• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05

طبقاً للمثل الإفريقي الشائع: "عندما تتصارع الأفيال، يُداس العشب تحت أقدامها". فإن الخاسر الأكبر في حرب الأطراف الفاعلة الكبرى التي تمتلك السلاح هو الشعب الذي يُصاب بالأذى. وينطبق ذلك تماماً على الحالة السودانية بعد أن تحطمت آمال الانتقال السلمي إلى الديمقراطية في وقت مبكر من يوم السبت 15 إبريل 2023، عندما تم الاحتكام إلى لغة السلاح للسيطرة على زمام الأمور في الخرطوم.

انخرطت قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) والقوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان في اشتباكات عنيفة، مما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من الأشخاص. واندلع العنف بسبب خلاف بشأن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية، والذي كان جزءاً من اتفاق لتقاسم السلطة مع القادة المدنيين الذين قادوا الاحتجاجات ضد الرئيس السابق عمر البشير في عام 2019. وكان اتفاق تقاسم السلطة هذا قيد التنفيذ لمدة عامين قبل أن يقوم كل من البرهان وحميدتي بانقلاب عسكري في أكتوبر 2021. ومنذ ذلك الحين، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، حيث قُتل أكثر من 100 شخص.

ومن المثير للقلق أن الاشتباكات الدامية الحالية بين أطراف المكون العسكري تنتشر في جميع أنحاء البلاد، ولاسيما في مناطق مثل شمال وغرب وجنوب دارفور، حيث تتمتع قوات الدعم السريع بوجود قوي.

وفي غمرة تصاعد الأحداث أعلن قائد الجيش السوداني حل مليشيات الدعم السريع وتبادل الجانبان الاتهامات من خلال حرب إعلامية حامية الوطيس. ومع ذلك فمن الواضح أن الجيش السوداني يفرض قبضته على النقاط الاستراتيجية في الخرطوم لما لها من دلالة رمزية وسياسية غير خافية.

تحاول هذه القراءة النظر بشكل أعمق في الوضع الحالي في السودان وآثار الصراع بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية على الاستقرار السياسي والأمن في البلاد، بالإضافة إلى التداعيات الإقليمية والدولية والمآلات المتوقعة.

جذور الصراع الحالي

منذ استقلال السودان في عام 1956، أدى الجيش السوداني دوراً مهماً في المشهد السياسي، حيث وصل عمر البشير إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري، وحكمه بشكل استبدادي لمدة 30 عاماً قبل أن تتم الإطاحة به في عام 2019 من خلال انقلاب عسكري آخر. بعد عزل البشير، دعا القادة المدنيون والقادة المؤيدون للديمقراطية إلى إصلاحات جذرية لقطاع الأمن، لكن هذه الجهود أفضت إلى صراعات مكتومة ومعلنة بين أطياف المكون العسكري.

وعليه فإن أحد الأسباب المركزية للتوتر العنيف بين عناصر هذا المكون العسكري منذ الانتفاضة هو المطلب المدني للسيطرة على الجيش ورؤية اندماج قوات الدعم السريع القوية في الجيش النظامي. كما دعا المدنيون إلى تسليم الأصول والشركات العسكرية المربحة في الزراعة والتجارة وغيرها من الصناعات، وهي مصدر أساسي للسلطة والثروة بالنسبة للجيش وقوات الدعم السريع على السواء.

ثمة نقطة خلاف أخرى تتمثل في السعي لتحقيق العدالة بشأن مزاعم ارتكاب الجيش وحلفائه جرائم حرب في النزاع في دارفور منذ عام 2003. وتسعى المحكمة الجنائية الدولية إلى محاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير وغيره من السودانيين المشتبه بهم. كما يتم السعي لتحقيق العدالة بشأن مقتل متظاهرين مؤيدين للديمقراطية في 3 يونيو 2019، والتي تورطت فيها قوات عسكرية من الدعم السريع. وقد استشاط النشطاء والجماعات الحقوقية المدنية غضباً بسبب التأخير في إجراء تحقيق رسمي. بالإضافة إلى ذلك، تريد فصائل قوى الحرية والتغيير تحقيق العدالة لما لا يقل عن 125 شخصاً قتلوا على أيدي قوات الأمن في الاحتجاجات السلمية منذ قرارات البرهان في 25 أكتوبر 2021.

