مع اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أظهرت إسرائيل اهتماماً فائقاً بمجريات الصراع بين الجانبين، إلى الحد الذي تحدثت فيه تقارير صحفية إسرائيلية عن عرض تل أبيب استعدادها للتوسط بين قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وخصمه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). ويرجع اهتمام تل أبيب بالأزمة في السودان إلى اعتبارات عدة، منها أمنية وسياسية.
وقد غلب الطابع السري على العلاقات بين البلدين خلال فترات طويلة، إلى أن اتخذت شكلاً علنياً بعد انضمام الخرطوم إلى الاتفاقات الإبراهيمية في عام 2020. وقد أنتجت هذه العلاقات على الدوام فرصاً لإسرائيل، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول المحددات التي تحكم تلك العلاقات، والمآلات المحتملة لها على المدى البعيد؟
علاقات متأرجحة:
إن القراءة التفصيلية لتاريخ الاتصالات الإسرائيلية السودانية، منذ خمسينيات القرن الماضي، تُظهر مدى اتسامها بعدم الثبات، والتقلبات الحادة من التقارب إلى العداء، والعكس، وفقاً للأوضاع الداخلية السودانية وكذلك التطورات الإقليمية.
فقبل استقلال السودان في عام 1956، انقسمت النخب السودانية حول قضية الوحدة مع مصر أو الاستقلال عنها، ومال القوميون السودانيون نحو فتح قناة اتصال مع إسرائيل تحت قناعة راسخة بأن انشغال مصر بقضاياها الأمنية في مواجهة إسرائيل سيُقلل حتماً من قدرتها على دعم التيارات السودانية المؤيدة للوحدة، ومن ثم يمكن عبر التفاهم مع تل أبيب تحقيق استقلال السودان. وعلى الجانب الآخر، كانت إسرائيل بدورها في حاجة إلى تشتيت الجهود المصرية وخلق مشكلات أمنية لها على حدود السودان، لصرفها عن التركيز على معالجة الصراع مع إسرائيل بشكل حصري. وعلى الرغم من أن حقبة الستينيات قد شهدت ميل الحكومات السودانية نحو التقارب مع مصر، فإن الاتصالات بين إسرائيل وعدد من القادة السودانيين ذوي التوجهات المناوئة للقاهرة ثقافياً وسياسياً لم تنقطع، فقد ظلت هذه القيادات تخشى إمكانية العودة لفكرة الوحدة بين السودان ومصر خاصة مع صعود فكرة الوحدة العربية بزعامة القاهرة في هذه الفترة.
ويمكن القول إن الإطار الحاكم للعلاقات بين السودان وإسرائيل على مدار تاريخها قد تحدد بالعوامل التالية:
1- غلبة الرؤية التكتيكية من الجانبين لهذه العلاقات على الرؤية الاستراتيجية، فكلاهما يسعى إلى الاستفادة من الآخر بشكل عابر لتحقيق أهداف آنية، دون البحث عن وضع أُسس ثابته لتطوير العلاقات الثنائية.
2- عدم التناسب في جني الفوائد، ففي حين تمكنت إسرائيل من تحقيق بعض أهدافها من وراء العلاقات والاتصالات مع الخرطوم سواءً من خلال الحكومات أو التيارات السياسية السودانية وفي فترات تاريخية مختلفة، فقد عانى السودان من أزمات عنيفة جراء علاقاته مع إسرائيل، كان أكثرها تكلفة هو انفصال جنوب السودان في عام 2011، حيث كانت تل أبيب أحد أكبر الداعمين لتمرد الجنوب على الحكومة السودانية منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى وقوع الانفصال.
3- التأثر الشديد للعلاقات أو الاتصالات بين الجانبين بالأزمات الداخلية في السودان من جانب، والتطورات الإقليمية من جانب آخر، وهو ما يجعلها علاقات غير مستقرة في أغلب الأوقات.
