشال أي مساعي سلام إقليمية في منطقة غرب أسيا بالتحديد، وهذا قد يدل عليه عدم الرضا الغربي الصهيوني تجاه الاتفاق السعودي الإيراني مؤخراً وهذا هو ديدنهم، ففي ما يخص الاتفاق بين الرياض وصنعاء تحرك ثلاثي الشر (الأمريكي البريطاني الصهيوني) بكل قدراته ونفوذه لإفشال مساعي الاتفاق النهائي, فالحقيقة أن الاتفاق بين صنعاء والرياض او بين السعودية وايران يعني إفقاد الأمريكي والصهيوني ذريعة الفتنة في المنطقة, فاليمن شاءوا أم أبوا أضاف قوة مهمة إلى محور المقاومة وبات من أقوى دول الممانعة والرافضة لمشاريع دول الاستكبار, اليمن رغم أنهم استهانوا به وبقدراته بعد أن أنهكوه عبر سنوات من الصراعات والحروب وفتن، وبعد أن ولّوا عليه قيادات عميلة تعمل على إخضاعه لهم وتسليمهم إياه, إلا أنهم اصطدمواً فعلاً بقوة صموده وقدرة قيادته على لملمة الصفوف ورفع معنويات الشعب وحشد قدراته ودفعه نحو المزيد من الصبر والعطاء والكثير من الابداعات والابتكارات في كل المجالات, ففي غضون سنوات قليلة ومن رحم المعاناة تطورت قوة التصنيع العسكري بصورة مذهلة حتى وصلت صواريخ الصمود اليمني الزلزال والقاهر والبركان إلى عمق الأراضي السعودية ووصلت الى منشآت عملاق الاقتصاد السعودي (أرامكو) لتحمل لهم رسالة كأنها قرصة أذن مفادها أن باستطاعتنا المرة القادمة أن نصل إلى أعمق من هذا فلا تستخفون بنا, وفعلاً وصلت الرسالة على أكمل وجه وتغيرت اللهجة اليوم وانتهت لهجة الاستعلاء ودخل اليمنيون مرحلة جديدة رغم أن العدوان مستمر ولكن هذه المرحلة مثلما سماها السيد القائد (خفض التصعيد) فقط وليست انتهاء الحرب على اليمن.
القادم يحمل الكثير من المفاجآت غير المتوقعة ولكن ما يلوح في الأفق هو بشارات خير نقرأها من واقع المشهد اليوم, هي أن الله غالب على أمره مثلما هو شعار 8 أعوام من الصمود, ولكن أكثر الناس لا يعلمون, كلنا ثقة بالله بأن النصر أولاً وأخيراً هو من حق الشعوب المظلومة والمقهورة إن هي استجابت وتحركت ورفضت الذل كسنة إلهية لكل من تعرض للبغي، فما بالكم بشعب مؤمن عظيم يملك موروثاً تاريخياً إسلامياً زاهراً ويملك قائداً حيدرياً شجاعاً على نهج النبي وآله رافعاً شعار "هذا في اليمن غير وارد" أي لا خضوع ولا ذل ولا استسلام، وأن ديننا وهويتنا واسلامنا تأبى لنا الخضوع والاستسلام لليهودي وأننا لو نبعثر ذرات في الهواء أهون لنا من الاستسلام بذل وهذه هي طريق ورثة بيت النبوة وهذا هو منهجهم على اختلاف العصور ويقينهم جميعاً أن العاقبة للمتقين .