وعلى أية حال يتطلب الإصلاح الهادف لقطاع الأمن ضرورة إصلاح الإطار القانوني في السودان لإرساء دور قوات الأمن وإنشاء جيش وطني واحد تثق به المجتمعات والأقاليم السودانية، ولاسيما في مناطق النزاع. كما يجب العمل أيضاً على فك ارتباط الجيش بالاقتصاد، حيث تهيمن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على معظم جوانب القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية في السودان. وسيتطلب ذلك تخطيطاً دقيقاً، حيث تحمي المؤسسات العسكرية هذا النفوذ. ولعل ذلك يفسر أن صراع كل من حميدتي والبرهان هو من أجل حماية تلك الامتيازات.

حميدتي والطرح البديل

بدأت الخلافات بين كل من البرهان وحميدتي تظهر إلى العلن منذ عدة أسابيع خلت وذلك من خلال تحشيد قوات الدعم السريع في الخرطوم وقيام حميدتي بزيارات خارجية واستقبال مبعوثين دوليين بمعزل عن البرهان. ولعل ذلك يوضح طبيعة وإشكالية المشهد السياسي بالغ التعقيد والتشابك في سودان ما بعد البشير.

يُنظر إلى المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير "قحت" على أنهم أكبر تهديد للمسار الانتقالي السلمي. ويستند هذا الرأي إلى الأحداث الأخيرة والانقسامات السياسية والأيديولوجية التي حددت السياسة السودانية تقليدياً. إذ تمارس الجماعات الإسلامية سلطة كبيرة على القيادة الحالية للقوات المسلحة السودانية، حيث حكم التحالف الإسلامي والجيش البلاد منذ انقلاب عام 1989، قبل وقت طويل من ظهور قوات الدعم السريع في عام 2013، والتي نما نفوذها بمرور الوقت لتصبح جهة فاعلة مؤثرة.

وتشير التقديرات من بعض الجهات الأمنية والاستخباراتية الغربية إلى أن قوات الدعم السريع لديها ما يقرب من 100 ألف جندي وقواعد وانتشار في جميع أنحاء البلاد، في حين يُقدر عدد أفراد الجيش بحوالي 124 ألف فرد. دفع هذا التحليل "قحت" نحو تحالف غير متوقع ومتناقض مع الطرف الثالث في معادلة القوة، وهو قوات الدعم السريع.

وعلى هذا أنشأت "قحت" تحالفاً سياسياً وثيقاً مع قوات الدعم السريع، التي يراها الإسلاميون عدوهم الرئيسي. وقد تمت تهيئة هذا التحالف من قبل سماسرة سياسيين من المناطق المهمشة داخل قوى الحرية والتغيير، الذين لا يرون سيادة نظام المليشيات السياسية إشكالية طالما أنها تخدم مصالحهم السياسية. وخلال الفترة الانتقالية المجهضة، تبادل هؤلاء السماسرة الامتيازات والخدمات السياسية مع قوات الدعم السريع، مما عزز علاقاتهم. ولا يخفى أن العلاقة الوثيقة لهذا التحالف أدت إلى التوصل إلى الاتفاق السياسي الإطاري في 5 ديسمبر 2022.

وقد أصبح تحالف "قحت" والدعم السريع الذي نما بسرعة، أكثر وضوحاً مع دعم حميدتي التلقائي لجميع الخطوات التي اتخذتها "قحت"، مثل دعمه العام لمشروع دستور نقابة المحامين السودانيين (حتى قبل مراجعته)، وتصريحاته المتكررة حول التزامه بالاتفاق الإطاري كخيار وحيد للتسوية السياسية، بل وإعلانه الندم علناً على مشاركته في انقلاب البرهان.

