• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
دراسات

التخفيض من أجل الاستقرار: محاولات جديدة لضبط بوصلة سوق النفط العالمية


مقدمة:

في مطلع إبريل من العام الجاري 2023، ولمقاومة عدة متغيرات تبعده عن الاستقرار، قررت ثماني دول نفطية ضمن تجمع أوبك بلس تخفيضًا طوعيًا للإنتاج بمقدار 1.6 مليون برميل يوميًا لدعم مقومات الاستقرار في سوق النفط العالمية. ولم تكن هذه الترتيبات بالأمر الجديد أو المستحدث في سوق النفط العالمية؛ فلقد سبقها قرار مشابه في أكتوبر من العام 2022 بتخفيض الإنتاج النفطي بنحو مليون برميل بهدف تحقيق الاستقرار السعري حينها. بيد أن الملاحظة الأساسية أن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، واستمرت أسعار النفط في الاتجاه النزولي حتى وصلت حاليًا لنحو 80 دولارًا للبرميل. وقد خلقت هذه الحالة سؤالًا جوهريًا حول مدى فاعلية التغير في حجم الإنتاج في التحكم في أسعار النفط، وسؤال آخر حول مدى قدرة تجمع أوبك بلس في التحكم في الأسعار. وإزاء قرار جديد بتخفيض الإنتاج، فإن سؤالًا ملحًّا آخر يُطرح حول مدى فاعلية هذا التخفيض الجديد.

إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها هي محل اهتمام هذه الدراسة الحالية، حيث تبني منهجًا تحليليًا ينطلق من تسليط أضواء مكثفة على السياق الذي خرج فيه قرار التخفيض الأول في عام حافل بالأزمات، ثم تتأمل الدراسة في جزء آخر أحوال سوق النفط بعد عام من الأزمة، لتبدي رأيها في الأزمة الهيكلية التي تطبع سوق النفط العالمية باستمرار. وتنطلق الدراسة في جزء آخر لتحلل أبرز التأثيرات الدولية المحتملة للتخفيض الطوعي الجديد لإنتاج النفط، ثم تختتم فقراتها التحليلية بمحاولة الإجابة عن سؤال يدور حول فرص واحتمالات تغير بوصلة سوق النفط العالمية في المستقبل.

عام حافل بالأزمات:

لقد كان الاقتصاد العالمي المشحون بتداعيات جائحة كورونا على موعد مع حدث جلل أصاب استقراره الهش في مقتل. ففي أواخر فبراير من العام الماضي 2022، وبعدما أعلنت روسيا حربها على أوكرانيا، شهدت الأسواق الدولية أزمات جديدة، وتفاقمت وتعقدت أزماتها القائمة. ولم تكن سوق النفط بأحسن حالًا من ذلك؛ بل ليس من قبيل المبالغة القول إن هذه السوق كانت الأكثر حساسية والأعلى تأثرًا بوطأة هذه الأزمات الدولية. كما بدأت تطغى الاعتبارات غير الاقتصادية على محددات جانبي العرض والطلب في هذه السوق البالغة الأهمية للاستقرار الاقتصادي العالمي.

ولئن كانت التطورات المتسارعة التي تشهدها سوق النفط حاليًا هي نتاج طبيعي ومحصلة لعام حافل بالأزمات، فمن المهم – لاعتبارات تحليلية – إلقاء نظرات بانورامية سريعة على أبرز هذه الأزمات للنظر في مدى اتصالها وتأثيرها على مجريات الأمور في سوق النفط والنقاط التالية تحاول النهوض بهذه المهمة:

- إن استخدام روسيا سريعًا لسلاح الطاقة في مواجهة التحالف الأوروبي كان تطورًا منطقيًا ومتوقعًا لاشتعال هذه الحرب؛ فبعدما أقرت أوروبا – بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية واليابان – حزمة ضخمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، قررت روسيا قطع إمدادات الغاز عن أوروبا. وفي الوقت الذي كانت تعتمد فيه أوروبا على الغاز الروسي بنسبة تصل لنحو 40% من وارداتها، فإن سوق الطاقة الأحفورية قد شهد صدمة سعرية عنيفة علت بأسعار النفط والغاز لمستويات قياسية. فقد دار سعر النفط قريبًا من حاجز 120 دولارًا للبرميل في ذروة الأزمة، كما وصل سعر الغاز الطبيعي لنحو 10 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية. وبالتالي، فالصلة وثيقة بين وقوع الحرب وأزمات سوق النفط في العام 2022. ورغم تمكن الاقتصاد الروسي من تدبير أسواق بديلة للسوق الأوروبية، فإنه قد اضطر إلى تقديم تخفيضات سعرية في سبيل ذلك؛ وهو ما تسبب في تراجع لاحق بأسعار النفط في أعقاب هذه الصدمة.

