• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39

جاء الصراع الحالي في السودان الذي اندلع في الخامس عشر من أبريل الجاري، والذي يشهد قتالاً واسعاً في الخرطوم وحول القواعد العسكرية ومواقع البنية التحتية الرئيسية في جميع أنحاء الدولة، بعد فترة ركود استمرت عقداً من الزمان، كانت لها تبعاتها الوخيمة على أداء الاقتصاد الكلي وبالتبعية على مستوى معيشة المواطنين السودانيين، في وضع أضحت فيه الدولة على شفا الإفلاس، نظراً إلى الأزمة الاقتصادية العميقة التي يتعرض لها، والتي تعد إرثاً لعقود من الحرب والعزلة والعقوبات. وتتجه الأزمة الاقتصادية الراهنة إلى أن تكون أكثر عمقاً؛ لما تثيره حالياً من خطر إنساني جديد، في ظل ما يواجه سكان السودان من عنف متجدد ومستويات متصاعدة من الجوع. ورغم إعلان وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة، فإن الوضع في السودان لا يزال يُنظر إليه بعين الريبة والحذر، بما يثير تساؤلات حول تداعيات الصراع الأخير على الاقتصاد السوداني واحتمالات تدهور الأوضاع الاقتصادية في حال تجدد الحرب.

أزمة عميقة

يعاني الاقتصاد السوداني من أزمة عميقة، تعود جذورها إلى أكثر من عقد من الزمان، منذ فقدان النظام السوداني نصف عائداته المالية، ونحو ثلثي قدرته على سداد الالتزامات الدولية عقب انفصال جنوب السودان في عام 2011، فضلاً عن استمرار دعم الوقود الباهظ على الرغم من طبيعته التراجعية، الذي أفاد النخب في الخرطوم بشكل غير متناسب وفشل في حماية الفقراء. وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، غلبت عدد من المؤشرات السلبية على الاقتصاد السوداني، يمكن استعراضها فيما يأتي:

1– تفاقم الضغوط التضخمية: عقب الإطاحة بنظام عمر البشير في 2019، أشرف المجتمع الدولي على ترتيب لتقاسم السلطة يجمع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ومجلس وزراء مدني. لكن الانقسامات في المؤسسة السياسية السودانية؛ أسفرت عن تفاقم الضغوط التضخمية المتزايدة التي تُرجِمت بشكل مباشر إلى ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة، وعززت السوق السوداء الإقليمية المتنامية التي يتم فيها الاتجار غير المشروع عبر الحدود بالوقود والقمح والسمسم وغير ذلك.

2– ارتدادات سلبية للأزمات العالمية: أدت صدمات الإمدادات العالمية، المتمثلة في تفشي كوفيد–19 وتداعيات الحرب الأوكرانية، إلى ارتفاع أسعار الوقود والأغذية والأسمدة في السودان بشكل صاروخي، بنسبة تزيد عن 400%، فيما نتج عن تراجع الدولة عن دعم المدخلات الأساسية للإنتاج الزراعي، مثل الديزل والأسمدة، قيام المزارعين السودانيين بتقليص زراعتهم بشكل كبير، ومن ثم تفاقم أزمة إنتاج الغذاء وتكبيل القدرة على تحمل التكاليف وسط أزمات الطاقة والغذاء والأزمات السياسية المتداخلة.

في ذلك السياق، تُظهر البيانات المتاحة كيف تراجعت حصص القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي في السودان في 2021؛ حيث أصبحت حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي للسودان نحو 6.36%؛ وذلك بتراجع من 20.16% في عام 2019، و27.85% في عام 2011. فيما تراجعت حصة قطاع الصناعة من الناتج المحلي الإجمالي من 38.1% في عام 2011، ونحو 37.64% في عام 2019، إلى 9.69% في عام 2021، وقد تحقق الأمر نفسه مع قطاع الخدمات الذي تقلصت حصته من 20.33% في عام 2011 و21% في عام 2019 إلى 7.3% في عام 2021.

