• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42

أعلنت اليابان في مطلع شهر أبريل من عام 2023 عن مبادرة أمنية جديدة حملت اسم “مساعدات الأمن الرسمية OSA”، وتستهدف من خلالها تقديم مساعدات عسكرية عينية وغير عينية لبعض الدول التي تتشارك معها العقلية والتوجهات تجاه النظام الدولي. وتأتي هذه المبادرة عقب سلسلة من التغيرات التي شهدتها استراتيجية الدفاع اليابانية العامة خلال عام 2022؛ ففي ديسمبر 2022، أصدرت الحكومة اليابانية استراتيجية جديدة للأمن القومي، واستراتيجية الدفاع الوطني، وبرنامج تعزيز الدفاع، وجميعها برامج عززت الإنفاق الياباني على الجوانب الدفاعية، وحوَّلتها من دولة محايدة أمنياً، وتعتمد بصورة كبيرة على الولايات المتحدة لتأمين احتياجاتها الأمنية، إلى دولة لا تكتفي ببناء قدراتها العسكرية، بل تعرض تقديم يد العون للدول الصديقة؛ لمساعدتها على بناء قدراتها العسكرية في وقت يشهد فيه النظام الدولي العديد من التغيرات.

ملامح المبادرة

إعلان اليابان عن مبادرة خارجية لتقديم التمويل والمساعدات اللازمة لتعزيز القدرات العسكرية للدول الصديقة، يؤكد التحول الكبير في السياسة الخارجية اليابانية، وخروجها عن الأعراف والقواعد الداخلية التي التزمت بها في علاقاتها الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة في حظر تقديم المعونات والمساعدات الدولية بما يخدم أغراضاً عسكرية بعينها. ويمكن التعرف على أهم ملامح ومكونات هذه المبادرة من خلال الآتي:

1ارتباط المبادرة بوثائق السياسات الأمنية اليابانية: تضمنت وثائق السياسات الأمنية اليابانية – وهي استراتيجية الأمن القومي، واستراتيجية الدفاع الوطني، وبرنامج تعزيز الدفاع – التي تم تحديثها في ديسمبر من عام 2022، بعض الفقرات التي أوضحت وجود خطط يابانية لإنشاء برنامج جديد، يتم من خلاله تعزيز القدرات العسكرية للبلدان الشريكة والصديقة لليابان، كما تم تخصيص ما يزيد عن 15 مليون دولار أمريكي من مخصصات ميزانية الدفاع اليابانية الجديدة لدعم وتمويل هذه المبادرة.

2تأكيد التعاون مع الدول الصديقة: تعيد المبادرة تأكيد مفهوم الدول الصديقة، وضرورة تعزيز التعاون بين طوكيو وهذه الدول؛ فقد كشف أمين مجلس الوزراء الياباني المتحدث باسم الحكومة اليابانية “هيروكازو ماتسونو”، خلال مؤتمر صحفي في 5 أبريل 2023، عن تبني اليابان مبادرة أمنية جديد تعتزم من خلالها تقديم مساعدة مالية إلى البلدان الصديقة؛ لمساعدتها على تعزيز قدراتها الدفاعية. وستتم إدارة المبادرة الأمنية الجديدة في الخارج بشكل منفصل عن برنامج المساعدات الإنمائية الخارجية (ODA) الذي موَّل لعقود مشاريع تدشين الطرق والسدود والبنى التحتية بالعديد من الدول المتلقية للدعم الياباني.

3طرح مجموعة من الشروط لتلقي المساعدات العسكرية: وضع موقع وزارة الخارجية اليابانية، الذي يتضمن الإعلان الرسمي عن المبادرة، ثلاثة شروط أساسية يجب أن تتمتع بها الدول حتى تتلقى المساعدات العسكرية اليابانية، في إطار المبادرة الأمنية اليابانية الجديدة. وتمثل البند الأول في كفالة اليابان تقديم المساعدات الأمنية لتدعيم الأنشطة الرامية إلى كفالة السلام والاستقرار والأمن على أساس سيادة القانون؛ وذلك على غرار أنشطة الرصد والمراقبة في المياه الإقليمية والمجال الجوي، ومكافحة الإرهاب، ومكافحة القرصنة، وما إلى ذلك.