- ولم تكن الحرب الروسية على أوكرانيا هي السبب الرئيسي في أزمة سلاسل الإمداد العالمية، لكنها بكل تأكيد كانت رافدًا مهمًا في إذكاء هذه الأزمة وفي تعقدها. فأزمة سلاسل الإمداد كانت قد نشأت وتفاقمت بفعل الإغلاق العالمي في العام 2020 لمحاصرة انتشار فيروس كورونا، كما تفاقمت بفعل أزمة شح الإنتاج من الرقائق الإلكترونية خلال نفس الفترة، ثم أتت هذه الحرب لتخلق سيلًا من الأزمات الفرعية التي نالت من أنشطة النقل الدولي واللوجستيات وأنشطة الشحن والتأمين والنقل البحري المختلفة. وفي ظروف كهذه، فمن الطبيعي أن تعاني أنشطة نقل النفط والغاز المسال من ندرة وسائط الشحن ومن ارتفاع تكاليف النقل والتأمين والنولون البحري. وأضف إلى كل ذلك أن العقوبات الدولية التي فرضت على الاقتصاد الروسي وتجارته النفطية قد خلقت ظاهرة جديدة في سوق الشحن الدولية، ألا وهي ظاهرة ناقلات الظل، التي تسعى لتجاوز العقوبات الدولية على التجارة الروسية الخارجية. ولعله من الواضح جليًا إلى أي مدى تأثرت سوق النفط الدولية بأزمة سلاسل الإمداد، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وكلما اشتدت هذه الأزمة، تولدت موجات ارتدادية في سوق النفط لتخصم من استقراره القصير الأجل.

- وفي ظل مكانة روسية-أوكرانية بالغة الأهمية في سوق تجارة الحبوب والأسمدة، ساهمت الحرب الدائرة بينهما في توقف مؤقت لإمدادات الحبوب والأسمدة للأسواق الدولية؛ ما دفع بمعدلات التضخم للوصول لمستويات قياسية في العديد معظم دول العالم. وبينما ترتب على توقيع اتفاقية تسهيل تجارة الحبوب في البحر الأسود تهدئة لأسعار الحبوب والأسمدة، لكن الموجات التضخمية ظلت تتسع وتصيب طائفة واسعة من السلع والخدمات عبر أسواق العالم المختلفة. وقد تركت هذه الموجات التضخمية آثارًا ملحوظة وغير مباشرة على تكاليف إنتاج النفط، كما أثرت في محددات جانبي العرض والطلب في سوق النفط، ولاسيما في الاقتصاد الأمريكي.

- وبالتوازي مع أزمات الاقتصاد الحقيقي، فإن النظام النقدي الدولي قد عانى هو الآخر من عدة أزمة خلال العام المنصرم 2022. وكانت أزمتا المديونية الخارجية وإخراج الاقتصاد الروسي من نظام “سويفت” هما الأبرز في سلسلة ممتدة من الأزمات المالية والنقدية التي أثرت على مكونات السيولة الدولية وعلى تدفقات رؤوس الأموال عبر العالم. فمن الطبيعي أن يتأثر نظام المدفوعات الدولي بحجب الاقتصاد الروسي، لكونها تمتلك مكانة تجارية بقيمة تجارة خارجية تصل لنحو 785.8 مليار دولار وفق بيانات العام 2021. ولو نظرنا كذلك لما ترتب على الرفع المتصل لسعر الفائدة في أسواق العالم المختلفة بقيادة الفيدرالي الأمريكي، أي بوصول العالم لعام الدولار القوي، لاستبان كيف أن هذه الأزمات كانت كفيلة بإحداث تقلبات شديدة الوطأة على الأسواق الحقيقية، وخاصة سوق النفط الدولية. فزيادة متصلة في سعر الفائدة الأمريكية قد خلقت فرصًا ربحية خالية المخاطر في سوق رأس المال الأمريكية، وبالقدر الذي جذب رؤوس الأموال لهذه السوق بعيدًا عن قطاعات الإنتاج المادي، ليضيّق ذلك الفرص أمام أنشطة الاستثمار والإنتاج والتشغيل الإنتاجي العالمي، لتنعكس مرة أخرى في صورة تراخي الطلب على مصادر الطاقة الأحفورية.

