• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
قراءات

دلالات المبادرة الأفريقية لتسوية الحرب الأوكرانية


تُعَد المبادرة الأفريقية المتعددة الأطراف لتسوية الحرب الروسية–الأوكرانية التي تم تبنيها في منتصف مايو الجاري بمنزلة أحد المساعي الخارجية لبلورة وساطة بين طرفَي الحرب، كما تمثل بادرة هي الأولى على المستوى الأفريقي منذ بدء الحرب في أواخر فبراير من العام الماضي. وتعكس هذه المبادرة تحركاً مشتركاً قائماً على التنسيق من قِبل ست دول أفريقية منتمية إلى أقاليم أفريقية فرعية؛ وذلك بعيداً عن مظلة الاتحاد الأفريقي بصفتها مؤسسة قارية جامعة، ومن ثم فهي تعكس نوعاً من الفكر والرؤية الأفريقية البينية لبلورة تسوية سلمية للأوضاع المتصاعدة بين طرفي الحرب، ومحاولة الدول الأفريقية إيجاد حلول للحرب التي كان لها انعكاسات اقتصادية وسياسية على الدول الأفريقية، ومن ثم بدت المبادرة محاولةً من الدول الأفريقية لتخفيف الضغوط التي أنتجتها الحرب عليها.

سياقات حاكمة

تأتي المبادرة الأفريقية في ضوء جملة من السياقات الرئيسية الحاكمة، وتتمثل أبرز عناصرها فيما يلي:

1. تعدُّد محاولات الوساطة من أطراف غير غربية: تعد هذه المبادرة الأفريقية الأحدث في سلسلة المساعي الخارجية العديدة للوساطة، وإقامة محادثات السلام بين طرفي الحرب، وهي المبادرة التي سبقها وجود العديد من المحاولات الأخرى من قِبل أطراف عدة غير غربية؛ حيث تبلور أولها في مبادرة تبنتها المكسيك في سبتمبر من العام الماضي، واقترحت من خلالها تشكيل لجنة وساطة تضم رئيس وزراء الهند، ورئيس الفاتيكان “البابا فرانسيس”، والأمين العام للأمم المتحدة، وأعقب ذلك تقديم البرازيل مقترحاً لإنشاء مجموعة اتصال من الدول غير المشاركة في الحرب للتوسط في السلام في أبريل من العام الجاري. وعلى الرغم من تعدد محاولات التسوية السلمية السالفة الذكر، فإن جميعاً لم تحصل على موافقة رسمية من الأمم المتحدة، ولم يحدث أي تحول ملموس في الموقف على الأرض.

2. تبلور تحركات صينية متزامنة لتسوية الحرب: تجسد ذلك فيقيام الممثل الصيني الخاص للشؤون الأوراسية والسفير الصيني السابق لدى موسكو “لي هوي”، بجولة في أوروبا شملت كلّاً من (أوكرانيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وروسيا) في منتصف مايو الجاري، وهي الجولة التي تهدف إلى الترويج لخطة الصين بشأن تسوية الحرب الأوكرانية، وقد سبق للصين أن نشرت وثيقة مكونة من (12) نقطة في فبراير من العام الجاري، تهدف إلى وضع حد للحرب في أوكرانيا، والدعوة إلى الحوار واحترام سيادة جميع الدول، وهي الوثيقة التي واجهت ردود فعل متباينة من مختلف الأطراف الدولية، ولا سيما الدول الغربية. ويرتبط ذلك بكون الصين قد امتنعت عن إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا حتى تاريخه، وهو ما لقي انتقاداً من دول الغرب، كما قام الرئيس الصيني “شي جين بينج” بزيارة إلى روسيا في مارس من العام الجاري، مقدماً دعماً رمزيّاً لروسيا في مواجهة الدول الغربية.