بينما تمثل البند الثاني في الأنشطة الإنسانية؛ حيث ستمول الحكومة اليابانية الأنشطة الأمنية المستجيبة للكوارث، بجانب أنشطة البحث والإنقاذ، والرعاية الطبية، ونقل سلع الإغاثة، وما إلى ذلك. أخيراً، تمثل البند الثالث والأخير من الأنشطة التي ستعمل اليابان على تمويلها في الخارج، في أنشطة التعاون الدولي من أجل السلام، بما في ذلك رفع قدرات الأفراد العسكريين الأجانب المشاركين في عمليات حفظ السلام.

وبشكل عام ستوافق اليابان على تمويل طلبات الدفاع التي توفر الدول المتلقية لهذه المساعدات بيانات كافية تؤكد حاجة الدول إلى هذه المساعدات، والاستخدامات والوسائل التي ستستخدمها بها، بما لا يتنافى مع قوانين الأمم المتحدة، مع توفير ضمانات للحكومة في طوكيو تمكنها من متابعة وتقييم الآثار المترتبة على هذه المساعدات.

4أبرز المرشحين لتلقي مساعدات عسكرية من اليابان: تعد الدول النامية وحدها فقط مؤهلة لتلقي المساعدات الأمنية تحت إطار هذه المبادرة، ويتوقع أن تحتل الدول القائمة في شرق آسيا قائمة الدول المستحقة والمتلقية لهذه المساعدات. وترشح العديد من التقارير كلاً من الفلبين وماليزيا وبنجلاديش وجزيرة فيجي؛ فقد قامت وزارة الخارجية اليابانية بالفعل بفتح دعوة لتلقي طلبات الحصول على المساعدات الأمنية في هذه الدول، كما بدأت في عقد دراسات جدوى للمكاسب المرجوة من تقديم مثل هذه المساعدات بهذه الدول على وجه التحديد. وقد ذكرت صحيفة “يوميوري” وموقع “نيكاي آسيا”، أن اليابان تدرس توفير رادارات للفلبين؛ لمساعدتها في مراقبة النشاط الصيني المتصاعد في منطقة بحر الصين الجنوبي.

قراءة عامة

على الرغم من بروز العديد من التحولات في تعاطي اليابان مع الملف الأمني والعسكري خلال عام 2022 – وهو الأمر الذي دفعته الحرب الروسية في أوكرانيا – فإن القيادة السياسية اليابانية قد أظهرت تغييراً كبيراً في مواقفها تجاه مسألة الدفاع خلال مرحلة تسبق بكثير عام 2022. ويمكن إعادة هذا التحول إلى عدد من المتغيرات والمحركات:

1سياسات رئيس الوزراء الياباني السابق “شينزو آبي”: تُمثِّل رؤية اليابان العسكرية والأمنية الاستراتيجية الجديدة تتويجاً لتحوُّل طويل الأمد بدأ في عهد رئيس الوزراء السابق “شينزو آبي”، الذي اغتيل في يوليو من عام 2022. وخلال فترة قيادة “آبي” للبلاد، التي استمرت منذ عودته إلى السلطة في ديسمبر 2012 حتى استقالته في سبتمبر 2022، قامت طوكيو بتجديد عقيدتها العسكرية وزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير. أنشأ “آبي” أيضاً مجلس الأمن القومي، والأمانة العامة للأمن القومي لتقديم الدعم الفني والتقني للمجلس، وتبسيط عمليات شراء الأسلحة العسكرية والمعدات من الخارج؛ وذلك تحت الإشراف المباشر لمجلس الوزراء الياباني. وأخيراً وليس آخراً، سعى “آبي” إلى تعديل دستور اليابان. وعلى الرغم من فشله في تحقيق هذا الأمر، فإنه أعاد الحديث عن ضرورة قيام اليابان بأدوارها الدفاعية بصورة ذاتية، دون الحاجة إلى الاعتماد بصورة كلية على الولايات المتحدة الأمريكية.

2التحولات المتعددة على الساحتين الدولية والإقليمية: سعت الإدارات اليابانية المتعاقبة إلى انتهاج سياسات مخالف وأكثر مبادرةً فيما يتعلق باستراتيجية الأمن والدفاع منذ عقود، إلا أن جميع هذه المحاولات قد قوبلت برفض كبير من قِبَل الرأي العام الياباني؛ فعلى سبيل المثال، فإنه في عام 2003، عندما أرسلت إدارة رئيس الوزراء “كويزومي جونيتشيرو” قوات الدفاع الذاتي للمشاركة في الغزو الأمريكي للعراق، عارض هذه الخطوة ما يزيد عن نصف المواطنين اليابانيين.

