توترات كبيرة أمنية وداخلية عصفت بدولة الاحتلال، بدءًا من اشتعال الاحتجاجات الداخلية وما رافقها من انشقاقات وانقسامات، وصلت إلى قوات الاحتياط وإلى الخدمة النظامية، وإلى كل مناحي الحياة ومختلف قطاعاتها الحيوية. أما على جبهة الصراع، فقد وصل التوتر إلى حافة الانفجار الكبير، وإلى التهديد علنًا بعودة سياسة الاغتيالات، ولكن هذه التوترات تراجعت بشكل محدود وبقيت أمرًا كامنًا، فالاحتجاجات تم احتواؤها إلى حين، بوقف التشريعات مؤقتًا حتى نهاية ابريل/ نيسان الجاري وعودة الكنيست من إجازتها في بداية مايو/ أيار القادم، مرهونة بمستوى التقدم في الحوارات الداخلية برعاية الرئيس هرتسوغ، ولا يبدو أن تقدمًا كبيرًا أحرز فيها.
وكانت تظاهرة اليمين بالأمس وخطاب لفين (وزير القضاء، والذي يتزعم خطة التشريعات) بمثابة استفزاز كبير ورسالة قوية بأنه لا تراجع عن خطة التشريعات، وهذا يتركنا أمام احتمال كبير بعودة الاحتجاجات أو تمديد تجميدها وإطالة عمر الحوارات، بهدف أن يتمكّن نتنياهو من الوصول إلى فرصته المناسبة بتفكيك معسكر المعارضة أو التأثير على زخمها الجماهيري بتأطيرهم واتهامهم باليسارية واتهام دوافعهم بالسياسية، لا سيما بعد أن نجح في أن يُعيد إليه وزير أمنه غالنت.
أما على الصعيد الأمني، فمن الواضح تمامًا أنه رغم الجعجعة التهديدية الكبيرة، سواء ضد المقاومة في قطاع غزة أو ضد حزب الله ردًا على إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان والصواريخ من القطاع، وردًا على تزايد عمليات المقاومة في الضفة التي اتهمت فيها إسرائيل مقاومة القطاع بالوقوف خلفها؛ فقد كانت تهديدات للردع والإرهاب بدون رصيد حقيقي، لأسباب كثيرة أهمها الخوف من حجم رد الفعل، وما تمتلكه المقاومة في القطاع وحزب الله في لبنان من قدرات عسكرية موجعة وستجبي ثمنًا كبيرًا من الاحتلال. بالإضافة لذلك، وهذا مهم جدا، ليس بإمكان دولة الاحتلال أن تشن عدوانًا دون إجماع داخلي، وهي تعيش في ذروة انقسامها، وفي ظل رئيس معارضة يتهم الوزير بن غفير بأنه مشعل حروب، الأمر الذي سيجعل جزءًا كبيرًا من الصهاينة ينظر إليها على أنها حرب غير اضطرارية، أي حرب زائدة دفع إليها جنون بن غفير وسموتريتش، وهو أمر يلقي بمسؤولية كبيرة على رئيس الوزراء نتنياهو، كما أن النظرة الدولية المتحفظة وغير المرتاحة على الأقل لوجود الفاشيين في الحكومة تفقد إسرائيل الشرعية الدولية التي تحتاجها لعدوانها، كذلك التوترات مع الرئيس بايدن كانت تجعل العدوان أمرًا بعيدًا عن الأجندة التنفيذية، لا سيما وأن كل عدوان يحتاج لضوء أخضر أمريكي.
ونفس الأمر يُقال عن التهديد بعودة سياسة الاغتيالات، وما التسريبات عن اجتماع الكابينت الأمني من قِبل المراسلين العسكريين سوى جزء من سياسة الردع والإرهاب وعلاقات عامة داخلية لصالح الحكومة، ومع ذلك من المهم الإشارة إلى عدم استبعاد اغتيال لبعض قادة المقاومة في الخارج، ولا سيما ساحة سوريا، فاغتيال شخصية قيادية في الساحات الخارجية - وسوريا على وجه التحديد - سيمثل صيدًا كبيرًا وإنجازًا كبيرًا لحكومة نتنياهو وبأقل ثمن، حيث نعتقد بأن إسرائيل تقدر بأن رد فعل الفصائل على مثل هذا الاغتيال سيكون محدودًا، زمانيًا ونوعيًا، ومن المُمكن احتواء رد الفعل خلال 48 ساعة.