3– تراجع الصادرات بمعدلات كبيرة: اتجه الاقتصاد السوداني مرة أخرى نحو الانهيار الاقتصادي على خلفية الأوضاع السياسية غير المستقرة؛ فقد تراجعت الصادرات بأكثر من 85% في يناير من العام الجاري 2023، وفقاً لبيانات البنك المركزي السوداني؛ حيث أدت التوترات المستمرة في الشارع خلال السنوات الأخيرة والتظاهرات المتكررة إلى التأثير السلبي على بعض المنافذ البحرية والبرية، وإلى الحصار الذي أفضى إلى تقييد صادرات السلع، كبذور السمسم والفول السوداني والقطن والصمغ العربي التي تجلب العملة الصعبة للدولة، والتي تشتد إليها الحاجة في ظل الظروف الاقتصادية المعقدة.

وبحسب بيانات البنك المركزي السوداني، فإن السودان قد صدَّر في يناير 2023 ما قيمته 43.5 مليون دولار فقط من السلع، بانخفاض حاد عن 293 مليون دولار في ديسمبر من العام الماضي، رغم كون ذلك الشهر هو ذروة موسم التصدير الزراعي في الدولة. جدير بالذكر أن تقلص الصادرات لم يكن وليد التوترات السياسية الأخيرة فحسب؛ فقد شهدت صادرات السودان من السلع تراجعاً كبيراً من 10.19 مليار دولار في عام 2011، إلى 4.28 مليار دولار في عام 2021.

4– انخفاض قيمة العملة السودانية: على مدار العام الماضي، انخفضت قيمة العملة السودانية مقابل الدولار من نحو 450 في شهر مايو من عام 2022، إلى 559 جنيهاً مقابل الدولار في 25 من أبريل الجاري؛ حيث استمرت قيمة العملة السودانية في الانخفاض من شهر مايو 2022 حتى ديسمبر من العام نفسه، إلا أن قيمة العملة قد شهدت استقراراً نسبياً خلال الأسابيع الأخيرة من عام 2023 عند 559 جنيهاً سودانياً مقابل الدولار الواحد.

5– ارتفاع تكلفة الخدمات الأساسية: على خلفية انخفاض قيمة العملة السودانية، شهدت أسعار البنزين والكهرباء ارتفاعاً قياسياً، فضلاً عن ارتفاع تكلفة تذكرة قبول المرضى في مرافق الرعاية الصحية الحكومية من 250 جنيهاً سودانياً إلى 4200 بين عشية وضحاها خلال شهر فبراير الماضي من العام الجاري؛ ليبلغ معدل التضخم أكثر من 60%، حتى بات ما يقرب من ربع السودانيين بالكاد يستطيعون إطعام أنفسهم، فيما يعيش الملايين في مخيمات اللاجئين. ولعل ارتفاع التكاليف لا يزال يخلق نوعاً من الاستياء المتزايد بشأن المصاعب الاقتصادية المعقدة، التي سبق أن أججت الثورة ضد نظام عمر البشير، بما في ذلك ندرة الخبز المدعوم على نحو متزايد وارتفاع أسعاره.

تداعيات واسعة

يشير الصراع الراهن في السودان إلى عدد من التداعيات السلبية والمحتملة على الاقتصاد السوداني، وهي التداعيات التي من شأنها أن تزيد من عمق الأزمة الاقتصادية في الدولة، ومن ثم تؤدي إلى مزيد من المعاناة لمواطنيها في حال استمرار الحرب، ويمكن استعراض أبرز تلك التداعيات فيما يأتي:

1– مخاطر خروج المستثمرين من الدولة: من المرجح أن تسفر حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن العالية المستوى، في حال استمرار الصراع على السلطة الذي نشب منذ منتصف أبريل الجاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عن تراجع ثقة المستثمرين في السودان؛ نظراً إلى تفاقم المخاطر التشغيلية للأعمال ووجودها تحت وطأة مناخ سياسي متقلب بالفعل، وهو الوضع الذي يُرجَّح أن يترتب عليه تراجع فرص الانتعاش الاقتصادي في الدولة، بما يؤثر سلباً على معنويات المستثمرين والمانحين الدوليين.

