• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50
news-details
مقالات عربية

السودان.. أفغانستان القرن الأفريقي وشرق أفريقيا؟


إلى جانب الخصائص المحلية للصراع في السودان، لن يستغرق الوقت كثيراً حتى تبدأ الجوانب الإقليمية والدولية بالظهور، شأنها شأن الحروب السابقة التي مرّ بها هذا البلد وغيره من البلدان، وتأثرت بالخارج وتأثر الخارج بها.  السودان اليوم أشبه بأفغانستان عام 2021. من أية ناحية؟ في البداية على صعيد المفاجأة والإخفاق في التوقع. القوى الدولية وخصوصاً أميركا وأوروبا أصابتهم الدهشة من سرعة سقوط حكومة أشرف غني وإستيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان بعد عشرين عاماً من الإحتلال الأميركي. ودفعت دينامية الأحداث في أفغانستان الدول إلى إجلاء سريع لديبلوماسييها ورعاياها على جناح السرعة وتحت النار. المشهد عينه يتكرر في السودان. فوجىء الغرب بإنفجار الصراع بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد “قوات الدعم السريع” الفريق محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي” في الساعات الأولى من صباح 15 نيسان/أبريل الفائت.

وقعُ المفاجأة حمَلَ الدول، بما فيها أميركا على إجلاء ديبلوماسييها ورعاياها، في دليل على أن الأوضاع تمضي نحو مزيد من التأزم وأن العودة إلى العملية السياسية باتت مستحيلة في المدى المنظور. الفارق الوحيد مع أفغانستان أن الدول الأوروبية كانت سبّاقة هذه المرة إلى مباشرة عمليات الإجلاء، لأنهم تعلموا من الدرس الأفغاني أن لا ينتظروا أميركا. أتت المفاجأة السودانية برغم إنخراط الولايات المتحدة والأمم المتحدة وبريطانيا وممثلين لقوى إقليمية عبر الآليتين الثلاثية والرباعية في المفاوضات، التي أفضت إلى ما سمي بـ”الإتفاق الإطاري” الذي كان يُفترض أن يؤدي إلى حكومة مدنية إنتقالية وتراجع العسكريين خطوة إلى الوراء، إستعداداً للتحضير للإنتخابات في مرحلة لاحقة. المعني مباشرة بالعملية السياسية هو وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الذي ضغط من أجل الخروج من المأزق السوداني بواجهة مدنية للحكم العسكري.

هذه خطوة كانت ستُسهل المضي في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومؤسسات مالية أخرى، وتتيح تقديم مساعدات أميركية وأوروبية. ومعلوم أن الأزمات الإقتصادية إستفحلت بعد الإنقلاب الثاني الذي نفذه البرهان ودقلو معاً في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021. ومع أن التوترات بين البرهان ودقلو تصاعدت في الأشهر الأخيرة مع الإقتراب من نقطة الحسم لمسألة أثارت الكثير من الجدل، وهي المتعلقة بدمج “قوات الدعم السريع” بالجيش السوداني، لكن هل فعلاً أن أميركا لم تلحظ إستقدام الجنرالين المزيد من التعزيزات إلى الخرطوم والمناطق الحضرية الأخرى في إنتظار ساعة الصفر؟ ما يُثير الإستغراب أن واشنطن عادة ما تلجأ إلى إصدار تحذيرات لمواطنيها عندما تشتم أن دولة ما مقبلة على أوقات عصيبة.

والإطمئنان الأميركي ربما هو الذي جعل السودانيين العاديين يطمئنون أيضاً! إنفجر السودان في مرحلة إنقلاب الشرق الأوسط إلى واقع جيوسياسي جديد، يتضمن رعاية صينية لطي صفحات الخصومة بين السعودية وإيران، وما تلاه من إنفتاح لدول الخليج على سوريا، ومن سعي إلى علاقات جديدة بين تركيا وكلٍ من سوريا ومصر. يقود هذا إلى طرح سؤال لا مفر منه، هل تزامنت الحرب السودانية صدفة مع مناخات التطبيع الجارية في المنطقة؟  إن إنفجار الحرب السودانية شكل إخفاقاً للسياسة الأميركية التي قامت على ممالأة الجنرالات منذ إنقلابهم الأول في 2019، عندما أوشك المدنيون إنهاء الحكم العسكري بعد أشهر من الإنتفاضة الشعبية التي أطاحت نظام عمر البشير. وحتى بعد الإنقلاب الثاني في 2021 لم تتحرك أميركا كما ينبغي. ماذا يخفي هذا الموقف الأميركي؟ هل المنظور الدولي للأزمة هو ما جعل أميركا راغبة في إستمالة الجنرالات لمنعهم من توطيد علاقاتهم بروسيا والصين؟ لا شك أن هذا الدافع، قد تعزّز بعد إندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، مع أنه يبقى إحتمالاً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أخذت واشنطن في الإعتبار الموقف الإسرائيلي الذي نسج علاقات مع الجنرالات الذين وقّعوا إتفاقاً في العام 2020 من أجل إقامة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل. وبطبيعة الحال لا تريد الإدارة الأميركية إتخاذ موقف يؤثر على عملية التطبيع.