- وفي شرق العالم، وتحديدًا في السوقين الصينية والهندية، فإنه منذ مطلع العام 2022 كانت السياسة الصينية تراوح مكانها في محاصرة فيروس كورونا، وهو ما قيد طلبها آنذاك على النفط العالمي. لكن قرارًا بالتخلي عن سياسة “صفر كوفيد” أعاد الزخم الإنتاجي الصيني لسابق عهده؛ ليولد ذلك بالتبعية إشارات إيجابية للنمو الاقتصادي العالمي، ناهيك عن تأثيره المباشرة في الطلب على النفط. بيد أن الطلب الصيني على النفط قد اتسم بسمتين أثرتا بشكل واضح على مؤشرات الاستقرار في سوق النفط العالمية؛ أولهما أنها باتت تحصل على مصادر الطاقة الروسية بأسعار تفضيلية، وتبعتها الهند في ذلك لتتفوق عليها لاحقًا، بحكم تسارع نموها الحالي وبحكم ما تملكه حاليًا من قدرات في مجال تكرير النفط وإعادة تصديره مكررًا سواء للسوق الأوروبية أو للأسواق الإقليمية القريبة. أما ثاني هذه السمات، وبينما تبطئ الصين اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، وبالأخص تأجيلها المستمر لتدشين مشروع ضخم لاستيراد الغاز الطبيعي الروسي ببناء خط أنابيب يمر عبر منغوليا، فإنها قد وقّعت عقودًا طويلة الأجل لاستيراد الغاز المسال والمنقول بحرًا من السوق الأمريكية. وبينما توضح هاتان السمتان أن الاقتصاد الصيني يطبق سياسة جديدة تعزز من مكانته وتأثيره في سوق النفط، فإنهما قد ولّدا مزاحمة محتملة للمنتجين الرئيسيين للنفط، ولاسيما منتجي تجمُّع أوبك. وزد على ذلك أن الاعتماد الهندي المفرط على استيراد الطاقة من روسيا في ظل الحوافز السعرية قد حدّ عمليًا من نفاذ صادرات باقي الدول النفطية إلى سوق المستورد الثالث عالميًا للطاقة خلال العام 2022.

على أن التداخل فيما بين هذه الأزمات والتفاعل المستمر فيما بينها قد عبر عن نفسه في صورة تقلبات شديدة في أسعار النفط خلال العالم 2022؛ ذلك أن الأزمة الأوكرانية وما سبقها من إرهاصات تسببت في وصول أسعار النفط لأقصى قيمة لها، وهي 128 دولارًا للبرميل من سلة أوبك، ثم أخذت الأسعار في التقلب في الاتجاه النازل حتى وصلت لنحو 90 دولارًا للبرميل في أكتوبر من العام نفسه 2022، وهو التاريخ الذي اتخذ فيه تجمع أوبك بلس قرارًا هامًا بتخفيض الإنتاج النفطي نظريًا بنحو 2 مليون برميل يوميًا، وعمليًا بواقع مليون برميل نفط يوميًا. وكان هذا القرار مشفوعًا من جانب التجمع بثلاثة مبررات؛ أولها أن الاقتصاد العالمي يغيب عنه اليقين، وثانيها أن سوق النفط في حاجة ماسة إلى تعزيز دعائم الاستقرار الطويل الأجل، أما ثالثها فهو اتّباع دول التجمع نهجًا استباقيًا في قرارات الإنتاج لتعزيز مكانتها في سوق يغلب عليها التنافس والتباين في المصالح بين جانبي العرض والطلب.