ومع ذلك فإن منطق "قحت" وقوات الدعم السريع من أجل منع الإسلاميين من العودة إلى السلطة له ثغرات كبيرة، بل وكارثية. أولاً، أتاحت الفترة التي تلت انقلاب البرهان/ حميدتي وقتاً كافياً للإسلاميين للعودة إلى أجهزة الدولة والمراكز المالية التي سيطروا عليها خلال 30 عاماً من حكمهم. ثانياً، الاعتماد على التحالف مع قوات الدعم السريع لمواجهة الإسلاميين كان عديم الفائدة خلال الفترة السابقة، حيث إن ثورة ديسمبر السودانية سحقت الإسلاميين ونظامهم. وقد دفعت هذه الأحداث القوى اليمينية الرجعية إلى تبني مسار انتقالي ديمقراطي بقيادة مدنية، ولو مؤقتاً. وعليه فإن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لا ينبغي أن تكون مقبولة. إن جهاز الدولة والنظام السياسي في السودان الذي بني على أسس أيديولوجية خلال حكم البشير يحتاج إلى إصلاحات مبدئية وشاملة وأساسية بعد أن أفسدهما طغيان البشير.

ومن المرجح أن استخدام السلطة الإدارية للدولة أو الجهاز العسكري لتسوية الخلافات السياسية لن يساعد في تحقيق هذه الإصلاحات نحو حكم مدني ديمقراطي طويل الأمد. وتدل على ذلك التجربة الأخيرة للجنة التفكيك، وكذلك السهولة التي ألغى بها النظام القانوني بعد الانقلاب عملها.

وخلاصة القول إن الاعتماد على حميدتي في قتال شبح الإسلاميين المهزومين هو خطأ استراتيجي على حساب مستقبل الاستقرار في السودان. فقد عمل حميدتي عوضاً عن ذلك قبل وبعد الاتفاق الإطاري بلا كلل لتعزيز سلطته السياسية والاقتصادية والإقليمية والدبلوماسية، من التدخلات في تشاد والنيجر ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى إلى العلاقات التجارية والعسكرية العامة والسرية مع مجموعة فاغنر الروسية. إن محاولة تأليب الشركاء الانقلابيين ضد بعضهم بعضاً من أجل تقوية المعسكر المؤيد للديمقراطية ظاهرياً هو تكتيك خاطئ ولا يمكن للتكتيكات الخاطئة أن تؤدي إلى نتائج جيدة. وهذا النهج سيمكن شخصاً واحداً فقط من احتكار المزيد من السلطة في السودان.

التداعيات الإقليمية والدولية

يقع السودان في منطقة مضطربة، على حدود البحر الأحمر والساحل والقرن الإفريقي. وهي بلا شك - بسبب موقعها الاستراتيجي وثروتها الزراعية - تُعد جاذبة للقوى الإقليمية والدولية، بما يؤدي إلى تعقيد فرص الانتقال الناجح.

وثمة حالة من الفوضى والاضطرابات السياسية والصراعات العنيفة تأثر بها العديد من جيران السودان، بما في ذلك إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان. ومن المعروف أن علاقة السودان مع إثيوبيا توترت على وجه الخصوص بسبب الصراع على إقليم الفشقة الحدودي، وبسبب الصراع في منطقة تيغراي الذي دفع عشرات الآلاف من اللاجئين إلى السودان، إضافة إلى سد النهضة الإثيوبي الكبير.

كما أن مصر التي تربطها علاقات تاريخية عميقة بالسودان وعلاقة وثيقة مع جيشها، اتخذت مساراً محايداً ومتوازناً للحفاظ على أمنها القومي. كما تمارس كل من السعودية ودولة الإمارات، بما يتمتعان به من ثقل كبير، دوراً مهماً في عملية الانتقال السياسي في السودان، وهما يشكلان مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا "الرباعية الدولية" التي رعت الوساطة في السودان، إلى جانب الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. كما تخشى القوى الغربية من احتمال وجود قاعدة روسية على البحر الأحمر والتي أعرب قادة عسكريون سودانيون عن انفتاحهم عليها.