3. رغبة جنوب أفريقيا في تأكيد دورها وسيطاً محايداً: يرتبط ذلك بتبلور اتهامات لها بأنها انجرفت نحو دعم وتأييد روسيا في حربها ضد أوكرانيا؛ حيث جاء الإعلان عن المبادرة الأفريقية بعد يوم واحد من إعلان رئيس جنوب أفريقيا “رامافوزا” أن بلاده تتعرَّض لـضغوط غير عادية بشأن انحيازها إلى أحد طرفي الصراع؛ وذلك عقب اتهامات وجهت لها من الولايات المتحدة بشأن تزويدها روسيا بالأسلحة سرّاً رغم اتخاذها موقفاً محايداً علناً من نزاعها مع أوكرانيا، وهو ما عبر عنه سفير الولايات المتحدة لدى جنوب أفريقيا “روبن بريجيتي”؛ إذ أكد تقديمها أسلحة وذخيرة عبر سفينة روسية خاضعة لعقوبات، سُمح لها بالرسو في قاعدة بحرية لجنوب أفريقيا في ديسمبر الماضي، وهو ما نفاه المسؤولون في جنوب أفريقيا، وعيَّنوا قاضياً للتحقيق في الواقعة، كما رفضت السفارة الروسية في “بريتوريا” مزاعم السفير الأمريكي، ووصفتها بأنها غير صحيحة على الإطلاق، وتُعَد ذريعة لإجبار جنوب أفريقيا على اتخاذ موقف في صراعها مع أوكرانيا، مع تأكيد أن الأسلحة والذخائر المنتجة محلياً لجنوب أفريقيا ليست مناسبة لاستخدام الجيش الروسي.

وقد عززت بعض الشواهد الأخرى الاتهامات الأمريكية لجنوب أفريقيا في هذا الصدد، وتتمثل في قيام قائد القوات البرية لجنوب أفريقيا بزيارة روسيا لبحث التعاون العسكري في 15 مايو الماضي، وكذلك استضافة جنوب أفريقيا تدريبات بحرية مع روسيا والصين في فبراير الماضي، وسماحها لسفينتين روسيتين خاضعتين للعقوبات باستخدام منشآتها العسكرية؛ وذلك بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا. وكذلك كون جنوب أفريقيا من بين الدول التي امتنعت عن التصويت بشأن قرار أممي يدين الغزو العسكري في أوكرانيا في مارس من العام الماضي. ويضاف إلى ذلك استعداد جنوب أفريقيا لحضور القمة الروسية الأفريقية المقبلة في يوليو 2023 في مدينة “سان بطرسبرج” الروسية.

ويتزامن كل ما سبق مع تبلور حالة من الترقب الدولي بشأن إذا ما كانت جنوب أفريقيا ستحترم مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية للقبض على الرئيس الروسي “بوتين” في حال حضوره الاجتماع القادم لتجمع “بريكس” المزمع عقده في جنوب أفريقيا في أغسطس المقبل، ولا سيما في ضوء وجودها عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وتحفظها بشأن أمر المحكمة المتعلق باعتقال الرئيس الروسي “بوتين”؛ وذلك على خلفية توجيه تهم له تتعلق بارتكاب جرائم حرب في إطار الحرب الروسية–الأوكرانية.

أبعاد مؤثرة

ثمة جملة من الأبعاد المؤثرة المرتبطة بالمبادرة الأفريقية لتسوية الحرب الروسية–الأوكرانية، وتتمثل فيما يلي:

1. تبني الطابع المتعدد الأطراف (الجماعي) في تسوية الحرب: تبلور ذلك في كون هذه المبادرة تم تبنِّيها من قِبل ست دول؛ هي (زامبيا والسنغال وجمهورية الكونغو وأوغندا ومصر وجنوب أفريقيا)؛ وذلك على الرغم من أن جنوب أفريقيا هي التي أعلنت طرح هذه المبادرة للوهلة الأولى عبر رئيسها “سيريل رامافوزا”؛ حيث أكد أن زعماء الدول الأفريقية الأطراف في هذه المبادرة يخططون للسفر إلى كل من روسيا وأوكرانيا؛ وذلك من أجل المساعدة في إيجاد حل للحرب القائمة بين البلدين؛ وذلك خلال مؤتمر إعلامي مع رئيس الوزراء السنغافوري “لي هسين لونج” في “كيب تاون” في 16 مايو الجاري.