وفي أعقاب هذا القرار، كان السؤال المطروح عالميًا حينها هو: إلى أي مدى سينجح تجمع أوبك بلس في تحقيق غاياته السعرية من تخفيض إنتاجه النفطي؟ وبمنطوق آخر: هل سيتماسك سعر النفط فوق حاجز الـ 90 دولارًا للبرميل في ظل قرارات تخفيض الإنتاج؟ لقد أجابت سوق النفط العالمية بالنفي عن هذا السؤال. ذلك أنه برغم تخفيض المعروض العالمي من النفط، فقد ظل سعر النفط يتراجع باستمرار خلال الشهور التالية لإقرار التخفيض من جانب أوبك بلس، حتى وصل سعر برميل النفط إلى أدنى مستوى في ديسمبر 2022 عند 74.6 دولارًا للبرميل. أي أن تخفيضات الإنتاج لم توقف عجلة التراجع في أسعار النفط خلال الشهرين الأخيرين من العام 2022. ويطرح هذا الوضع الاستثنائي العديد من الأسئلة حول مسببات تراجع أسعار النفط برغم قرارات تخفيض الإنتاج النفطي المشار إليها، وأسئلة أخرى حول المتغيرات الإضافية التي تشكل منحنى أسعار النفط في الأسواق العالمية. وتنقلنا محاولات الإجابة عن هذه الأسئلة إلى الجزء التالي من الدراسة.

- سوق النفط بعد عام من الأزمة: تأملات جديدة في أزمة هيكلية عميقة:

إزاء التداعيات السابقة التي أثرت في سوق النفط الدولية، كان من الواضح أن الاستقرار سيظل غائبًا عن هذه السوق مع وجود أزمات جديدة تلوح في أفق الاقتصاد العالمي في مطلع العام 2023. ويلاحظ أن أسعار النفط خلال الشهور الثلاثة المنقضية من العام الحالي تشير إلى تقلب أسعار النفط حول حاجز 80 دولارًا للبرميل، لكنها قد وصلت لأدنى مستوى في منتصف مارس الماضي 2023، فماذا عن التداعيات الجديدة التي أفضت لهذا الاتجاه السعري؟

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدة مسببات أثرت، إيجابيًا وسلبيًا، في جانب الطلب في سوق النفط حتى فبراير 2023 وقبل اشتعال أزمة قطاع البنوك الأمريكية وهي:

- أرسل الاقتصاد الصيني عدة مؤشرات إيجابية لسوق النفط العالمية مع اتساع نطاق التشغيل والإنتاج المحلي، وعلى رأس هذه الإشارات أن التنقل في الصين، باعتباره مؤشرًا معتبرًا على التشغيل، آخذ في التسارع، حيث تجاوز معدل ركاب وسائل النقل العام اليومية مستويات ما قبل كوفيد في ست من المدن العشر الكبرى الصينية، كما انتعشت حركة السفر والطيران التي يمكن اتخاذها مؤشرًا على ازدهار قطاع الخدمات

- وفي ظل حزمة عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، تمكن الاقتصاد الروسي من النفاذ للأسواق الدولية، وهو ما ساعد في تهدئة المخاوف في سوق النفط العالمية، وخصوصًا بتداول النفط الروسي بأسعار تفضيلية لشركاء التجارة، وعلى رأسهم السوق الهندية. وفي محاولة للتغلب على عوائد مالية شحيحة من صادراته النفطية، حاول الاقتصاد الروسي إرسال عدة رسائل سلبية لسوق النفط العالمية مع تعهده بخفض الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يوميًا بداية من مارس 2023 وبما يمثل 5% من إنتاجه اليومي. وكانت هذه الرسائل بمثابة مؤثر سلبي على سوق النفط دفعت بالأسعار للارتفاع الآني بنسبة 2.2% خلال فبراير من العام الجاري 2023.

- على أن المسبب الإضافي الذي أثر سلبيًا في الأسعار في سوق النفط راجع لتباطؤ شهدته اقتصادات بلدان عديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ كنتيجة مباشرة لما عانته من ويلات التضخم ولسعيها الحثيث لتخفيف حدته عبر رفع أسعار الفائدة المحلية. وكأثر مباشر لهذا الرفع، تباطأت عجلات الإنتاج في هذه الأسواق بالقدر الذي تراخى معه طلبها على النفط في السوق الدولية.