ومن المرجح أن المواجهة الحالية لن تؤثر في التصديق على الاتفاق بين موسكو والخرطوم بشأن إنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في السودان. وتأمل موسكو في أن تصبح هذه القاعدة مركزاً لوجستياً مهماً للبحرية الروسية، لأنها تتمتع بوصول مباشر إلى مناطق نفوذها في جمهورية إفريقيا الوسطى غير الساحلية بالإضافة إلى منطقة الساحل والصحراء، حيث تعمل شركات التعدين الروسية. ومن المحتمل أن يصبح مصير القاعدة المستقبلية معروفاً خلال القمة الثانية والمنتدى الاقتصادي الروسي الإفريقي في سانت بطرسبرغ في الفترة من 26 إلى 29 يوليو 2023. ولقد تم التخطيط لإنشاء القاعدة الروسية في عام 2019، لكن جائحة "كورونا" عطلت كل هذه الخطط.  وعلى أية حال تم تجهيز القدرات بالفعل، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من إعلان الافتتاح الرسمي، ولكن بعد ذلك توقف كل شيء. ومن غير المرجح أن تعرقل محاولة الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال حميدتي هذه الخطط، فقد يتأخر إطلاق المشروع، لكن في النهاية ستنطلق القاعدة، حيث إن القوى المتصارعة في السودان ليست لديها مواقف مناهضة لروسيا. ولعل ذلك كله يفرض علينا ضرورة أخذ هذه المصالح الإقليمية والدولية بعين الحسبان عند النظر في مآلات الأمور في السودان.

السيناريوهات والمآلات

من الواضح أن الجيش السوداني، رغم إعلانه السيطرة على معظم مقرات الدعم السريع بما في ذلك قاعدة كرري المهمة، يواجه حرباً غير متماثلة مع مليشيات الدعم السريع. وغالباً ما تتميز هذه الحروب بعدم وجود خطوط أمامية واضحة، حيث يندمج المقاتلون مع السكان المدنيين أو يستخدمون ساحات القتال غير التقليدية، مثل الحرب الإلكترونية أو حرب الشوارع والمدن.

ويمكن أن تكون هذه الأنواع من النزاعات معقدة للغاية ويصعب حلها، حيث قد لا تكون الاستراتيجيات العسكرية التقليدية فعالة في هزيمة الجانب الأضعف. ومن المؤكد أنه في حالة عودة منتسبي الجيش السوداني في الدعم السريع إلى مواقعهم العسكرية السابقة فإن ذلك يعني إمكانية الانتقال إلى طور آخر من أطوار الصراع الذي يبدو فيه وضع لا غالب ولا مغلوب، الأمر الذي يعطل من مسيرة الانتقال إلى الحكم المدني.

وربما يجعل هذا السيناريو السودان عبئاً على الإقليم الذي يشهد حالات انهيار السلطة وتعدد الفواعل السياسية والعسكرية داخل الدولة الواحدة. ولعل السيناريو البديل يتمثل في تمكن الجيش من إحكام قبضته على العاصمة وطرد قوات الدعم السريع، وهو ما يفتح الطريق مرة أخرى أمام الجهود الدولية والإقليمية لاستكمال تنفيذ بنود الاتفاق الإطاري بما في ذلك إصلاح قطاع الأمن وإدماج قوات الدعم السريع في الجيش. أما السيناريو الأخير فإنه يمثل "حافة الهاوية"، حيث يكرر الحالة الليبية ويؤدي إلى تقسيم البلاد من الناحية الواقعية، وهو ما يطرح إشكالية وتداعيات وجود أجسام عسكرية غير نظامية بجوار الجيش الوطني.

في الختام، في بلد يعاني من مشاكل وصراعات هيكلية في مناطق هامشية مثل دارفور والشرق، فإن التدخل العسكري أو مباراة محصلتها صفر ليس خياراً قابلاً للتطبيق لأنه لن يؤدي إلا إلى جعل الشعب السوداني أكبر الخاسرين. لذلك، قد يجبر هذا الصراع الأطراف المتصارعة على الدخول في حوار. وبالفعل، دعا فولكر بيرثيس، مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان، إلى وقف فوري للقتال لضمان سلامة الشعب السوداني ومنع المزيد من العنف.

كما قامت الأطراف الدولية والإقليمية بالتواصل مع الأطراف المتصارعة وحثتها على الدخول في حوار لحل الخلاف بينها. ودعت مصر والسعودية والإمارات إلى ضبط النفس وإيجاد حل سياسي للصراع. وتشير هذه الجهود إلى استعداد جميع الأطراف لحل النزاع في السودان وإعادة الاستقرار إلى البلاد. لذلك، من الضروري لجميع الأطراف المعنية الدخول في حوار بناء لإيجاد حل دائم للأزمة وضمان استقرار وأمن الشعب السوداني.