كما أكد أيضاً موافقة كل من الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره الأوكراني “زيلينسكي” على استقبال بعثة السلام الأفريقية في عاصمتَي البلدَين، وأنه أجري اتصال هاتفي بالفعل خلال الآونة الأخيرة مع الطرفين من أجل عرض مقترحات البعثة للتسوية السلمية للحرب، بيد أنه لم يتم تحديد جدول زمني للزيارات أو المعايير الحاكمة لمحادثات السلام المحتملة، وكذلك أعلن الرئيس الجنوب الأفريقي أن التركيز الأساسي لهذه البعثة، سينصب بشكل رئيسي على إيجاد حل سلمي للصراع المدمر في أوكرانيا؛ لتفادي وقوع مزيد من الخسائر في الأرواح البشرية والتداعيات السلبية على القارة الأفريقية.

2.  إضفاء الشرعية الكاملة عبر تأييد المنظمات الدولية والإقليمية: تجسد ذلك في ترحيب الأمم المتحدة بهذه المبادرة الأفريقية؛ حيث اطلع الأمين العام على المقترحات المقدمة في إطار هذه المبادرة لتسوية الحرب القائمة، مؤكداً دعمه الكامل لأي جهد دبلوماسي وسياسي يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة الصادر في “سان فرانسيسكو” في عام 1945، وقرارات الجمعية العامة ومجمل قواعد القانون الدولي ذات الصلة، وكذلك اطلع مكتب الاتحاد الأفريقي على تفاصيل هذه المبادرة، وأكد ترحيبه ودعمه الكامل لها، من منظور أنها تعكس نهجاً أفريقيّاً متعدد الأطراف “جماعيّاً” لتسوية الحرب القائمة.

3. تأكيد القدرة الأفريقية على إيجاد حلول للأزمات الدولية: تعكس هذه المبادرة توافر عنصرَي الرغبة والقدرة لأفريقيا بشأن إيجاد تسوية سلمية لواحدة من أهم الأزمات الدولية الملحة المعاصرة منذ انتهاء الحرب الباردة؛حيث سبق أن تبلورت محاولات أفريقية سابقة، لكنها كانت تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، وتبلورت من خلال الاجتماع الذي عقده الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي رئيس السنغال “ماكي سال” مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في منتجع “سوتشي” في 3 يونيو 2022، وأكد من خلاله أن الدول الأفريقية قد وقعت ضحية للحرب على المستوى الاقتصادي، بالرغم من كونها بعيدة عنها من الناحية الجغرافية، وأشار إلى ضرورة التنسيق مع الجانب الأوكراني بشأن إتاحة الحبوب والأسمدة لكي تكون خارج نطاق العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، التي أثرت بشكل سلبي على إمكانية توفير متطلبات الغذاء الرئيسية، ولا سيما الأسمدة اللازمة للزراعة في أفريقيا، وهو ما بات يشكل تهديداً حقيقيّاً للأمن الغذائي.

كما رحب الاتحاد الأفريقي بالاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وأوكرانيا بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا؛ وذلك في 22 يوليو 2022، الذي يقضي بإنهاء الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية، والسماح بتصدير ملايين الأطنان من الحبوب التي فُرض الحصار عليها؛ حيث ينص على إعادة فتح ثلاثة موانئ أوكرانية على الأقل ستنطلق منها السفن عبر البحر الأسود إلى مضيق البوسفور وإلى البحر الأبيض المتوسط، وستتم مراقبة السفن من قِبل مركز تنسيق في “إسطنبول” يعمل به ممثلون لتركيا والأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا، وتم تقديم ضمانات السلامة للسفن والموانئ المشاركة في العملية.