ومع الإعلان عن أزمة إفلاس بنك “سيلكون فالي” وامتدادها لعدة بنوك أمريكية متوسطة الحجم، انتشر الذعر سريعًا في أسواق المال العالمية، وتعرضت أسهم قطاع البنوك في غالبية البورصات الرئيسية لتدهور شديد في قيمتها؛ فينهار على أثرها بنك كريدي سويس وينتهي به الحال مُستحوَذًا عليه بصفقة مدعومة من الحكومة السويسرية، ليترك كل ذلك تأثيرًا مباشرًا على الطلب في سوق النفط العالمية. لكن كيف أثرت أزمة المصارف التي حدثت في شهر مارس 2023 على سوق النفط العالمية؟

معلوم أنه في سوق العقود الفورية للنفط تتأثر قرارات الشراء بالعديد من المتغيرات والتي من أهمها مؤشرات المخاطر في الأسواق المالية الدولية. ومع شيوع الذعر المالي، فمن الطبيعي أن ينخفض الطلب – آنيًا وفي الأجل القصير – على النفط خوفًا من الركود المحتمل الذي قد تسببه أزمة طارئة في قطاع المصارف الدولية وانصراف المستثمرين عن الأصول ذات المخاطر العالية. ولقد استجابت أسعار النفط الدولية لهذه الأزمة تمامًا كما هو متوقع منها، حيث حققت العقود الآجلة للخام الأمريكي تراجعًا بمعدل 5%، وهو يعد أكبر معدل تراجع خلال ثلاثة شهور ليصل سعر النفط لنحو 74 دولارًا للبرميل. لكن السياسات التي أقرتها الحكومة الأمريكية لدعم قطاع البنوك ومنع انتشار أزمة المصارف المتوسطة لباقي النظام المصرفي قد هدّأت من المخاوف وأعادت الأمور في سوق النفط إلى سابق عهدها المتذبذب حول الإشارات الإيجابية والسلبية المحدودة الأثر.

على أن مؤشر مخزونات النفط الأمريكية يعد متغيرًا رئيسيًا وحاكمًا لتوجهات سوق النفط الدولية. فبالنظر لتطورات إنتاج النفط الأمريكي خلال العام 2022، يتضح أن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أشارت إلى أن السحب من المخزون النفطي بلغ نحو 585 ألف برميل يوميا. كمًا أن التسويات التي تمت على إحصاءات إنتاج النفط الأمريكي بلغت في ذلك العام وحده نحو 786 ألف برميل يوميًا. ونظرًا لأن أرقام تطورات المخزون الاستراتيجي المعلنة لهذه التسويات لها تأثير مباشر – وغالبًا غير مرغوب فيه – في اتجاهات الطلب والأسعار في سوق النفط العالمية، فقد ساهمت هذه التطورات – ضمن عوامل أخرى أشير إليها آنفًا – في تراجع مستمر لأسعار النفط في الأسواق الدولية؛ وهو ما حدا بجانب الطلب في سوق النفط للسير قدمًا في تطوير تدخلاته بسوق النفط الدولية.

ومع وصول سعر برميل النفط لخام غرب تكساس الوسيط لنحو 75.5 دولارًا للبرميل في أوائل إبريل الجاري 2023، قررت ثماني دول ضمن تكتل أوبك بلس تخفيضًا طوعيًا بكميات متفاوتة في الإنتاج بداية من مايو 2023. وبينما بلغت جملة التخفيضات المقررة نحو 1.1 مليون برميل من دول السعودية والإمارات والكويت وعُمان والعراق والجزائر، فإن جملة الخصم الإنتاجي تصل لنحو 1.6 مليون برميل بإضافة التخفيضات المقررة من روسيا وكازاخستان. ويلاحظ أن هذا التخفيض الإنتاجي الجديد يتماشى مع السياسة التي بدأها تجمع أوبك بلس منذ أكتوبر 2022 بإقرار تخفيض فعلي بنحو مليون برميل، كما سبقت الإشارة.

وفي حين أن الهدف الأساسي والمعلن لتخفيض الإنتاج النفطي الجديد من عدة دول رئيسية في تجمع أوبك بلس يتمثل في دعم الاستقرار في سوق النفط والحفاظ على مستويات الأسعار التوازنية، فإن نظرة فاحصة في هذا القرار يمكن أن تكشف عن عدة عوامل جوهرية تحكم سلوكيات جانب العرض في سوق النفط الدولية كما توضحها النقاط التالية:

- إن التضخم العالمي المستعر حاليًا قد رفع من تكاليف الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير النفطي، وهو ما يخصم بالضرورة من ربحية أنشطة قطاع النفط بالأسعار الحقيقية. وللتغلب على التأثير السلبي لتضخم التكاليف في أنشطة إنتاج النفط، فلا بديل أكثر تأثيرًا من رفع سعر النفط أو المحافظة على حدود دنيا لهذا السعر تضمن كفاءة أنشطة الاستثمار والإنتاج والتشغيل. ومن الواضح أن هذا السعر لا يقل بحال عن 90 دولارًا للبرميل وفق قراءة متأنية لتاريخ أول خفض أقره تجمع أوبك بلس في أكتوبر الماضي 2022.