2– توقعات سلبية بشأن صادرات الذهب: في ظل استمرار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يحذر خبراء سودانيون من مخاطر امتداد الحرب إلى مناطق أخرى وإطالة أمدها، وهو الأمر الذي من المرجح – إذا لم ينجح وقف إطلاق النار – أن يتسبب في خسائر ضخمة لخزينة الدولة، خاصة في ظل تراجع صادراتها بفعل الحرب، وخصوصاً صادرات الذهب التي تشكل نحو 50% من إجمالي صادرات الدولة، وبلوغ معدل التضخم إلى أكثر من نحو 60%.

حيث أفقد خروج مطار الخرطوم من الخدمة، الخزينة السودانية نحو 5% من إجمالي الصادرات والواردات السودانية البالغة في مجملها 15 مليار دولار، وهي الصادرات التي تُقدَّر صادرات الذهب بها عادةً بنحو مليارَي دولار. ويذكر في هذا الصدد، أنه خلال العام الماضي، بلغت صادرات السودان من الذهب نحو 1.6 مليار دولار، وهو ما يمثل 44% من إجمالي صادرات الدولة التي بلغت 3.6 مليار دولار في ذلك العام، بحسب ما ذكره المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة مبارك عبد الرحمن أردول. بيد أن الصادرات الأخرى التي تُجرَى عبر ميناء بورتسودان ربما لا تواجه أزمة صادرات الذهب نفسها، الذي لا يُصدَّر إلا عبر الطيران، بحكم أن الحرب تدور حالياً في منطقة الخرطوم، وسط وجنوب العاصمة في مواقع القصر الرئاسي والقيادة العامة للجيش، ومطار الخرطوم الدولي.

3– انقطاع سلاسل الإمداد الداخلية: وقع الأثر الأكبر للقتال الأخير على المواطن السوداني؛ حيث دفع الانقطاع في سلاسل الإمداد الداخلية، كخدمات الكهرباء والطاقة والغذاء والصحة داخل العاصمة السودانية الخرطوم، نحو تضرر المواطن السوداني بالمقام الأول، في ظل عدم تمكن الموظف والعامل السوداني من مباشرة دوامه وعمله منذ اندلاع الحرب. ويذكر في هذا المضمار تدني الصادرات التقليدية، كالحلوى واللحوم والماشية والقطن، بصورة كبيرة خلال السنوات الثلاث الماضية؛ حيث لم تزد قيمتها عن 3 مليارات دولار في العام الواحد، مع زيادة نوعاً ما في صادرات الذهب، غير أنه في خضم الوضع الحالي الشديد التعقيد، تتجه التوقعات إلى القول باحتمالية توقف الصادرات تماماً، في حال تجدد القتال؛ ما سيدفع حينها نحو مزيد من تهريب السلع والمعادن الثمينة، ومن ثم مزيد من الانهيار الاقتصادي وهروب المستثمرين وتعمق معاناة الشعب السوداني بالتبعية.

4– احتمالات تضرر اقتصادات عدد من الدول المجاورة: يهدد استمرار الحرب في السودان عدداً من الدول المجاورة، كجنوب السودان التي تُصدِّر النفط عبر جارتها الشمالية؛ حيث كان لاندلاع القتال بين القوات المتحالفة مع الجيش الوطني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في الخرطوم عاصمة السودان، القدرة على تعطيل خط الأنابيب الوحيد الذي ينقل نفط جنوب السودان (المصدر الرئيسي للسودان من النقد الأجنبي) إلى البحر.