ساحة سوريا من بين كل الساحات هي الساحة المفضلة للعدوان الإسرائيلي، فهي بمثابة كيس لكمات بدون رد فعل، وتمنحهم القدرة على استعراض العضلات وممارسة تهديداتهم وإرسال الرسائل التهديدية، البعيدة والقريبة، فالقصف والعدوان على سوريا - مستهدفًا منشآتها المدنية والعسكرية ومطاراتها - لا يكاد يتوقف، ولم تعد تتحفظ إسرائيل من إعلان مسؤوليتها كما في السابق، حيث كانت تخشى من إحراج الدولة السورية، لكنها الآن باتت أكثر جرأة ووقاحة، وإحجام سوريا عن رد الفعل هو أمر مستغرب جدًا ولا يُمكن قراءته سوى في سياق الخوف المُبالغ فيه من رد الفعل الإسرائيلي، ولا نعرف كيف لمن لا يوجد لديه ما يخسره أن يحجم عن رد الفعل أو التلويح بهِ، ويتحمل كل هذا العدوان مكتوف اليدين، سوى بإطلاق بعض المضادات الجوية.
إسرائيل دولة عنجهية مارقة لا تفهم سوى لغة القوة، ويشهد على ذلك الانسحاب المهين من جنوب لبنان تحت ضربات المقاومة والتسليم بواقع الترسانة الصاروخية لحزب الله وما يبنيه الحزب من مقومات القوه الهجومية، ويشهد القطاع على ذلك أيضًا بالانسحاب من المستوطنات والقبول بواقع المقاومة في القطاع التي قصفت تل أبيب مرارًا، لكن إسرائيل التي تضبط نفسها وترسل الوسطاء فيما يتعلق بساحات القطاع ولبنان تمارس كل عنجهيتها في سوريا والقدس و الضفة، وليس أمام سوريا لوقف العدوان الإسرائيلي سوى الدخول في معركة واحدة والتهديد بالرد عل كل عدوان؛ عندها ستحسب إسرائيل ألف حساب قبل أيّ عدوان، وستسلم مضطرة لبنية مقاومة في الساحة السورية يُمكن احتواؤها أو أنها ستضطر لخوض حرب كبيرة، وإن كان الخوف في سوريا من تداعيات كبيرة للرد الإسرائيلي على رد الفعل السوري؛ فإن ايدي إسرائيل مطوقة دوليًا في سوريا لأسباب كثيرة لسنا بمعرض تناولها هنا، كما أن سوريا تمتلك قدرات ومقومات تجعلها قادرة على أن تجبي الثمن من إسرائيل.
صحيحٌ أن حدة التوترات الأمنية تراجعت مع انتهاء شهر رمضان والأعياد اليهودية، لكن ثمة أمريْن؛ الأول: مسيرة الأعلام الاستفزازية التي ستجري في القدس منتصف مايو/ أيار القادم، والأمر الثاني: تراجع شعبية نتنياهو و"الليكود" بشكل كبير في استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز الاستطلاع، وهو أمر خطير جدًا بالنسبة لنتنياهو. وبحسب الاستطلاعات، لو أجريت الانتخابات اليوم، فإن حزب غانتس يتقدم على "الليكود" ويفقد بلوك نتنياهو القدرة على تشكيل الحكومة، حيث يتراجع معسكره قرابة الـ 10 مقاعد. نتائج الاستطلاعات تجعل غانتس على الأقل يرفض أيّ اقتراح بدخول الحكومة وتجعله مع المعارضة أكثر تمسكًا بالتصعيد، لكن نتنياهو - في حال فشلت خياراته الأخرى في التغلب على المعارضة ووقف تراجع مكانته في استطلاعات الرأي - قد يفكر بخيار التصعيد الأمني.