بعد 15 نيسان/أبريل وإنزلاق السودان إلى الفوضى، من المفترض أن كل الحسابات الأميركية قد تغيّرت، كما تغيّرت بالنسبة إلى أفغانستان بعد سقوطها في أيدي حركة طالبان. إنسحبت إدارة الرئيس جو بايدن من كابول وفرضت حصاراً إقتصادياً على أفغانستان. فأي مسلك يمكن أن تسلكه أميركا اليوم حيال السودان؟ وكيف ستتصرف عقب الإنتهاء من إجلاء رعاياها بموجب إتفاقات هشة لوقف النار؟ الإتصالات التي لا يزال يجريها بلينكن مع البرهان ودقلو، توحي وكأن أميركا لا تريد تكرار التجربة الأفغانية. لكن هل هي مستعدة للتورط في دعم طرف ضد طرف آخر؟ وماذا لو فاض الصراع إلى خارج الحدود السودانية، والمثلث السوداني-التشادي-الليبي قابل للإشتعال بجهادييه وحركاته المتمردة الأخرى. إن إشتعال إقليم دارفور بالتزامن مع معارك الخرطوم، كان نذيراً بأن المنطقة مقبلة على صراع قبلي جديد بحمولة سياسية وإمتدادات خارجية. والجهاديون الذي ينشطون في دول الساحل قد يجدون في الفوضى السودانية فرصة للتمدد في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي. وعندما خرج رجال البشير من السجن، فإن هواجس العودة إلى التسعينيات تستيقظ فجأة، فهؤلاء أنفسهم سبق أن وفّروا الحماية لزعيم “القاعدة” أسامة بن لادن.

القيادة الأفريقية في القوات الأميركية “أفريكوم” التي تشن ضربات ضد حركة “الشباب” الإسلامية الصومالية المبايعة لتنظيم “القاعدة”، قد تجد نفسها قريباً مضطرة للتعامل مع جبهة جهادية جديدة في شرق أفريقيا. وليست أثيوبيا التي بالكاد أقفلت حربها الأهلية في إقليم تيغراي، بمنأى عن تسارع الأحداث في السودان بينما عينها على إستكمال سد النهضة على النيل الأزرق، وعلى الأراضي الزراعية في منطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين. ومصر التي تعتبر العمق الإستراتيجي للسودان، وتفاعلت في الماضي مع أحداثه، ستكون معنية ربما أكثر من غيرها في منع الإنعكاسات السلبية للحرب عليها، في وقت لم تقفل فيه بعد الجبهة الليبية غرباً، ولا “ولاية سيناء” الداعشية شرقاً، وهي في وضع إقتصادي داخلي صعب أصلاً، فكيف ستتعامل مصر مع موجات اللاجئين المتدفقين نحو حدودها من جهة السودان؟ لا يقتصر الأمر على مصر، فكل الدول المطلة على البحر الأحمر، مضطرة لإعادة حساباتها في كيفية التعامل مع الأزمة السودانية الجديدة والأخطار التي يمكن أن تجرها على كامل المنطقة.

بوارج الدول التي رست في ميناء بورتسودان لإجلاء رعاياها، كلها تحمل ما يكفي من القلق لجعلها تتوقع الأسوأ. وما يقلق أميركا هي أن ترى البحرية الصينية ترسو في بورتسودان، حتى ولو من أجل إجلاء الرعايا الصينيين. عرض صيني للقوة لا يُسر واشنطن خصوصاً في هذه الظروف. والمسؤولون ووسائل الإعلام الأميركية يقلبون كل حجر للعثور على رابط بين مجموعة “فاغنر” الأمنية الروسية وجبال الذهب في دارفور. الغريب كيف حجب إقليم دارفور معركة باخموت من عناوين شبكات التلفزة الأميركية، إلا ما خلا من تسليط الضوء على إعلان بايدن ترشحه لولاية ثانية، وإستفحال المشاكل القانونية في وجه منافسه الأكثر إحتمالاً، الرئيس السابق دونالد ترامب. إنفجر السودان في مرحلة إنقلاب الشرق الأوسط إلى واقع جيوسياسي جديد، يتضمن رعاية صينية لطي صفحات الخصومة بين السعودية وإيران، وما تلاه من إنفتاح لدول الخليج العربية على سوريا، ومن سعي إلى علاقات جديدة بين تركيا وكلٍ من سوريا ومصر. يقود هذا إلى طرح سؤال لا مفر منه، هل تزامنت الحرب السودانية صدفة مع مناخات التطبيع الجارية في المنطقة، أم يجب التمحيص كثيراً في ربط الأحداث ببعضها البعض، والإفتراض بأن للحريق السوداني وظيفة يؤديها خارج الحدود بقدر ما هو فاعل داخلها؟ ولمصلحة مَن خلق أفغانستان جديدة في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا؟ في هذه المرحلة سريعة التقلب، تغلب التساؤلات على الأجوبة اليقينية.