- ثم إن التباين الذي قد تشهده اتجاهات الأسعار العالمية، مع اتخاذ أغلب الأسعار المنحنى السعري الصاعد، سيزيد من الكلفة الاقتصادية وتكلفة الفرصة البديلة المترتبة على اتخاذ أسعار النفط المنحنى الهابط؛ ذلك أن منظومة الأسعار النسبية الدولية تجعل مقايضة الدول النفطية نفطًا رخيصًا بسلع مستوردة متضخمة الأثمان، سيهوي ذلك تدريجيًا بمعدل التبادل الدولي لها في التجارة الدولية؛ وهو، بطبيعة الأمور، اتجاه لا تقبله بحال الدول النفطية، في ظل إيمانها الواضح بانتهاء عصر النفط الرخيص.

- ولا يجوز هنا إغفال العوامل والمؤثرات والاعتبارات غير الاقتصادية والتي ما انفكت تحكم – أو على الأقل تؤثر في – قرارات الإنتاج النفطي منذ بداية الإنتاج الواسع للنفط في مطلع القرن الماضي. ويكفي هنا الإشارة إلى وجود العديد من هذه العوامل والاعتبارات السياسية والبيئية والجيواستراتيجية؛ لكن تفصيلها يخرج عن نطاق واهتمام الدراسة الحالية التي تهتم بالاعتبارات الاقتصادية دون غيرها.

وعلى أية حال، فإذا كان من الواضح أن سوق النفط العالمية تعاني من أزمة هيكلية تحكم آليات عملها وتجعلها تعاني دائمًا من التقلبات التي تبعدها عن الاستقرار، فإن من الواضح أيضًا أن قرار تخفيض جديد للإنتاج النفطي هو قرار أملته الظروف الدولية الراهنة وأفرزته الطبيعة المأزومة لسوق النفط. لكن الملاحظة الجوهرية أن سوق النفط أمام اتجاه جديد تؤكده مرة أخرى سياسات جانب العرض. وأبرز ملامح هذا الاتجاه الجديد توضحها النقاط التالية:

- إن دول تجمُّع أوبك بلس تؤكد مرة أخرى قدراتها الفاعلة في السوق لتحقيق التوازن الإيجابي بين قوى العرض وقوى الطلب. فكل إشارة تُرسل من جانب الطلب سيتبعها رد فعل ملائم من جانب العرض؛ ليستمر هذا التفاعل بالصورة التي تضمن التوازن الإيجابي الذي لا يحقق مصلحة طرف على حساب خسارة الطرف الآخر.

- إن التوجهات الجديدة التي تتبناها قوى جانب العرض تؤكد أنها لن تكتفي بسياسات رد الفعل فقط في سوق النفط الدولية، بل إنها ستتدخل بسياسات استباقية في هذه السوق وبالقدر والكيفية التي تحافظ بهما على حقوقها ومنافعها من هذا المورد الطبيعي الناضب. وهذا هو الملمح الثاني في التوجهات التي تتبناها حاليًا دول أوبك بلس.

- أما عن الملمح الثالث في هذه التوجهات الجديدة، وفي سياق مقاومة مسببات الركود العالمي وتداعياته، فإن حجم الإنتاج النفطي يجب أن يتماشى مع الإشارات التي تقدمها الأسواق، وبما لا يعيق المحاولات الدولية للخروج من وهدة هذا الركود.

- على أن الملمح الرابع، والذي يمكن استخلاصه من القرار الجديد لتخفيض الإنتاج النفطي، هو التأكيد مجددًا على تكامل الأدوار العربية وتناغمها في سوق النفط الدولية؛ وليس أدل على ذلك من قيام أهم ست دول عربية منتجة للنفط بتخفيض الإنتاج لخدمة مصالحها المشتركة في سوق النفط الدولية. وبطبيعة الحال، فإن هذا التكامل العربي في سوق النفط سوف يعزز من قدرات التفاوض الجماعي للدول العربية، ليس فقط في سوق النفط الدولية، ولكن أيضًا داخل تجمع أوبك بلس نفسه.

