أزمة ما تعرف بالإصلاحات القضائية المُبادر إليها من قِبل الائتلاف الحاكم لإضعاف سلطة القضاء وتسييسه وإخضاعه للحكومة وصلت ذروتها، لا سيما بعد إقالة وزير الأمن غالنت، حيث كانت ردة فعل الشارع الصهيوني قوية وغير متوقعة، وحبس الإسرائيليون أنفاسهم وهم يراقبون التصاعد التفجيري للاضطرابات الذي كان يهدد بما يشبه تمردًا ورفضًا مجتمعيًا كبيرًا، خاصة عندما اتفقت النقابات وأرباب العمل لأول مرة على تنظيم إضراب شامل لكل المرافق.
استمرار الصدام والانفلات أو إسقاط الحكومة كان مسألة وقت وقاب قوسين أو أدنى، بعد أن أدركت حتى معاقل اليمين أن نتنياهو فقد السيطرة على حكومته، وأنه بات رهينة الأجندات الفاشية الدينية التي تهدف لتعطيل القضاء وإضعافه كمقدمة، كما أن انضمام قيادات المجتمع المدني والنقابي والاقتصادي والأمنيين السابقين، فضلًا عن قيادات ليكودية سابقة، وإقالة غالنت المعروف كصقر ليكودي يميني؛ أكسبت الاحتجاجات شعبية وشرعية كبيرتيْن، ولم يعد بإمكان أحد التشكيك بنوايا المحتجين أو الاقتناع بأن لها أهدافًا سياسية حزبية تتمركز حول هدف إسقاط نتنياهو.
كما لم يعد بإمكان نتنياهو الدفاع بشكل قوي عن خطته أو حتى تبريرها، ولم يعد بإمكانه اتهام الجمهور الكبير على مختلف أطيافه بالتآمر على الحكومة.
نتنياهو - الذي حتى قبل يوميْن من اشتعال الاحتجاجات بشكل قوي، أعلن علانية أنه يقف خلف خطة الإصلاحات، وأن خطته ستستمر حتى النهاية، متهمًا المحتجين ومتهمًا البيت الأبيض أيضًا بالتآمر على إسقاط الحكومة - اضطر تحت وطأة الاشتعال الاحتجاجي الكبير إلى التراجع والإعلان عن تأجيل التشريعات حتى دورة الكنيست الصيفية المقبلة، والتي تبدأ في الثلاثين من ابريل الجاري، على أن تبدأ اجتماعات الفرقاء للتوصل إلى تسوية. وبذلك، فإن نتنياهو نزع فتيل التفجير في اللحظة الأخيرة مضطرًا، لكنه لم يفكك القنبلة التي ستعود عقارب ساعتها التفجيرية للتكتكة في مايو المقبل، إن لم يستطع الفرقاء التوصل إلى تسوية برعاية هرتسوغ.
الاحتجاجات وحدت فسيفساء المعارضة بشكل قوي، وأظهرت حالة من التناغم والانسجام، وذلك بسبب السياسات والخطاب الاستفزازي للحكومة، بينما الائتلاف - الذي كان يوصف بالمتماسك والبلوك المنسجم - شهد حالة من التصدعات الداخلية، وجاء خطاب نتنياهو بتأجيل التشريع والدعوة إلى الحوار لكسر الموجة الشعبية الاحتجاجية الكبيرة وتفكيكها وخلق الشقاق داخل المعارضة، وقد قصد في خطابه ذكر غانتس ومبادرته الإيجابية متغزلًا به، لدق إسفين بينه وبين لبيد وبقية المعارضة. كلٌّ من غانتس ولبيد صرحا بالترحيب بقبول الدعوة للحوار، لكن لبيد شدد على أنهم سيظلون حذرين من مناورات نتنياهو ومحاولات الالتفاف والتراجع بناءً على تجربتهم معه، وأكد على أنهم لن يقبلوا بأقل من اتفاق حقيقي يؤكد استقلالية القضاء، وطالب بإدراج الاتفاق على دستور كأحد أهداف جولة الحوار. غانتس من جهته كان أقل حذرًا وأكثر حماسًا للحوار، مع تشديده على حماية استقلالية القضاء.
لأول مرة، يجد نتنياهو نفسه محشورًا في الزاوية مكبل اليدين، في مواجهة مجتمع إسرائيلي غاضب، وفي مواجهة موقف أمريكي علني على لسان بايدن، الذي رفض تحديد موعد قريب لزيارة نتنياهو إلى البيت الأبيض، مُشترطًا أن يسبق ذلك اتفاق حقيقي في الملف القضائي، والملفت والمقلق بالنسبة لنتنياهو أن بايدن (الديموقراطي الضعيف الصديق الصهيوني لإسرائيل) تجرأ علنًا على انتقاد نتنياهو، واستخدم لهجة حازمة دون أن يخشى انتقادات اللوبي الصهيوني، سواء داخل حزبه أو داخل الحزب الجمهوري، وهو ما يعني أن ثمة إجماع أمريكي على التحفظ على الأقل من إصلاحات نتنياهو القضائية، وقلقهم من أنه لم يعد يسيطر على حكومته مثلما وعدهم عندما أعربوا عن قلقهم من تحالفه من سموتريتش وبن غفير. وما زاد من القلق الأمريكي الإعلان عن موافقة نتنياهو على تشكيل فرق الحرس الوطني التابعة لبن غفير، وهو ما تم وصفه بالشرطة الخاصة لبن غفير، وهناك من وصفها بمليشيات بن غفير.
نتنياهو يدرك أنه الآن في مرحلة الحضيض السياسي، لا سيما بعد إعلان استطلاعات الرأي التي يتفوق فيها غانتس عليه بشكل واضح، والتي تؤكد أن نتنياهو فقد سحره على الإسرائيليين، في ذروة معركته المصيرية.
والسؤال الأهم الآن: هل سينجح حكماء بني صهيون في رأب الصدع والتوصل إلى تسوية ما أم أن محاولات التسوية ستبوء بالفشل وستصل إلى طريق مسدود، وسنشهد عودة قوية للاحتجاجات؟