رؤية تل أبيب:
تشير التقارير المنشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ 15 إبريل 2023، قد فاجأ الأجهزة المعنية في تل أبيب. فعلى الرغم من وجود علاقات قوية بين إسرائيل وكل من البرهان وحميدتي، لم يتوقع الإسرائيليون، سواءً في أجهزة الاستخبارات أو وزارة الخارجية أو حتى مكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الأحداث الجارية في السودان. واعتبرت مقالات الرأي والتحليلات والتقارير الإخبارية في الصحف الإسرائيلية ذلك نوعاً من الفشل السياسي والاستخباراتي، وإن أكدت ضرورة الابتعاد عن الانخراط في الأزمة السودانية من جانب تل أبيب، حتى تتضح مآلات الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ومع ظهور التقرير الذي نشره موقع "ولا" الإخباري الإسرائيلي عن تقديم نتنياهو عرضاً للتوسط بين البرهان وحميدتي لإنهاء القتال بين قواتهما، دارت التساؤلات حول مدى صحة هذه الأنباء، ومدى إمكانية اضطلاع قيام تل أبيب بهذا الدور فعلياً.
فمن ناحية، أشار تقرير موقع "ولا" إلى مصادر في وزارة الخارجية الإسرائيلية دون أن يذكر أسماء بعينها، وهو ما قلل من مصداقية التقرير، كما كانت التصريحات الرسمية الإسرائيلية المتمثلة في البيان الصادر عن وزارة الخارجية في 17 إبريل الماضي تتسم بلغة حيادية، تدعو إلى وقف القتال والعودة لاستكمال الحوار السياسي والمفاوضات بين أطراف الأزمة السودانية كافة.
ومن ناحية أخرى، لا يبدو عرض الوساطة الإسرائيلية منطقياً من حيث إمكانية تحقيقه على أرض الواقع، فحتى مع التسليم بوجود علاقات بين البرهان وحميدتي من ناحية، وقيادات إسرائيلية رسمية علنية أو سرية من جهة أخرى، لا يبدو أن هناك فرصاً حقيقية لنجاح أي عروض وساطة إسرائيلية للأسباب التالية:
1- إدراك طرفي الأزمة السودانية أن دخول إسرائيل كوسيط لإنهاء الصراع بينهما يمكن أن يضر بهما معاً، خاصة مع حشد التيارات الإسلامية وأنصار الأيديولوجية العربية الوحدوية، الشارع السوداني ضد سعي نظام حكم البرهان ومعه حميدتي لإقامة علاقات مع تل أبيب.
2- امتلاك إسرائيل لعلاقات جيدة مع طرفي الأزمة السودانية لا يمكن عده عاملاً كافياً في حد ذاته لإنجاح الوساطة، فقد فشلت جهود إسرائيلية سابقة في التوسط بين روسيا وأوكرانيا بالرغم من أن تل أبيب تحظى بعلاقات جيدة مع الطرفين.
3- سعي الولايات المتحدة الأمريكية كي تكون الوسيط الرئيسي بين البرهان وحميدتي، وربما لن يكون في صالح واشنطن ظهور تل أبيب في الصورة في حل الصراع السوداني، ليس فقط خوفاً من دور صيني أو روسي محتمل؛ بل أيضاً لأن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد منح حكومة نتنياهو- المشتبكة في صراع داخلي حاد مع معارضيها - الفرصة لتقوية مكانتها في إسرائيل، ومن ثم تعزيز قدرتها على تمرير خطة الإصلاحات القضائية التي تسببت في أزمة داخلية إسرائيلية، كما تسببت أيضاً في إحراج واشنطن التي
ترى في هذه الخطة هزيمة للقيم الليبرالية والديمقراطية التي تدافع عنها، خاصة أن ذلك يأتي من أهم حلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
4- على الرغم من حرص إسرائيل على عدم هز الثقة في اتفاقيات السلام الإبراهيمية، ورغبتها في تهدئة الأوضاع، حتى لا ينسحب السودان من هذه الاتفاقيات؛ تدرك تل أبيب أن الخرطوم ربما كانت وستظل الحلقة الضعيفة في سلسلة السلام الإبراهيمي، بسبب معاناتها من عدم الاستقرار السياسي والأمني، وأن خروجها من تلك الاتفاقيات أمر وارد مستقبلاً مهما بذلت تل أبيب من جهد للإبقاء عليها.