وفي عام 2015، عندما أقرَّت إدارة رئيس الوزراء “آبي شينزو” تشريعاً للسماح لليابان بالمشاركة بصورة أكبر في التحرُّكات الدولية التي تتم تحت إطار الأمن الجماعي؛ خرج عشرات الآلاف من المواطنين للاعتراض على هذا التشريع خارج مبنى البرلمان الياباني. وساهم السياق الدولي والإقليمي الحالي، المتمثل في تصاعد حالة الاستقطاب السياسي والمنافسة فيما بين الولايات المتحدة والصين، وتدشين روسيا عملية عسكرية موسعة في أوكرانيا، ناهيك عن زيادة كوريا الجنوبية من تجاربها العسكرية النووية وإطلاقها الكثير من الصواريخ بالقرب من سواحل اليابان، وتهديد بكين بتدريباتها العسكرية بمضيق تايوان الأراضي اليابانية، في إحداث تحوُّلات كبيرة في توجهات الرأي العام الياباني، واقتناعه بأن اليابان يجب أن تتبنى سياسات دفاعية مبادِرة للذود عن أراضيها، دون اقتصار اعتمادها بصورة كلية على المظلة الدفاعية الأمريكية.

3انعكاسات التنافس الحاد مع بكين: يمكن قراءة مبادرة الأمنية الجديدة لليابان في ضوء التنافس الحاد المتصاعد مع الصين؛ إذ تدرك طوكيو أن مثل هذه المبادرات تساعدها في تعزيز حضورها الإقليمي، وتطوير علاقاتها بدول الجوار بهدف قطع الطريق أمام بكين، ومزاحمتها في مناطق تحركاتها. ويدلل على ذلك أن أغلب الدول المرشحة للحصول على المساعدات اليابانية تقع في شرق آسيا؛ حيث يبرز في هذا الإطار بعض الدول مثل الفلبين وماليزيا وبنجلاديش وجزيرة فيجي.

4سعي اليابان إلى لعب دور إقليمي وعالمي موسع: في 20 مارس من عام 2023، ألقى رئيس الوزراء الياباني “كيشيدا فوميو”، خطاباً سياسياً بعنوان “مستقبل المحيطين الهندي والهادئ – خطة اليابان الجديدة التي تكون فيها منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومنفتحة”؛ وذلك خلال زيارته إلى الهند. وأكد في هذا الخطاب أن النظام الدولي يشهد العديد من التغيرات التي تؤثر على حالة توازن القوى، وهو الأمر الذي يجب التعاطي معه بالأدوات المشروعة والمناسبة. ومن هنا، فإن اليابان تتبنى هذه المبادرة التي تسعى من خلالها إلى الحفاظ على التعاون فيما بين الدول بعضها وبعض.

وقد تعهَّدت اليابان بتقديم 75 مليار دولار للدول القائمة في منطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادئ، بحلول عام 2030، في صورة استثمارات أجنبية وقروض ميسرة، ومساعدات ومنح إنمائية للدول والحكومات، كما شددت على ضرورة زيادة التعاون والتواصل فيما بين الدول وتعزيز حرية الملاحة، مع التركيز على زيادة الدفاع البحري والأمن بين الدول الصديقة لليابان، وأكدت طوكيو بدورها أيضاً وجود خطط لمشاركتها في العديد من المناورات البحرية مع الهند والولايات المتحدة، ودول مجموعة “الآسيان” وجزر المحيط الهادئ.

ختاماً، فإنه بالنظر إلى المبادرة، يمكن القول إنها خطوة أولية تسعى من خلالها اليابان إلى اختبار قدراتها على تزويد حلفائها بمساعدات دفاعية، ناهيك عن تجربتها انعكاس مثل هذه المبادرات على السلوك الصيني، التي نددت على الفور بدفع الولايات المتحدة واليابان، منطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادئ إلى حالة من الصراع والتنافس بصورة غير مسبوقة. ويُتوقَّع أن تعلن اليابان عن المزيد من الشراكات والبرامج الدفاعية والإنمائية مع عدد آخر من دول العالم، مع عدم اقتصار الأمر على دول الجوار الإقليمي والآسيوي، لتدفع بقوتها الصلبة والناعمة إلى أعلى مستوياتها عقب عقود طويلة من الغياب عن لعب دور فعال في الساحة الدولية.