سيناريوهات محتملة

تطرح المبادرة الأفريقية بشأن تسوية الحرب الروسية–الأوكرانية احتمالية السير في أحد السيناريوهين التاليين:

1. نجاح جهود التسوية الأفريقية: يعزز من ذلك كون هذه المبادرة مطروحة من قِبل أطراف أفريقية فعالة ذات ثقل إقليمي ملموس على مستويات عدة في صياغة السياسات الأفريقية المشتركة، كما أن أربع دول من أطراف هذه المبادرة – وهي (جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو والسنغال وأوغندا) – كانت قد امتنعت عن التصويت على قرار أممي يدين الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا في مارس من العام الماضي، ومن ثم فإن حياد هذه الدول سيساعد في دفع مسيرة المحادثات الدبلوماسية بين طرفي الحرب، ويحول دون تحوُّلهم إلى وسطاء بالوكالة، ويضاف إلى ذلك كون أفريقيا لديها رغبة حقيقية في إيجاد تسوية سلمية متوازنة بين طرفَي الحرب؛ وذلك انطلاقاً من تأثيراتها وتداعياتها المتفاقمة على مجمل الأوضاع في أفريقيا، ولا سيما مستوى الأمن الغذائي؛ حيث يأتي أكثر من (44%) من القمح المستهلك في دول القارة من روسيا وأوكرانيا.

2. تعثر جهود التسوية الأفريقية: وهو السيناريو الذي يعد الأكثر ترجيحاً، ولا سيما في ضوء بعض المعطيات الحاسمة الدافعة لذلك، والمرتبطة في الأساس بكون المبادرة الأفريقية قوبلت بدعم حذر من قبل الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك تمسُّك طرفي الحرب بمطالب مسبقة قبل الانخراط في أي عملية تفاوضية فالجانب الأوكراني أوضح أنه سيرفض أي دعوات لإجراء محادثات سلام لا تتضمن الانسحاب أولاً من جميع أراضي أوكرانيا التي سيطرت عليها منذ عام 2014. وعلى الجانب الآخر لم تُظهر روسيا أي بوادر لتقديم تنازلات مع تأكيد ضرورة الاعتراف بضم روسيا شبه جزيرة القرم ومقاطعات “دونيتسك” و”خيرسون” و”لوهانسك” وزابوروجيا” الأوكرانية، وهي الخطوة التي وصفتها معظم الدول بأنها غير شرعية. ويضاف إلى ما سبق إعلان الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” أن محادثات السلام غير ممكنة في الوقت الحالي بين الطرفين.

وختاماً، يمكن القول بأن المبادرة الأفريقية لتسوية الحرب الروسية–الأوكرانية تشكل إحدى المحاولات لإلقاء حجر في المياه الراكدة؛ لوقف المواجهات العسكرية الدائرة منذ نحو (15) شهراً. وتُعَد هذه المبادرة ذات أهمية خاصة لأفريقيا؛ فعلى الرغم من عدم وجود تداعيات مباشرة للحرب على أفريقيا في صورة وفيات أو تدمير للبنية التحتية بحكم أنها بعيدة من الناحية الجغرافية عن مسرح الأحداث العملياتية، غير أن لها تأثيرات غير مباشرة متعلقة بالأمن الغذائي في الأساس؛ حيث أدت أعمال الحرب إلى قفزات كبيرة في أسعار الأسمدة والحبوب والوقود، وهو ما أدى إلى ارتفاع التكاليف المعيشية للأفراد على نحو شكل تهديداً للسلام المجتمعي. وتتوقف فاعلية هذه المبادرة على ما ستقدمه من أطروحات متوازنة بين طرفَي الحرب من جانب، ومدى توافر الإرادة السياسية الحقيقية للطرفين للاستجابة لها.