تحديات إسرائيلية:
على الرغم من يقين إسرائيل بأن تعقيدات الأزمة السودانية الراهنة تطرح فرصاً وتحديات للمصالح الإسرائيلية، فإنها تدرك أن التحديات يمكن أن تفوق الفرص على أكثر من صعيد، كالتالي:
1- ليس من السهل في المرحلة الحالية من الصراع السوداني حسم الاختيار لدعم أحد طرفيه على حساب الآخر، وبالتالي ستُبقي إسرائيل على حيادها المُعلن بين الطرفين حتى يتضح لمن ستكون الغلبة في النهاية.
2- خشية إسرائيل من انهيار الدولة السودانية وانتشار الفوضى فيها، مما يهدد بقاء السودان في الاتفاقيات الإبراهيمية، كما يُنذر ذلك بتحديات أمنية جمة على رأسها استغلال أعدائها (إيران تحديداً) ومنافسيها (تركيا) وأطراف دولية يمكن أن تبتزها (روسيا) للتأثير في المصالح الأمنية والسياسية الإسرائيلية، حيث تمتلك هذه القوى وجوداً متفاوت القوة في السودان ودول القرن الإفريقي.
3- احتمال تزايد المخاطر على أمن القوافل التجارية الإسرائيلية التي تمر عبر البحر الأحمر، خاصة مع وجود اتهامات سابقة لإيران باستغلال بعض المناطق غير المؤمنة في بحر العرب لشن هجمات على السفن التجارية الإسرائيلية.
4- تشير الخبرات الإسرائيلية السابقة إلى إمكانية استخدام مناطق الفوضى عامة في نقل الأسلحة إلى خصوم تل أبيب. ففي الدولة السورية، تمكنت إيران من نقل السلاح إلى حليفها حزب الله في لبنان، وفي اليمن تهدد مليشيا الحوثيين الموالية لطهران أيضاً الملاحة البحرية في البحر الأحمر، كما أن السودان كان مأوى لبعض الجماعات الإرهابية خلال فترات معينة مثل تنظيم القاعدة، الذي كانت توجد شبهات حول دعمه لبعض المنظمات الفلسطينية التي تقاتل إسرائيل (حماس والجهاد). وبالتالي فإن وقوع السودان في الفوضى يمكن أن يمنح الجماعات المناهضة لإسرائيل الفرصة لتوفير ملجأ آمن لمقاتليها، فضلاً عن تسهيل مهمتها في تهريب السلاح والأفراد إلى مناطق قريبة من الحدود الإسرائيلية سواءً البرية أو البحرية.
الخلاصة أنه ربما سيكون في صالح إسرائيل أن تنسق بقوة مع الولايات المتحدة وأن تستغل علاقاتها الجيدة بكل من البرهان وحميدتي للدفع في طريق استعادة الهدوء في السودان، وصولاً إلى تسليم السلطة للتيارات المدنية، خاصة أن غالبية هذه التيارات لم تُظهر رفضاً قاطعاً لإقامة علاقات مع تل أبيب. وفي حال انتقال السلطة للمدنيين في السودان، تتوقع إسرائيل أن يركز النظام الحاكم جهوده على معالجة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في الداخل، وربما يسعى إلى تعزيز علاقاته مع تل أبيب إذا ما وجد أن ذلك سيفتح له الأبواب في واشنطن والعواصم الأوروبية. أما إذا تدهورت الأمور وفشلت محاولات المصالحة بين الفرقاء السودانيين، فإن إسرائيل ستكون جاهزة بالسيناريو البديل؛ وهو انتقاء حلفاء من بين المتصارعين، يمكن أن يقودوا دويلات قد تنشأ على أنقاض الدولة السودانية الحالية، وهو ما سبق أن فعلته تل أبيب عندما عززت علاقتها بحركة تحرير السودان وساعدتها على انفصال الجنوب في عام 2011، لتصبح جمهورية جنوب السودان من بعدها واحدة من أقوى حلفاء إسرائيل في القارة الإفريقية.