ومهما يكن من أمر الملامح التي أفرزها القرار الجديد لتخفيض الإنتاج النفطي، فإنه يبقى الآن التأمل في التأثيرات المحتملة لهذا التخفيض على مجريات سوق النفط العالمية. إن الجزء التالي سيتصدى لهذه المهمة البحثية.

- التأثيرات الدولية المحتملة للتخفيض الطوعي الجديد لإنتاج النفط:

انطلاقًا من مضمون التحليل السابق للظروف والملابسات التي سبقت وتزامنت مع قرار التخفيض الطوعي لإنتاج النفط من جانب ثماني دول في تجمُّع أوبك بلس، فإن النقاط التالية تبرز أهم التأثيرات المحتملة لهذا القرار على مكونات سوق النفط العالمية في الأجل القصير والمنظور كما يلي:

- فيما يخص الاتجاهات المتوقعة لأسعار النفط نتيجة لهذا القرار، فمن المحتمل أن ينعكس هذا التخفيض الإنتاجي في صورة دعم سريع للأسعار في سوق النفط لمنع انزلاقها بعيدًا عن حاجز 80 دولارًا، حيث إن الإشارات التي ستستقبلها سوق النفط خلال الأيام القليلة القادمة تتركز في أن جانب العرض لن يقبل بمزيد من التراجع في الأسعار، وأنه يعمل على الحفاظ على التوازن الإيجابي في سوق النفط الدولية. ومن المتوقع أيضًا أن يزداد الطلب على الغاز الطبيعي ليشهد هو الآخر ارتفاعًا محتملًا في أسعاره بالأسواق الدولية.

- ومن الطبيعي أن تنشأ مقاومة محتملة من جانب الطلب في سوق النفط بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. لتتمثل أهم ملامح هذه المقاومة في:

- لقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية موقفها الرافض سريعًا لهذا القرار باعتباره قرارًا “غير حكيم” في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. كما أعلنت أنها ستعمل مع المستهلكين – في إشارة إلى الجماعة الأوروبية واليابان – لمقاومة الضغوط التضخمية التي قد يولدها هذا القرار. لكن الرفض السياسي لن يكون هو التصرف الأمريكي الوحيد، فمن المتوقع أن تطبَّق حزمة من السياسات، بدءًا من التوسع في السَّحب من المخزون الاستراتيجي، مرورًا بدعم محتمل للطاقة، وصولًا لمزيد من التشديد النقدي المحلي والتدخل في هيكل السيولة الدولية، والتأثير على حركة رؤوس الأموال الدولية لدعم إنتاجها النفطي. وبطبيعة الحال، ستجد السياسات الأمريكية دعمًا من حلفائها التقليديين؛ لكونهم يمثلون جبهة مصالح اقتصادية واحدة في سوق النفط الدولية.

- وبالنسبة لموقف الصين والهند، فإن الظروف الاقتصادية التي تحكم طلبهما الحالي على النفط ستقلل من حاجتهما للتدخل السلبي في استقرار سوق النفط؛ ولاسيما أن الهند باتت من أكبر المستفيدين من أزمات قطاع النفط الحالية، وأن الصين تطور مزيج الطاقة لديها لصالح زيادة حصة الغاز الطبيعي المسال، والذي وقعت له عقودًا مستقرة وطويلة الأجل مع تسريع ريادتها للطاقة الجديدة في توليد الكهرباء.

- من الآثار السلبية المتوقعة لزيادة حال ارتفاع سعر النفط فوق حاجز الـ 90 دولارًا للبرميل، أن تتفاقم المشكلات الاقتصادية للدول المدينة والمستوردة للنفط؛ ذلك أن موازنات هذه الدول تتوازن عند مستويات تقل كثيرًا عن هذا الحاجز، كما أنها تعاني حاليًا من تعثر شديد في موازنة الصرف الأجنبي وتضعف قدراتها على استيراد مصادر الطاقة، وقد يلقي ذلك بظلاله على هيكل المساعدات الخارجية للدول النفطية، التي تربطها مصالح استراتيجية مع العديد من هذه الدول المأزومة.