على جانب آخر، تشير التوقعات إلى أن استمرار الحرب قد يؤثر سلباً على التجارة بين أوغندا والسودان التي تقدر قيمتها بـ345 مليار شلن أوغندي. ويُرجَّح في الوقت ذاته فقدان جنوب السودان مصدر النقد الأجنبي من دول أفريقية أخرى، فيما يتوقع أن يتأثر اقتصاد أوغندا سلباً بالنزاع؛ نظراً إلى كون السودان أكبر سوق لتصدير الشاي والقهوة، فيما تعد جنوب السودان الشريك التجاري الرئيسي.

5– تداعيات الحرب على البنية التحتية: تسبَّب القتال في أضرار جسيمة للبنية التحتية الرئيسية في الخرطوم، كالمطار الدولي والمستشفيات والمدارس، فيما أجبر الصراع الدائر معظم الأنشطة الاقتصادية والأعمال الحكومية على التوقف عن إيواء المدنيين في منازلهم. ومن المرجح – إذا انحدر الصراع إلى حرب أهلية طويلة الأمد – أن يكون لتدمير البنية التحتية الاجتماعية والمادية عواقب اقتصادية دائمة على السودان.

6– مخاطر تمويل محتملة: من المتوقع أن يكون للصراع الدائر في السودان – الذي توقف مؤقتاً – آثار ائتمانية سلبية على البلدان المجاورة وبنوك التنمية المتعددة الأطراف (MDBs)، التي تواجه مخاطر تمويل داخل السودان والبلدان المجاورة. ووفق وكالة موديز إنفستورز سيرفيس Moody’s Investors Service في مذكرتها الأخيرة بشأن السودان، فإنه برغم صعوبة التنبؤ بمآلات الظروف السياسية على الأوضاع الاقتصادية في السودان، فإن من المحتمل أن يتطور إلى صراع طويل، سيكون من شأنه أن يؤثر سلباً على جودة أصول بنوك التنمية المتعددة الأطراف في السودان، والقروض المتعثرة بوجه عام، بما قد يعيق السيولة لدى الدولة.

كما يرجح أن يترتب على أي امتداد لتبعات الحرب إلى البلدان المجاورة، تدهور عام في البيئة الأمنية للمنطقة الأوسع، وهو ما من شأنه أن يثير مخاوف أوسع بشأن جودة الأصول لبنوك التنمية المتعددة الأطراف، مع تركيز أعلى على منح القروض لبلدان أخرى كتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا.

يذكر في هذا الصدد، بحسب موديز، أن بنوك التنمية المتعددة الأطراف الأكثر انكشافاً على السودان والدول المجاورة تشمل بنك التجارة والتنمية (TDB) وبنك التصدير والاستيراد الأفريقي (Afrexim)، اللذين يمتلكان 34% و31% من أصولهما المصنفة لأغراض التنمية، على التوالي، في المنطقة، فضلاً عن بنك التنمية الآسيوي الذي منح قروضاً بقيمة 931 مليون دولار في السودان، أي ما يعادل 14% من إجمالي الأصول المصنفة لأغراض التنمية التي كان يمتلكها في نهاية العام الماضي. ولعل 95% من ذلك الدعم المقدم من ذلك النوع من البنوك، يأتي عادة في شكل تسهيلات لتمويل التجارة، وهي التسهيلات التي كانت تستخدم في السابق لتمويل واردات الغذاء والوقود.

إجمالاً، رغم إعلان وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة، فإن ثمة مخاوف من تجدد القتال مرة أخرى بما يدفع نحو السيناريو المتشائم القائل بمزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والبنية التحتية، الذي ربما يدفع نحو مزيد من تهاوي قيمة العملة وتدهور الصادرات وخسارة السودان جانباً كبيراً من النقد الأجنبي، كما يوجه نحو تضرر المواطن السوداني بالمقام الأول، الذي عانى منذ نشوب الصراع من حرمان من الكهرباء والمياه، في ظل تضرر سلاسل الإمداد الداخلية، والعوائق المتزايدة أمام القدرة على مباشرة الأعمال.