وبالنسبة لجانب العرض في سوق النفط، فإنه يتوقع أن يتأثر بهذا التخفيض النفطي كما يلي:

- بينما يترتب على التخفيض الجديد للإنتاج النفطي ارتفاعٌ جديد في أسعار النفط، فإن التأثير الآني والقصير الأجل على موازنات دول تجمّع أوبك بلس سيتمثل في صورة فائض مالي إضافي يمكّنها من إعادة بناء احتياطاتها وصناديقها الاستثمارية التي تضررت بشدة بفعل سياسة الدولار القوي أو حققت خسائر رأسمالية من جراء أزمة المصارف الدولية التي حدثت مؤخرًا.

- من المتوقع أن تستفيد التجارة النفطية الروسية من هذا القرار حال مساهمته في رفع أسعار النفط. ذلك أنه في تلك الحالة ستزداد القدرات التفاوضية الروسية مع شركاء التجارة، وستضعف فاعلية سقوف الأسعار ضمن برنامج العقوبات المفروضة عليها لتزايد موارد النقد الأجنبي الروسي من تصدير النفط. وقد يدفع ذلك الصين إلى إعادة التفكير مجددًا في خط الغاز الذي يربطها بروسيا عبر منغوليا.

-  في ظل ارتفاع متوقع في أسعار النفط، يتزامن معها ارتفاع متوقع في أسعار الغاز، فإن التأثير على منظومة الأسعار النسبية العالمية سيقلل من التباين القائم فيما بينها، ولاسيما التباين بين أسعار الطاقة الأحفورية من جانب وأسعار السلع الصناعية التي شهدت ارتفاعات مطردة خلال العامين الماضيين من جانب آخر.

وبينما كان التخفيض الذي أُدخل على إنتاج النفط العالمي هدفه الأساسي أن يقود سوق النفط العالمية ناحية الاستقرار؛ ففي جميع الأحوال، نعتقد أن الأثر الإجمالي لتخفيض الإنتاجي الطوعي للنفط سيتحدد اعتمادًا على جملة التفاعلات المتوقعة لجانب الطلب على النحو المشار إليه آنفًا مع باقي التفاعلات على صعيد الاقتصاد الدولي، ناهيك طبعًا عن العلاقة التبادلية بين أسعار النفط والآفاق المتوقعة للنمو العالمي خلال العام الحالي 2023.

خاتمة: هل ستتغير بوصلة سوق النفط العالمية؟

لقد توصلت هذه الدراسة، عبر ما عرضته من متغيرات وما تضمنته من تحليل وما قدمته من رؤى وأفكار، إلى أن التخفيض الطوعي الذي قامت به ست دول عربية نفطية إلى جانب روسيا وكازاخستان يهدف لدعم الاستقرار المفقود في سوق النفط؛ ذلك السوق الذي عانى على مدار عام الحرب الروسية على أوكرانيا من عدة تقلبات دفعت به بعيدًا عن هذا الاستقرار. وإذا سلمنا بأن هذا التخفيض كان من أجل الاستقرار، فيجب أن نسلّم أيضًا أن ضبط بوصلة سوق النفط العالمية تحمل مضمونًا أشمل وأعمق من مجرد الاستقرار السعري الذي يخاطب الأجل القصير.

إننا نرى أن بوصلة سوق النفط العالمية لا تقتصر على الاسترشاد بمؤشرات العرض أو الطلب في السوق، على ما لهما من أهمية في تحقيق الاستقرار القصير الأجل؛ لكنها تمتد لتشمل نوعية التدخلات في السوق وتوقيتاتها ومدى اتصالها بباقي أسواق السلع والخدمات الداخلة في الاتجار الدولي، وفوق كل ذلك مدى تأثيرها على محفزات النمو الاقتصادي وآفاقه المأمولة. كما أن هذه البوصلة لا تهمل الطبيعة الناضبة والتأثيرات الجانبية لهذا المورد الفائق الأهمية للاقتصاد العالمي. ولذلك، فإن السياسات الواعية التي يتعين التأكيد عليها والحرص على تنفيذها في سوق النفط العالمية تقوم على قاعدة أساسية، وهي ضرورة إخراج قطاع النفط من حلبة التنافس السياسي الدولي، وهو ما يحرص عليه دائمًا تجمُّع أوبك بلس بقيادة واعية من الدول الخليجية. ونعتقد أن هذا الحرص هو الضمانة الأولى للتغيير المأمول في بوصلة سوق النفط العالمية مستقبلًا.